قوله تعالى : { ذلك الذي } ذكرت من نعيم الجنة ، { يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فإنهم أهله ، { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد ابن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة قال : سمعت طاوساً عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه سئل عن قوله : { إلا المودة في القربى } قال سعيد بن جبير : قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : عجلت ، إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة ، فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة . وكذلك روى الشعبي و طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :( إلا المودة في القربى ) يعني : أن تحفظوا قرابتي وتودوني وتصلوا رحمي . وإليه ذهب مجاهد ، وقتادة ، وعكرمة ، ومقاتل ، والسدي ، والضحاك ، رضي الله عنهم . وقال عكرمة : لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجراً إلا أن تحفظوني في قرابتي بيني وبينكم ، وليس كما يقول الكاذبون . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في معنى الآية : إلا أن تودوا الله وتتقربوا إليه بطاعته ، وهذا قول الحسن ، قال : هو القربى إلى الله ، يقول : إلا التقرب إلى الله والتودد إليه بالطاعة والعمل الصالح . وقال بعضهم : معناه إلا أن تودوا قرابتي وعترتي وتحفظوني ، وهو قول سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب . واختلفوا في قرابته فقيل : فاطمة الزهراء وعلي وابناهما ، وفيهم نزل : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } ( الأحزاب-32 ) . وروينا عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " . قيل : لزيد بن أرقم : من أهل بيته ؟ قال : هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، حدثنا خالد ، حدثنا شعبة عن واقد قال : سمعت أبي يحدث عن ابن عمر عن أبي بكر قال : ارقبوا محمداً في أهل بيته . وقيل : هم الذين تحرم عليهم الصدقة من أقاربه ويقسم فيهم الخمس ، وهم بنو هاشم ، وبنو المطلب ، الذين لم يتفرقوا في جاهلية ولا في إسلام . وقال قوم : هذه الآية منسوخة وإنما نزلت بمكة ، وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله هذه الآية فأمرهم فيها بمودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصلة رحمه ، فلما هاجر إلى المدينة وآواه الأنصار ونصروه أحب الله عز وجل أن يلحقه بإخوانه من الأنبياء عليهم السلام حيث قالوا : { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين } ( الشعراء-109 ) فأنزل الله تعالى : { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله } ، فهي منسوخة بهذه الآية ، وبقوله : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكفلين } ( ص-86 ) ، وغيرها من الآيات . وإلى هذا ذهب الضحاك بن مزاحم ، والحسين بن الفضل . وهذا قول غير مرضي ، لأن مودة النبي صلى الله عليه وسلم وكف الأذى عنه ومودة أقاربه ، والتقرب إلى الله بالطاعة ، والعمل الصالح من فرائض الدين ، وهذه أقاويل السلف في معنى الآية ، فلا يجوز المصير إلى نسخ شيء من هذه الأشياء . وقوله : ( إلا المودة في القربى ) ، ليس باستثناء متصل بالأول حتى يكون ذلك أجراً في مقابلة أداء الرسالة ، بل هو منقطع ، ومعناه : ولكني أذكركم المودة في القربى وأذكركم قرابتي منكم ، كما روينا في حديث زيد بن أرقم : " أذكركم الله في أهل بيتي " . قوله عز وجل : { ومن يقترف حسنةً نزد له فيها حسناً } أي : من يكتسب طاعة نزد له فيها حسناً بالتضعيف ، { إن الله غفور } للذنوب ، { شكور } للقليل حتى يضاعفها .
{ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : هذه البشارة العظيمة ، التي هي أكبر البشائر على الإطلاق ، بشر بها الرحيم الرحمن ، على يد أفضل خلقه لأهل الإيمان والعمل الصالح ، فهي أجل الغايات ، والوسيلة الموصلة إليها أفضل الوسائل .
{ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي : على تبليغي إياكم هذا القرآن ودعوتكم إلى أحكامه . { أَجْرًا } فلست أريد أخذ أموالكم ، ولا التولي عليكم والترأس ، ولا غير ذلك من الأغراض { إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }
يحتمل أن المراد : لا أسألكم عليه أجرا إلا أجرا واحدا هو لكم ، وعائد نفعه إليكم ، وهو أن تودوني وتحبوني في القرابة ، أي : لأجل القرابة . ويكون على هذا المودة الزائدة على مودة الإيمان ، فإن مودة الإيمان بالرسول ، وتقديم محبته على جميع المحاب بعد محبة الله ، فرض على كل مسلم ، وهؤلاء طلب منهم زيادة على ذلك أن يحبوه لأجل القرابة ، لأنه صلى الله عليه وسلم ، قد باشر بدعوته أقرب الناس إليه ، حتى إنه قيل : إنه ليس في بطون قريش أحد ، إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيه قرابة .
ويحتمل أن المراد إلا مودة الله تعالى الصادقة ، وهي التي يصحبها التقرب إلى الله ، والتوسل بطاعته الدالة على صحتها وصدقها ، ولهذا قال : { إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } أي : في التقرب إلى الله ، وعلى كلا القولين ، فهذا الاستثناء دليل على أنه لا يسألهم عليه أجرا بالكلية ، إلا أن يكون شيئا يعود نفعه إليهم ، فهذا ليس من الأجر في شيء ، بل هو من الأجر منه لهم صلى الله عليه وسلم ، كقوله تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } وقولهم : " ما لفلان ذنب عندك ، إلا أنه محسن إليك "
{ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً } من صلاة ، أو صوم ، أو حج ، أو إحسان إلى الخلق { نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا } بأن يشرح الله صدره ، وييسر أمره ، وتكون سببا للتوفيق لعمل آخر ، ويزداد بها عمل المؤمن ، ويرتفع عند الله وعند خلقه ، ويحصل له الثواب العاجل والآجل .
{ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } يغفر الذنوب العظيمة ولو بلغت ما بلغت عند التوبة منها ، ويشكر على العمل القليل بالأجر الكثير ، فبمغفرته يغفر الذنوب ويستر العيوب ، وبشكره يتقبل الحسنات ويضاعفها أضعافا كثيرة .
واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - : { ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } .
أى : ذلك الفضل الكبير ، هو البشارة العظمى ؛ والعطاء الجزيل ، الذى يمنحه الله - تعالى - يوم القيامة لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
قال الآلوسى قوله : { ذَلِكَ } أى : الفضل الكبير ، أو الثواب المفهوم من السياق ، هو { الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أى : يبشر به فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول ، كما هو عادتهم فى التدريج فى الحذف ولا مانع من حذفهما دفعة .
وجوز كون { ذَلِكَ } إشارة إلى التبشير المفهوم من " يبشر " . أى : ذلك التبشير يبشره الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم - أن يؤكد لأولئك المشركين من قومه ، أنه لا يسألهم أجرا على دعوته ، وإنما يسألهم المودة والمعاملة الحسنة لقرابته منهم فقال : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى } .
والضمير المجرور فى { عَلَيْهِ } يعود إلى التبليغ والتبشير والإِنذار الذى يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - معهم { القربى } مصدر كالقرابة والخطاب لكفار قريش .
وللعلماء فى تفسير هذه الآية أقوال : أولها : أن المراد بالقربى : الصلة والقرابة التى تربط بين الرسول وبين كفار قريش .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الكافرين إنى لا اسألكم على التبليغ أجرا ، لكن أسألكم أن تودونى لقرابتى فيكم ، فتكفوا عنى أذاكم ، وتمنعوا عنى أذى غيركم ، وتستجيبوا لدعوتى ، فإن صلة القرابة والرحم التى بينى وبينكم توجب عليكم ذلك .
فالقربى هنا : بمعنى القرابة وصلة الرحم . و { فِي } للسببية بمعنى لام التعليل كما جاء فى الحديث الشريف : " دخلت امرأة النار فى هرة " .
ولا شك أن منع أذاهم عنه - صلى الله عليه وسلم - بسبب قرابته فيهم ليس أجرا .
وثانيها : أن المراد بالقربى : هنا : أقاربه وعشيرته وعترته فيكون المعنى لا أسألكم أجرا على دعوتى لكم إلى الخير والحق ، ولكن أسألكم أن تحفظونى فى قرابتى وأهل بيتى ، بأن تحسنوا إليهم ولا تؤذوهم بأى نوع من الأذى .
ولا شك - أيضا - أن إحسانهم إلى أقاربه ، ليس أجرا منهم له على ذلك لأن الإِحسان إلى الناس ، شئ قررته جميع الشرائع وتقتضيه مكارم الأخلاق .
وثالثها : أن المراد بالقربى هنا : التقرب إلى الله - تعالى - بالإِيمان والعمل الصالح .
أى : لا أسألكم على التبليغ أجرا ، ولكن أسألكم أن تتقربوا إلى الله - تعالى - بما يرضيه بأن تتركوا الكفر والفسوق والعصيان ، وتدخلوا فى الإِيمان والطاعة لله - تعالى - .
وهذا الذى طلبه منهم ، ليس أجرا على التبليغ ، لأن التقرب إلى الله بالطاعات فرض عليهم . وقد رجح العلماء القول الأول ، واستدلوا على هذا الترجيح بأحاديث منها : ما رواه البخارى عن ابن عباس أن سئل عن معنى قوله - تعالى - { إِلاَّ المودة فِي القربى } ، فقال سعيد بن جبير : " قربى آل محمد " فقال ابن عباس : عَجِلت . إن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة . فقال : إلا أن تصلوا ما بينى وبينكم من القرابة .
وقال ابن كثير بعد أن ساق هذا الحديث وغيره ، وبهذا الرأى قال مجاهد وعكرمة ، وقتادة ، والسدى ، وأبو مالك ، وعبد الرحمن بن زيد ، وغيرهم .
وقال الإِمام ابن جرير - بعد أن ساق هذه الأقوال فى ذلك بالصواب ، وأشببها بظاهر التنزيل ، قول من قال معناه : لا أسألكم عليه أجرا يا معشر قريش ، إلا أن تودونى فى قرابتى منكم ، وتصلوا الرحم حتى بينى وبينكم .
وإنما قلت هذا التأويل أولى بتأويل الآية ، لدخول { فِي } فى قوله : { إِلاَّ المودة فِي القربى } .
ولو كان معنى ذلك على ما قاله من قال إلا أن تودوا قرابتى ، أو تتقربوا إلى الله ، لم يكن لدخول { فِي } فى الكلام فى هذا الموضع وجه معروف ولكان التنزيل إلا مودة القربى ، إن عنى به الأمر بمودة قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إلا المودة بالقربى إن عنى به الأمر بالتودد والتقرب إلى الله - تعالى - .
وفى دخول { فِي } فى الكلام أوضح الدليل على أن معناه إلا مودتى فى قرابتى منكم .
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على عباده فقال : { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ } .
وقوله { يَقْتَرِفْ } من القرف بفتح إلى الله تعالى ، نضاعف له - بفضلنا وإحساننا - ثوابها ، إن الله تعالى واسع المغفرة لعباده . كثير الشكر للطائعين بأن يعطيهم من فضله أكثر مما يستحقون ويرجون .
( ذلك الذي يبشر الله عباده )فهو بشرى حاضرة ، مصداقاً للبشرى السالفة . وظل البشرى هنا هو أنسب الظلال .
وعلى مشهد هذا النعيم الرخاء الجميل الظليل يلقن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يقول لهم : إنه لا يطلب منهم أجراً على الهدى الذي ينتهي بهم إلى هذا النعيم ، وينأى بهم عن ذلك العذاب الأليم . إنما هي مودته لهم لقرابتهم منه ، وحسبه ذلك أجراً :
( قل : لا أسألكم عليه أجرا . إلا المودة في القربى . ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا . إن الله غفور شكور ) . .
والمعنى الذي أشرت إليه ، وهو أنه لا يطلب منهم أجرا ، إنما تدفعه المودة للقربى - وقد كانت لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قرابة بكل بطن من بطون قريش - ليحاول هدايتهم بما معه من الهدى ، ويحقق الخير لهم إرضاء لتلك المودة التي يحملها لهم ، وهذا أجره وكفى !
هذا المعنى هو الذي انقدح في نفسي وأنا أقرأ هذا التعبير القرآني في مواضعه التي جاء فيها . وهناك تفسير مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أثبته هنا لوروده في صحيح البخاري :
قال البخاري حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة ، قال :
سمعت طاووسا يحدث عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سأل عن قوله تعالى : ( إلا المودة في القربى )فقال سعيد بن جبير : " قربى آل محمد . فقال ابن عباس : عجلت . إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن بطن من بطون قريش إلا كان له فيهم قرابة . فقال : " إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة " .
ويكون المعنى على هذا : إلا أن تكفوا أذاكم مراعاة للقرابة . وتسمعوا وتلينوا لما أهديكم إليه . فيكون هذا هو الأجر الذي أطلبه منكم لا سواه .
وتأويل ابن عباس - رضي الله عنهما - أقرب من تأويل سعيد بن جبير - رضي الله عنه - ولكنني ما أزال أحس أن ذلك المعنى أقرب وأندى . . والله أعلم بمراده منا .
وعلى أية حال فهو يذكرهم - أمام مشهد الروضات والبشريات - أنه لا يسألهم على شيء من هذا أجراً . ودون هذا بمراحل يطلب عليه الأدلاء أجرا ضخماً ! ولكنه فضل الله الذي لا يحاسب العباد حساب التجارة ، ولا حساب العدل ، ولكن حساب السماحة وحساب الفضل :
( ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ) . .
فليس هو مجرد عدم تناول الأجر . بل إنها الزيادة والفضل . . ثم هي بعد هذا كله المغفرة والشكر :
الله يغفر . ثم . . الله يشكر ويشكر من ? يشكر لعباده . وهو وهبهم التوفيق على الإحسان . ثم هو يزيد لهم في الحسنات ، ويغفر لهم السيئات . ويشكر لهم بعد هذا وذاك . . فيا للفيض الذي يعجز الإنسان عن متابعته . فضلاً على شكره وتوفيته !
يقول تعالى لما ذكر روضات الجنة ، لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات : { ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : هذا حاصل لهم كائن لا محالة ، ببشارة الله لهم به .
وقوله : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش : لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم ما لا تعطونيه ، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات{[25814]} ربي ، إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة .
قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة قال : سمعت طاوسا{[25815]} عن ابن عباس : أنه سئل عن قوله تعالى : { إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } فقال سعيد بن جبير : قربى آل محمد . فقال ابن عباس : عَجِلْتَ إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة ، فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة . انفرد به البخاري{[25816]} .
ورواه الإمام أحمد ، عن يحيى القطان ، عن شعبة به . وهكذا روى عامر الشعبي ، والضحاك ، وعلي بن أبي طلحة ، والعَوْفي ، ويوسف بن مِهْران وغير واحد ، عن ابن عباس ، مثله . وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي ، وأبو مالك ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني {[25817]} حدثنا هاشم بن يزيد الطبراني وجعفر القلانسي قالا حدثنا آدم بن أبي أياس ، حدثنا شريك ، عن خُصَيف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تَوَدّوني في نفسي لقرابتي منكم ، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم " {[25818]} .
وروى الإمام أحمد ، عن حسن بن موسى : حدثنا قَزَعَة يعني ابن سُوَيد - وابن أبي حاتم - عن أبيه ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن قَزَعة بن سويد - عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا ، إلا أن تُوَادوا الله ، وأن تقربوا إليه بطاعته " {[25819]} .
وهكذا روى قتادة عن الحسن البصري ، مثله .
وهذا كأنه تفسير بقول ثان ، كأنه يقول : { إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } أي : إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى .
وقول ثالث : وهو ما حكاه البخاري وغيره ، رواية عن سعيد بن جبير ، ما معناه أنه قال : معنى ذلك أن تودوني في قرابتي ، أي : تحسنوا إليهم وتبروهم .
وقال السدي ، عن أبي الديلم قال : لما جيء بعلي بن الحسين أسيرا ، فأقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم ، وقطع قرني الفتنة . فقال له علي بن الحسين : أقرأت القرآن ؟ قال : نعم . قال : أقرأت آل حم ؟ قال : قرأت القرآن ، ولم أقرأ آل حم . قال : ما قرأت : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } ؟ قال : وإنكم أنتم{[25820]} هم ؟ قال : نعم .
وقال : أبو إسحاق السَّبِيعيّ : سألت عمرو بن شعيب عن قوله تعالى : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } فقال : قربى النبي صلى الله عليه وسلم . رواهما ابن جرير{[25821]} .
ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا عبد السلام ، حدثني يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : قالت الأنصار : فعلنا وفعلنا ، وكأنهم فخروا فقال ابن عباس - أو : العباس ، شك عبد السلام - : لنا الفضل عليكم . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم فقال : " يا معشر الأنصار ، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي ؟ " قالوا : بلى ، يا رسول الله . قال : ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله قال : " أفلا تجيبوني ؟ " قالوا : ما نقول يا رسول الله ؟ قال : " ألا تقولون : ألم يخرجك قومك فآويناك ؟ أو لم يكذبوك فصدقناك ؟ أو لم يخذلوك فنصرناك " ؟ قال : فما زال يقول حتى جثوا على الركب ، وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله . قال : فنزلت : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } {[25822]} .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن علي بن الحسين ، عن عبد المؤمن بن علي ، عن عبد السلام ، عن يزيد بن أبي زياد - وهو ضعيف - بإسناده مثله ، أو قريبا منه .
وفي الصحيحين - في قسم غنائم حنين - قريب من هذا السياق ، ولكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية . وذكْرُ نزولها في المدينة فيه نظر ؛ لأن السورة مكية ، وليس يظهر بين هذه الآية الكريمة وبين السياق مناسبة ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا رجل سماه ، حدثنا حسين الأشقر ، عن قيس ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير{[25823]} عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } قالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم ؟ قال : " فاطمة وولدها ، عليهم السلام " {[25824]} .
وهذا إسناد {[25825]} ضعيف ، فيه مبهم لا يعرف ، عن شيخ شيعي مُتَخَرّق{[25826]} ، وهو حسين الأشقر ، ولا يقبل خبره في هذا المحل . وذكر نزول هذه الآية في المدينة بعيد ؛ فإنها مكية ولم يكن إذ ذاك لفاطمة أولاد بالكلية ، فإنها لم تتزوج بعلي إلا بعد بدر من{[25827]} السنة الثانية من الهجرة .
والحق تفسير الآية بما فسرها به الإمام حَبرُ الأمة ، وترجمان القرآن ، عبد الله بن عباس ، كما رواه عنه البخاري [ رحمه الله ] {[25828]} ولا تنكر الوصاة{[25829]} بأهل البيت ، والأمر بالإحسان إليهم ، واحترامهم وإكرامهم ، فإنهم من ذرية طاهرة ، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض ، فخرًا وحسبًا ونسبًا ، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية ، كما كان عليه سلفهم ، كالعباس وبنيه ، وعلي وأهل بيته وذريته ، رضي الله عنهم أجمعين .
و [ قد ثبت ] {[25830]} في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بغَدِير خُمّ : " إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ، وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض " {[25831]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث {[25832]} ، عن العباس بن عبد المطلب قال : قلت : يا رسول الله ، إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن ، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها ؟ قال : فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا ، وقال : " والذي نفسي بيده ، لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله " {[25833]} .
ثم قال أحمد {[25834]} حدثنا جرير ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد المطلب بن ربيعة قال : دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنا لنخرج فنرى قريشا تُحدث ، فإذا رأونا
سكتوا . فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودَرّ عِرْق بين عينه{[25835]} ، ثم قال : " والله لا يدخل قلب امرئ {[25836]} إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي " {[25837]} .
وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، حدثنا خالد ، حدثنا شعبة ، عن واقد قال : سمعتُ أبي يحدّث {[25838]} عن ابن عمر ، عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، قال : ارقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته{[25839]} .
وفي الصحيح : أن الصديق قال لعلي ، رضي الله عنهما : والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي{[25840]} {[25841]} .
وقال عمر بن الخطاب للعباس ، رضي الله عنهما : والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليَّ من إسلام الخطاب لو أسلم ؛ لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب .
فحال الشيخين ، رضي الله عنهما ، هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك ؛ ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين ، رضي الله عنهما ، وعن سائر الصحابة أجمعين .
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن أبي حَيّان التيمي ، حدثني يزيد ابن حيان قال : انطلقت أنا وحُسَيْن بن مَيْسَرة ، وعمر{[25842]} بن مسلم إلى زيد {[25843]} بن أرقم ، فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيتَ يا زيد {[25844]} خيرا كثيرا ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسمعت حديثه وغزوت معه ، وصليت معه . لقد رأيت يا زيد خيرا كثيرا . حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : يا ابن أخي ، والله كَبُرت{[25845]} سني ، وقدم عهدي ، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما حدثتكم فاقبلوه ، وما لا فلا تُكَلّفونيه . ثم قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطيبًا فينا ، بماء يدعى خُمّا - بين مكة والمدينة - فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر ووعظ ، ثم قال : " أما بعد ، ألا أيها الناس ، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وإني تارك فيكم الثقلين ، أولهما : كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله ورغب فيه ، وقال : " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : إن نساءه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حُرم الصدقة بعده قال : ومن هم ؟ قال : هم آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل العباس ، قال : أكل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال : نعم .
وهكذا رواه مسلم [ في فضائل ] {[25846]} والنسائي من طرق عن يزيد بن حَيّان به{[25847]} .
وقال أبو عيسى الترمذي {[25848]} حدثنا علي بن المنذر الكوفي ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد - والأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن زيد بن أرقم - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من {[25849]} السماء إلى الأرض ، والآخر عترتي : أهل بيتي ، ولن يَتَفَرَّقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما "
تفرد بروايته الترمذي{[25850]} ثم قال : هذا حديث حسن غريب .
وقال الترمذي أيضا {[25851]} حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي ، حدثنا زيد بن الحسن ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله {[25852]} قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة ، وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : " يا أيها الناس ، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله ، وعترتي : أهل بيتي "
تفرد به الترمذي أيضا{[25853]} ، وقال : حسن غريب . وفي الباب عن أبي ذر ، وأبي سعيد ، وزيد بن أرقم ، وحذيفة بن أسيد .
ثم قال الترمذي : حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث ، حدثنا يحيى بن مَعِين ، حدثنا هشام بن يوسف ، عن عبد الله بن سليمان النوفلي ، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عباس{[25854]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحبوا الله لما يغذوكم{[25855]} من نعمه ، وأحبوني{[25856]} بحب الله ، وأحبوا أهل بيتي بحبي "
ثم قال{[25857]} حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه{[25858]} .
وقد أوردنا أحاديث أُخَر عند قوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [ الأحزاب : 33 ] {[25859]} ، بما أغنى عن إعادتها هاهنا ، ولله الحمد والمنة .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سويد بن سَعِيد ، حدثنا مفضل بن عبد الله ، عن أبي إسحاق ، عن حَنَش قال : سمعت أبا ذر وهو آخذ بحلقة الباب يقول : يا أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن أنكرني فأنا أبو ذر ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما مثل أهل بيتي فيكم مَثَل سفينة نوح ، من دخلها نجا ، ومن تخلف عنها هلك " {[25860]} .
وقوله : { وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا } أي : ومن يعمل حسنة { نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا } أي : أجرا وثوابا ، كقوله { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 40 ] .
وقال بعض السلف : [ إن ] {[25861]} من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، ومن جزاء السيئة( السيئة ) بعدها .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } أي : يغفر الكثير من السيئات ، ويكثر القليل من الحسنات ، فيستر ويغفر ، ويضاعف فيشكر .