البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ذَٰلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِۗ قُل لَّآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ وَمَن يَقۡتَرِفۡ حَسَنَةٗ نَّزِدۡ لَهُۥ فِيهَا حُسۡنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ شَكُورٌ} (23)

وقرأ الجمهور : { يبشر } بتشديد الشين ، من بشر ؛ وعبد الله بن يعمر ، وابن أبي إسحق ، والجحدري ، والأعمش ، وطلحة في رواية ، والكسائي ، وحمزة : يبشر ثلاثياً ؛ ومجاهد ، وحميد بن قيس : بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر ، وهو معدى بالهمزة من بشر اللازم المكسور الشين .

وأما بشر بفتحها فمتعد ، وبشر يالتشديد للتكثير لا للتعدية ، لأن المتعدي إلى واحد ، وهو مخفف ، لا يعدى بالتضعيف إليه ؛ فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية .

{ ذلك } : إشارة إلى ما أعد لهم من الكرامة ، وهو مبتدأ خبره الموصول والعائد عليه محذوف ، أي يبشر الله به عباده .

وقال الزمخشري : أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده . انتهى .

ولا يظهر الوجه ، إذ لم يتقدم في هذه السورة لفظ البشرى ، ولا ما يدل عليها من تبشير أو شبهه .

ومن النحويين من جعل الذي مصدرية ، حكاه ابن مالك عن يونس ، وتأويل عليه هذه الآية ، أي ذلك تبشير الله عباده ، وليس بشيء ، لأنه إثبات للاشتراك بين مختلفي الحد بغير دليل .

وقد ثبتت اسمية الذي ، فلا يعدل عن ذلك بشيء لا يقوم به دليل ولا شبهة .

{ قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى } .

روي أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم ، فقال بعضهم لبعض : أترون محمداً يسأل أجراً على ما يتعاطاه ؟ فنزلت .

وروي أن الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال جمعوه وقالوا : يا رسول الله ، هدانا الله بك ، وأنت ابن أختنا ، وتعروك حقوق وما لك سعة ، فاستعن بهذا على ما ينوبك ، فنزلت الآية ، فردّه .

وقيل : الخطاب متوجه إلى قريش حين جمعوا له مالاً وأرادوا أن يرشوه عليهم على أن يمسك عن سب آلهتهم ، فلم يفعل ، ونزلت .

فالمعنى : «لا أسألكم مالاً ولا رياسة ، ولكن أسألكم أن ترعوا حق قرابتي وتصدقوني فيما جئتكم به ، وتمسكوا عن أذيتي وأذية من تبعني » ، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو مالك والشعبي وغيرهم .

قال الشعبي : أكثر الناس علينا في هذه الآية ، فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عنها ، فكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوسط الناس في قريش ، ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده ، فقال الله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودّوني في قرابتي منكم ، فارعوا ما بيني وبينكم وصدقوني .

وقال عكرمة : وكانت قريش تصل أرحامها .

وقال الحسن : المعنى إلا أن تتودّدوا إلى الله بالتقرّب إليه .

وقال عبد الله بن القاسم : إلا أن يتودّد بعضكم إلى بعض وتصلوا قراباتكم .

روي أن شباباً من الأنصار فاخروا المهاجرين وصالوا بالقول ، فنزلت على معنى : أن لا تؤذوني في قرابتي وتحفظوني فيهم .

وقال بهذا المعنى عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، واستشهد بالآية حين سيق إلى الشام أسيراً ، وهو قول ابن جبير والسدي وعمرو بن شعيب ، وعلى هذا التأويل قال ابن عباس : قيل يا رسول الله : من قرابتك الذين أمرنا بمودّتهم ؟ فقال : " عليّ وفاطمة وابناهما "

وقيل : هم ولد عبد المطلب .

والظاهر أن قوله : { إلا المودّة } استثناء منقطع ، لأن المودّة ليست أجراً .

وقال الزمخشري : يجوز أن يكون استثناء متصلاً ، أي لا أسألكم عليه أجراً إلا هذا أن تودّوا أهل قرابتي ، ولم يكن هذا أجراً في الحقيقة ، لأن قرابته قرابتهم ، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة .

وقال : فإن قلت : هلا قيل إلا مودّة القربى ، أو إلا المودّة للقربى ؟ قلت : جعلوا مكاناً للمودة ومقرّاً لها ، كقولك : لي في آل فلان مودّة ، ولي فيهم هوى وحب شديد ، تريد : أحبهم وهم مكان حبي ومحله .

وليست في صلة للمودّة كاللام ، إذا قلت إلا المودّة للقربى ، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس ، وتقديره : إلا المودّة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها .

انتهى ، وهو حسن وفيه تكثير .

وقرأ زيد بن عليّ ؛ إلا مودّة ؛ والجمهور : إلا المودّة .

{ ومن يقترف حسنة } : أي يكتسب ، والظاهر عموم الحسنة عموم البدل ، فيندرج فيها المودّة في القربى وغيرها .

وعن ابن عباس والسدي ، أنها المودّة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقرأ الجمهور : { نزد } بالنون ؛ وزيد بن عليّ ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، وأحمد بن جبير عن الكسائي : يزد بالياء ، أي يزد الله .

والجمهور : { حسناً } بالتنوين ؛ وعبد الوارث عن أبي عمرو : حسنى بغير تنوين ، على وزن رجعى ، وزيادة حسنها : مضاعفة أجرها .

{ إن الله غفور } : ساتر عيوب عباده ، { شكور } : مجاز على الدقيقة ، لا يضيع عنده عمل العامل .

وقال السدي : غفور لذنوب آل محمد عليه السلام ، شكور لحسناتهم .