السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ذَٰلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِۗ قُل لَّآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ وَمَن يَقۡتَرِفۡ حَسَنَةٗ نَّزِدۡ لَهُۥ فِيهَا حُسۡنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ شَكُورٌ} (23)

وقوله تعالى : { ذلك } أي : الجزاء العظيم من الجنة ونعيمها مبتدأ خبره { الذي يبشر الله } أي : الملك الأعظم والعائد وهو به محذوف تفخيماً للمبشر به لأن السياق لتعظيمه بالإشارة ويجعلها بأداة البعد وبالوصف بالذي وذكر الاسم الأعظم والتعبير بلفظ العباد في قوله تعالى { عباده } مع الإضافة إلى ضميره سبحانه .

ولما أشعر بصلاحهم بالإضافة نص عليه بقوله تعالى : { الذين آمنوا } أي : صدقوا بالغيب { وعملوا } تحقيقاً لإيمانهم { الصالحات } قرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين مشددة ، والباقون بفتح الياء وسكون الباء الموحدة وضم الشين مخففة من بشره .

ولما كان كأنه قيل : فما نطلب في هذه البشارة لأن الغالب أن المبشر وإن لم يسأل يعطى بشارته ، كما وقع لكعب لما أذن الله تعالى بتوبته ركض راكض على فرس وسعى ساع على رجليه فأوفى على جبل سلع ونادى : يا كعب بن مالك أبشر فقد تاب الله عليك فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءه الذي سمع صوته خلع عليه ثوبيه وهو لا يملك يومئذ غيرهما واستعار له ثوبين قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قل } أي : لمن توهم فيك ما جرت به عادة المبشرين { لا أسألكم } أي : الآن ولا في مستقبل الزمان { عليه } أي : البلاغ بشارة أو نذارة { أجراً } أي : وإن قل { إلا } أي : لكن أسألكم { المودة } أي : المحبة العظيمة الواسعة { في القربى } أي : مظروفة فيها بحيث تكون القربى موضعاً للمودة وظرفاً لها لا يخرج شيء من محبتكم عنها .

تنبيه : في الآية ثلاثة أقوال ؛ أولها : قال الشعبي : أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فكتب ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وسط النسب من قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده ، وكان له فيهم قرابة فقال الله عز وجل { قل لا أسألكم عليه أجراً } على ما أدعوكم إليه إلا أن تودوا القربى ، أي : تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة والمعنى : أنكم قربى وأحق من أجابني وأطاعني فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى وصلوا رحمي ولا تؤذوني ، وإلى هذا ذهب مجاهد وقتادة وغيرهما .

ثانيها : روى الكلبي عن ابن عباس : «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كانت تنوبه نوائب وحقوق وليس في يده سعة » فقالت الأنصار : «إن هذا الرجل هداكم وهو ابن أخيكم وجاركم في بلدكم فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا ثم أتوه بها فردها عليهم » ونزل قوله تعالى { قل لا أسألكم عليه } أي : على الإيمان أجراً إلا المودة في القربى أي : لا تؤذوا قرابتي وعترتي واحفظوني فيهم قاله سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب .

ثالثها : قال الحسن : معناه إلا أن توادوا الله تعالى وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح ، فالقربى على القول الأول : القرابة التي بمعنى الرحم وعلى الثاني : بمعنى الأقارب وعلى الثالث : فعلى بمعنى القرب والتقرب والزلفى ، فإن قيل : طلب الأجر على تبليغ الوحي لا يجوز لوجوه ؛ أحدها : أنه تعالى حكى عن أكثر الأنبياء التصريح بنفي طلب الأجر فقال تعالى في قصة نوح : { وما أسألكم عليه من أجر } ( الفرقان : 57 ) الآية ، وكذا في قصة هود وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام ، ورسولنا أفضل الأنبياء فأن لا يطلب الأجر على النبوة والرسالة أولى ، ثانيها : أنه صلى الله عليه وسلم صرح بنفي طلب الأجر فقال : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } و{ قل ما سألتكم من أجر فهو لكم } ( سبأ : 47 ) ثالثها : أن التبليغ كان واجباً عليه قال تعالى : { بلّغ ما أُنزل إليك من ربك } ( المائدة : 67 ) الآية وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بأقل الناس فضلاً عن أعلم العلماء .

رابعها : أن النبوة أفضل من الحكمة وقال تعالى : { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } ( البقرة : 269 ) ووصف الدنيا بأنها متاع قليل قال تعالى { قل متاع الدنيا قليل } ( النساء : 77 ) فكيف يحسن بالعقل مقابلة أشرف الأنبياء بأخس الأشياء ، خامسها : أن طلب الأجر يوجب التهمة وذلك ينافي القطع بصحة النبوة ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب أجراً البتة على التبليغ والرسالة وههنا قد ذكر ما يجري مجرى طلب الأجر وهو المودة في القربى ؟ أجيب : بأنه لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على التبليغ وأما قوله تعالى : { إلا المودة في القربى } فالجواب عنه من وجهين ؛ الأول : أن هذا من باب قوله :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

يعني : أني لا أطلب منكم إلا هذا وهذا في الحقيقة ليس أجراً لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب قال تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } ( التوبة : 71 ) وقال صلى الله عليه وسلم : «المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضاً » . والآيات والأخبار في هذا كثيرة ، وإذا كان حصول المودة بين المسلمين واجباً فحصولها في حق أشرف المرسلين أولى فقوله : { إلا المودة في القربى } تقديره : والمودة في القربى ليست أجراً ، فرجع الحاصل إلى أنه لا أجر البتة . الثاني : أن هذا استثناء منقطع كما مر تقديره في الآية وتم الكلام عند قوله { قل لا أسألكم عليه أجراً } ثم قال : { إلا المودة في القربى } أي : أذكركم قرابتي فيكم فكأنه في اللفظ أجر وليس بأجر واختلفوا في قرابته صلى الله عليه وسلم فقيل : هم فاطمة وعلي وأبناؤهما ، وفيهم نزل { إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } ( الأحزاب : 33 ) ، وروى زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إني تارك فيكم كتاب الله وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي » . قيل لزيد بن أرقم فمن أهل بيتي ؟ فقال : هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس . وروى ابن عمر عن أبي بكر رضي الله عنه قال : ارقبوا محمداً في أهل بيته وقيل : هم الذين تحرم عليهم الصدقة من أقاربه ويقسم فيهم الخمس وهم بنو هاشم وبنو المطلب الذين لم يفترقوا جاهلية ولا إسلاماً ، وقيل : هذه الآية منسوخة وإليه ذهب الضحاك بن مزاحم والحسين بن الفضل ، قال البغوي : وهذا قول غير مرضي لأن مودة النبي صلى الله عليه وسلم وكف الأذى عنه ومودة أقاربه والتقرب إلى الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح من فرائض الدين .

ولما كان التقدير فمن يقترف سيئة فعليه وزرها ولكنه طوى لأن المقام للبشارة كما يدل عليه ختم الآية عطف عليه قوله تعالى { ومن يقترف } أي : يكتسب ويخالط ويعمل بجد واجتهاد وتعمد وعلاج { حسنة } أي : ولو صغرت { نزد } بما لنا من العظمة { له فيها } أي : في الحسنة { حسناً } أي : بمضاعفة الثواب من الزيادة أن يكون له مثل أجر من اقتدى به فيها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيء ، قيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقيل : المراد بها العموم في أي : حسنة كانت إلا أنها لما ذكرت عقب ذكر المودة في القربى دل ذلك على أن المقصود التأكيد في تلك المودة { إن الله } أي : الذي لا يتعاظمه شيء { غفور } لكل ذنب تاب منه صاحبه وكان غير الشرك وإن لم يتب منه إن شاء فلا يصدن أحداً سيئة عملها عن الإقبال على الحبيب { شكور } أي : فهو يجزي بالحسنة أضعافها وإن قلت والشكور في حق الله تعالى مجاز والمعنى : أنه تعالى يحسن إلى المطيعين في إيصال الثواب إليهم وفي أن يزيد عليه أنواعاً كثيراً من التفضيل .