{ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ23 }
في الآية تنبيه على أن ما ذكر في الآية السابقة من المصير السعيد هو الذي يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات . وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمخاطبين إني لا أسألكم أجرا إلا المودة في القربى ، وتقرير بأن الذي يفعل الحسنة يزاد له فيها ويضاعف أجره لأن الله غفور شكور يعامل عباده الصالحين بالمغفرة والتقدير .
وكلمة { ذلك } تبدو بمثابة الرابطة بين هذه الآية وما سبقها كما هو المتبادر .
وفي الآية أمر مؤكد للأوامر السابقة للنبي بإعلان قومه ، بأنه لا يطلب منهم على مهمته نفعا ولا أجرا إلا المودة في القربى . وفيها حث على الاستجابة إلى الله وترغيب في عمل الصالحات وتبشير بصفات الله الغفور الشكور وتقرير لقابلية الناس على الاختيار وجزاؤهم على اختيارهم أيضا .
ويلحظ أن الفقرة الأخيرة من الآية احتوت توكيدا للمعنى الذي انطوى في الفقرة الأخيرة من الآية ( 20 ) السابقة بأسلوب آخر ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت مواصلة تطمين الذين يفعلون الأفعال الحسنة التي ترضي الله تعالى بمضاعفة ثوابهم في آيات متتالية . وفي هذا ما فيه من حث على العمل الصالح وقد تكرر كثيرا ومرت منه أمثلة عديدة .
{ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }
ولقد تعددت الأقوال والروايات في معنى { المودة في القربى } وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية والآيتين اللتين بعدها مدنيات . وروى الطبرسي في مجمع البيان نقلا عن تفسير أبي حمزة الثمالي عن ابن عباس أن الأنصار جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استحكم الإسلام في المدينة فقالوا له : إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها في غير حرج ولا محظور عليك ، فنزلت الآية فقرأها عليهم وقال : تودون قرابتي من بعدي فخرجوا من عنده مسلمين فقال المنافقون : إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد أن يذلنا لقرابته من بعده فأنزل الله الآية : { أم يقولون افترى على الله كذبا . . . . . . . . . . . . . } فتلاها عليهم فبكوا واشتد عليهم فأنزل الله الآية التي بعدها : { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } فأرسل في أثرهم فبشرهم ، وقد أخرج الطبراني حديثا عن ابن عباس مقاربا لما جاء في هذه الرواية {[1811]} هذا من جهة رواية مدنية الآية والآيتين اللتين بعدها ، وسبب نزولها ، وهناك روايات وأقوال عديدة في تأويل الآية بصورة عامة استقصاها الطبري والطبرسي أكثر من غيرهما . فمما رواه الطبري أن ابن عباس سئل عن الآية فقال ابن جبير : القربى فيها هي قربى آل محمد . فقال ابن عباس : ( عَجِلتَ إن النبي لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فنزلت الآية تذكر ذلك وتقول لقريش ( إلا أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم ) وقد روى البخاري والترمذي هذه الرواية في كتابيهما أيضا{[1812]} . ومما رواه الطبري عن ابن عباس قوله : ( كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرابة في جميع قريش ، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال : يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم وذلك قول الآية : { لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } .
ومما رواه الطبري أيضا عن ابن عباس في الآية قوله : ( قال محمد لقريش : لا أسألكم من أموالكم شيئا ولكني أسألكم أن لا تؤذوني لقرابة ما بيني وبينكم فإنكم قومي وأحق من أطاعني وأجابني ) ومثل هذه الأقوال ومن بابها أقوال مروية في الآية عن عكرمة وحصين بن مالك وقتادة ومجاهد والضحاك وعطاء بن دينار وابن وهب .
وإلى جانب هذه الأقوال التي يرويها الطبري يروي أيضا روايات مناقضة ؛ حيث يروي أن رجلا من أهل الشام قال لعلي بن الحسين لما جيء به إلى دمشق بعد مقتل أبيه : الحمد الله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة . فقال له : أقرأت القرآن ؟ قال : نعم . قال : أما قرأت { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } ؟ قال : نعم إنكم لأنتم هم ؟ قال : نعم . وحيث يروي أيضا أن سعيد بن جبير قال : إن كلمة { القربى } في الآية تعني قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن عمرو بن شعيب أولها بمثل ذلك . وقد روى الطبري إلى جانب هذه الروايات وتلك عن الحسن أن القربى في الآية بمعنى القربى إلى الله . وعن قتادة أن الجملة في الآية بمعنى التودد والتقرب إلى الله بالطاعة .
ومما رواه الطبرسي في تفسير ( مجمع البيان ) عن الحسن والجبائي وأبي مسلم أن معنى الآية : ( لا أسألكم أجرا إلا التواد والتحابب وما يقرب إلى الله من العمل الصالح ) أو ( التقرب إلى الله والتودد إليه بالطاعة ) . كما روى عن ابن عباس أنها تعني : ( لا أسألكم إلا أن تودوني في قرابتي منكم وتحفظوني لها ) . وعن قتادة ومجاهد : ( أن تودوني لأجل القرابة التي بيني وبينكم ) . وعن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وأبي جعفر وأبي عبد الله : ( أن تودوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم ) . عن الحسن : ( إنا أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم فقال : { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } . وعن ابن عباس : ( لما نزلت الآية قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين أمرنا الله بمودتهم ؟ فقال : هم علي وفاطمة وولدهما ){[1813]} .
وتعليقا على ما تقدم نقول : أما من ناحية مدنية الآية فالملحوظ أنها متصلة أوثق اتصال بالآية السابقة لها نظما وموضوعا . وهذا ما يلحظ أيضا بالنسبة للآيتين التاليتين لها اللتين ذكرت الروايات أنهما مدنيتان مثلها ، ويلحظ أن رواية نزولها في المدينة معزوة إلى ابن عباس الذي رويت روايات عديدة عنه في تأويل الآية تأويلا يصرفها عن قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ومنها حديث صح عند البخاري والترمذي ، وليس يخفى ما في رواية نزولها في المدينة من غرابة بل وتهافت وقصد تلفيق وتطبيق .
ولعل قصد صرف الآية إلى أقارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذو صلة بها ؛ لأن ذلك يكون ممتنعا ألبتة في حالة مكية الآية ؛ حيث كان أكثر أقارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المكي ومنهم أعمامه أبو طالب وأبو لهب والعباس كفارا ، ولم تكن فاطمة رضي الله عنها قد تزوجت ، ولم يكن الحسن والحسين قد ولدا بعد ؛ لذلك فنحن نشك في رواية مدنية الآيتين التاليتين لها . وأما من ناحية صرف الآية إلى أقارب النبي أو فاطمة وعلي وولدهما فمع أن البر بالصالحين المتقين من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومودتهم واحترامهم واجب مسلم به بقطع النظر عما إذا كان هناك نص قرآني أو حديث نبوي {[1814]} فإن حمل العبارة على ذلك في معرض أجر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على مهمته ودعوته لا يتسق قط مع علو شأن النبوة ومصدرها الرباني ولا مع الآيات العديدة التي تضمنت أوامر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للناس إنه لا يسألهم على مهمته أجرا ولا خرجا وليس له أي غاية شخصية دنيوية مما مر منه أمثلة عديدة . ولذلك نرى التأويلات الأخرى التي وردت في صدد الزيادة الاستثنائية التي نشأ عنها ذلك المفهوم هي الأولى والأصوب من حيث إنها قصدت أن تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان قومه أنه لا يسألهم على رسالته أجرا ولا يقصد نفعا خاصا ، وكل ما يطلبه أو يرجوه هو هدايتهم أو مودته أو عدم أذيته أو عدم أذيته أو عدم الصد عن دعوته ، وأن هذا هو ما توجبه القرابة التي بينه وبينهم ، ولاسيما أن من التأويلات ما صح عند البخاري والترمذي عن ابن عباس وهو من أقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس في التأويلات الأخرى ما في رتبة ذلك ولا قريب منه . وقد ذكر في سياق الحديث الذي أخرجه الطبراني أن بعض رواته ضعفاء ، ولقد قال الطبري بعد أن أورد جميع الأقوال : ( إن أولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال لا سألكم إلا أن تودوني في قرابتي منكم وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم وإن دخل هذا الحرف ( في ) مما يؤيد ذلك إذ لو كان قصد الآية مودة قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل هذا الحرف ولكانت الجملة ( إلا مودة القربى ) لا ( المودة في القربى ) . ولقد قال ابن كثير بعد أن أورد كثيرا من الأقوال والروايات التي أوردناها والأحاديث التي وردت في وجوب مودة واحترام ذوي قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( والحق هو تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس ) . يعني التفسير الذي رواه البخاري والترمذي ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم فإنهم ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على الأرض فخرا وحسبا ونسبا ، ولاسيما إذا كانوا متبعين للسنة الواضحة الجليلة{[1815]} ، وجمهور المفسرين في جانب هذا التفسير{[1816]} أيضا .