فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ذَٰلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِۗ قُل لَّآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ وَمَن يَقۡتَرِفۡ حَسَنَةٗ نَّزِدۡ لَهُۥ فِيهَا حُسۡنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ شَكُورٌ} (23)

{ ذَلِكَ } أي الفضل الكبير { الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ } قرئ يبشر مخففا ومثقلا ، وهما سبعيتان ، ثم وصف العباد بقوله : { الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فهؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل بما أمر الله به وترك ما نهى عنه ، هم المبشرون بتلك البشارة ، ثم لما ذكر سبحانه ما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم من هذه الأحكام الشريفة التي اشتمل عليها كتابه أمره بأن يخبرهم بأنه لا يطلب منهم بسبب هذا التبليغ ثوابا منهم فقال :

{ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } أي قل يا محمد : لا أطلب منكم الآن ولا في مستقبل الزمان على تبليغ الرسالة بشارة أو نذارة جعلا ولا نفعا وإن قَلّ والخطاب إما لقريش وللأنصار لأنهم أخواله ، أو لجميع العرب لأنهم أقاربه في الجملة { إِلَّا الْمَوَدَّةَ } العظيمة الواسعة { فِي الْقُرْبَى } أي مظروفة فيها ، بحيث تكون القربى موضعا للمودة وظرفا لها ، لا يخرج شيء من محبتكم عنها والاستثناء متصل ، أي إلا أن تودوني لقرابتي بينكم أو تودوا أهل قرابتي ، ويجوز أن يكون منقطعا .

قال الزجاج : إلا المودة استثناء ليس من الأول أي إلا أن تودوني لقرابتي فتحفظوني ، والخطاب لقريش وهذا قول عكرمة ومجاهد وأبي مالك والشعبي فيكون المعنى على الانقطاع : لا أسألكم أجرا قط ، ولكن أسألكم المودة في القربى التي بيني وبينكم ارقبوني فيها ولا تعجلوا إليّ ، ودعوني والناس وبه قال قتادة ومقاتل والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم ، وهو الثابت عن ابن عباس كما سيأتي وقال سعيد بن جبير وغيره هم آل محمد ، وسيأتي ما استدل به القائلون بهذا .

وقال الحسن وغيره : معنى الآية إلا التودد إلى الله عز وجل والتقرب بطاعته ، وقال الحسين بن الفضل ، ورواه ابن جرير عن الضحاك أن هذه الآية منسوخة ، قال البغوي : وهذا قول غير مرضي ، لأن مودة النبي صلى الله عليه وسلم وكف الأذى عنه ، ومودة أقاربه والتقرب إلى الله بالطاعة والعمل الصالح ، من فرائض الدين .

أقول : في الآية ثلاثة أقوال ، الأول أن القربى بمعنى القرابة أي الرحم ، والثاني بمعنى الأقارب ، والثالث بمعنى القرب والتقرب والزلفى ، وسيأتي ما يتضح به الصواب ، ويظهر له معنى الآية . قال سعيد بن جبير قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم . عن ابن عباس أنه سئل عن قوله { إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } قال ابن عباس : ( عجلت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة ، فقال إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة ) ، وعنه قال : قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم " {[1470]} ، وعن الشعبي قال : أكثرَ الناس علينا في هذه الآية { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فقال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واسط النسب في قريش ، ليس بطن من بطونهم إلا وله فيه قرابة ، فقال الله : قل الخ أن تودوني لقرابتي منكم ، وتحفظوني بها " .

وعن ابن عباس قال كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة من جميع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال : ( يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم ، ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم ) ، وعنه قال : ( قالت الأنصار : فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا فقال العباس : لنا الفضل عليكم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم فقال : يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله قالوا بلى يا رسول الله قال أفلا تجيبون ؟ قالوا ما نقول يا رسول الله ؟ قال ألا تقولون ألم يخرجك قومك فآويناك ؟ ألم يكذبوك فصدقناك ؟ ألم يخذلوك فنصرناك ؟ فما زال يقول حتى جثوا على الركب وقالوا أموالنا وما في أيدينا لله ورسوله ، فنزلت هذه الآية " {[1471]} وفي إسناده يزيد ابن أبي زياد وهو ضعيف والأولى أن الآية مكية لا مدنية . وقد أشرنا فيما سبق أن هذه الآية مدنية وهذا متمسكهم .

وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ( تحفظوني في أهل بيتي وتودوهم بي ) أخرجه الديلمي وأبو نعيم ، وعنه قال لما نزلت هذه الآية قالوا : ( يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ؟ قال علي وفاطمة وولداهما ) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف .

وعنه قال نزلت هذه الآية بمكة وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله قل لهم يا محمد لا أسألكم عليه أي على ما أدعوكم إليه أجرا عرضا من الدنيا إلى المودة في القربى ، إلا الحفظ في قرابتي فيكم ، فلما هاجر إلى المدينة أحب أن يلحقه بإخوته من الأنبياء فقال { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ } يعني ثوابه وكرامته في الآخرة ، كما قال نوح { وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } وكما قال هود وصالح وشعيب لم يستثنوا أجرا كما استثنى النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليهم ، وهي منسوخة ، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية ( قل لا أسألكم على ما أتيتكم به من البينات والهدى أجرا إلا أن تودوا الله وأن تتقربوا إليه بطاعته هذا حاصل ما روي عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير هذه الآية والمعنى الأول هو الذي صح عنه ورواه عنه الجمع الجم من تلامذته فمن بعدهم ولا ينافيه ما روي عنه من النسخ فلا مانع من أن يكون قد نزل القرآن في مكة بأن يوده كفار قريش لما بينه وبين قريش من القربى ويحفظوه بها ثم ينسخ ذلك ويذهب هذا الاستثناء من أصله كما يدل عليه ما ذكرنا مما يدل على أنه لم يسأل على التبليغ أجرا على الإطلاق .

ولا يقوي ما روي من حملها على آل محمد صلى الله عليه وسلم على معارضته ما صح عن ابن عباس من تلك الطرق الكثيرة ، وقد أغنى الله آل محمد عن هذا بما لهم من الفضائل الجليلة والمزايا الجميلة ، وقد بينا ذلك عند تفسيرنا لقوله { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } وكما لا يقوى هذا على المعارضة فكذلك لا يقوي ما روي عنه أن المراد بالمودة أن يودوا الله ، وأن يتقربوا إليه بطاعته ، ولكنه يشد من عضد هذا أنه تفسير مرفوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

{ وَمَنْ يَقْتَرِفْ } أي يكتسب وأصل القرف الكسب يقال فلان يقرف لعياله من باب ضرب أي يكسب والاقتراف الاكتساب مأخوذ من قولهم رجل قرفة إذا كان محتالا { حَسَنَةً } أي طاعة { نَزِدْ لَهُ فِيهَا } أي في هذه الحسنة أو في الجنة { حُسْنًا } بمضاعفة ثوابها ، قال مقاتل المعنى من يكتسب حسنة واحدة نزد له فيها حسنا نضاعفها بالواحدة عشرا فصاعدا . وقيل المراد بهذه الحسنة هي المودة في القربى ، والحمل على العموم أولى ، ويدخل تحته المودة في القربى دخولا أوليا لذكرها عقيب ذكر المودة في القربى وقال ابن عباس إنها المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال السدي إنها نزلت في أبي بكر ومودته فيهم والظاهر العموم .

{ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } أي كثير المغفرة للمذنبين كثير الشكر للمطيعين قال قتادة : غفور للذنوب شكور للحسنات . وقال السدي : غفور لذنوب آل محمد صلى الله عليه وسلم شكور للقليل فيضاعفه .


[1470]:السيوطي في الدر 6/6.
[1471]:السيوطي في الدر 6/7.