معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية وآياتها ست وثمانون ومائتان .

قوله تعالى : { الم } . قال الشعبي وجماعة : الم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، وهي سر القرآن ، فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله تعالى ، وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها . قال أبو بكر الصديق : في كل كتاب سر وسر الله في القرآن أوائل السور ، وقال علي : لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي . قال داود بن أبي هند : كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال : يا داود إن لكل كتاب سراً ، وإن سر القرآن فواتح السور ، فدعها وسل عما سوى ذلك . وقال جماعة : هي معلومة المعاني ، فقيل : كل حرف منها مفتاح اسم من أسمائه كما قال ابن عباس في كهيعص : الكاف من كاف والهاء من هاد والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق . وقيل في ( المص ) أنا الله الملك الصادق ، وقال الربيع بن أنس : في الم الألف مفتاح اسمه الله ، واللام مفتاح اسمه اللطيف ، والميم مفتاح اسمه المجيد . وقال محمد بن كعب : الألف آلاء الله ، واللام لطفه ، والميم ملكه . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال معنى ( الم ) : أنا الله أعلم : ومعنى ( المص ) : أنا الله أعلم وأفصل ، ومعنى ( الر ) : أنا الله أرى ، ومعنى ( المر ) : أنا الله أعلم وأرى . قال الزجاج : وهذا حسن فإن العرب تذكر حرفاً من كلمة يريدها كقولهم :

قلت لها قفى لنا فقالت لي قاف *** . . . . . . . .

أي : وقفت ، وعن سعيد بن جبير قال : هي أسماء الله تعالى مقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم ، ألا ترى أنك تقول ( الر ، وحم ، ون ) ، فيكون الرحمن ، وكذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على وصلها ، وقال قتادة : هذه الحروف أسماء القرآن . وقال مجاهد و ابن زيد : هي أسماء السور ، وبيانه : أن القائل إذا قال : قرأت ( المص ) . عرف السامع أنه قرأ السورة التي افتتحت ب ( المص ) ، وروى عن ابن عباس أنها أقسام ، وقال الأخفش : إنما أقسم الله بهذه الحروف لشرفها وفضلها لأنها مباني كتبه المنزلة ، ومبادي أسمائه الحسنى .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{الٓمٓ} (1)

تقدم الكلام على البسملة . وأما الحروف المقطعة في أوائل السور ، فالأسلم فيها ، السكوت عن التعرض لمعناها [ من غير مستند شرعي ] ، مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة البقرة

سورة البقرة أطول سورة في القرآن الكريم ، فقد استغرقت جزءين ونصف جزء تقريباً من ثلاثين جزءاً قسم إليها القرآن . وتبلغ آياتها ستاً وثمانين ومائتي آية . وقيل سبع وثمانون ومائتا آية .

وسميت بذلك لأنها انفردت بذكر قصة البقرة التي كلف قوم موسى بذبحها بعد أن قتل فيهم قتيل ولم يعرفوا قاتله .

وهي مدنية بإجماع الآراء ، وقد ابتدأ نزولها بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وقد نزل معظمها في السنوات الأولى من الهجرة ، واستمر نزولها إلى قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بفترة قليلة . وكانت آخر آية من القرآن نزولا منها ، هي قوله –تعالى- :

[ واتقوا يوماً تُرجعُون فيه إلى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍِ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون ] .

مناسبتها لسورة الفاتحة : هناك مناسبة ظاهرة بين السورتين ، لأن سورة الفاتحة قد اشتملت على أحكام الألوهية والعبودية وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم اشتمالا إجمالياً ، فجاءت سورة البقرة ففصلت تلك المقاصد ، ووضحت ما اشتملت عليه سورة الفاتحة من هدايات وتوجيهات .

فضلها : وقد ورد فضل سورة البقرة أحاديث متعددة ، وآثار متنوعة منها ما جاء في مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان .

وروى ابن حيان في صحيحه عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة ، وإن من قرأها في بيته لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ، ومن قرأها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاث أيام " .

وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال : " بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً وهم ذوو عدد فاستقرأ كل واحد منهم عما معه من القرآن ، فأتى على رجل من أحدثهم سناً فقال : ما معك يا فلان ؟ فقال : معي كذا وكذا وسورة البقرة . فقال : أمعك سورة البقرة ؟ قال : نعم . قال : اذهب فأنت أميرهم . فقال رجل من أشرافهم : والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أني خشيت ألا أقوم بها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأوا القرآن وتعلموه ، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب أوكى أي أغلق –على مسك .

قال القرطبي : وهذه السورة فضلها عظيم ، وثوابها جسيم ، ويقال لها فسطاط القرآن وذلك لعظمها وبهائها وكثرة أحكامها ومواعظها( {[1]} ) .

مقاصدها : عندما نفتح كتاب الله فنطالع فيه سورة البقرة بتدبر وعناية ، نراها في مطلعها تنوه بشأن القرآن الكريم ، وتصرح بأنه حق لا ريب فيه ، وتبين لنا أن الناس أمام هدايته على ثلاثة أقسام :

قسم آمن به وانتفع بهدايته فكانت عاقبته السعادة والفلاح .

[ أولئك على هُدىً منْ رَبِّهم وأُولَئك هُم المفلحُون ] .

وقسم جحد واستكبر واستحب العمى على الهدى ، فأصبح لا يرجى منه خير ولا إيمان ، فكانت عاقبته الحرمان والخسران .

[ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ] .

ثم فصلت السورة الحديث عن قسم ثالث هو شر ما تبتلى به الأمم وهم المنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون . وقد تحدثت السورة عنهم في ثلاث عشرة آية ، كشفت فيها عن خداعهم ، وجبنهم ، ومرض قلوبهم ، وبينت ما أعده الله لهم من سوء المصير ، ثم زادت في فضيحتهم وهتك سرائرهم فضربت مثلين لحيرتهم واضطرابهم ، قال –تعالى- :

[ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين . يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ] .

إلى أن يقول : [ ولو شَاءَ الله لذهبَ بِسَمْعِهم وأَبْصَارِهم إن الله عَلَى كُلِّ شيء قدير ] .

ثم وجهت السورة نداء إلى الناس جميعاً دعتهم فيه إلى عبادة الله وحده وأقامت لهم الأدلة الساطعة على صدق هذه القضية ، وتحدثهم –إن كانوا في ريب من القرآن- أن يأتوا بسورة من مثله . وبينت لهم أنهم لن يستطيعوا ذلك لا في الحاضر ولا في المستقبل .

ثم ختم الربع الأول منها ببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، جمعت لذائذ المادة والروح ، وهم فيها خالدون . ثم قررت السورة الكريمة أن الله –تعالى- لا يمتنع عن ضرب الأمثال بما يوضح ويبين دون نظر إلى قيمة الممثل به في ذاته أو عند الناس ، كما قررت أن المؤمنين يقابلون هذه الأمثال بالإيمان والإذعان ، أما الكافرون فيقابلونها بالاستهزاء والإنكار .

وقد وبخت السورة بعد ذلك أولئك الكافرين على كفرهم ، مع وضوح الدلائل على وحدانية الله في أنفسهم وفي الآفاق فقالت :

[ كيفَ تكفُرون باللَّه وكنتُم أَمواتاً فَأَحْياكُم ثم يُمِيتُكم ، ثم يُحْييكُم ، ثم إليه تُرْجَعُون . هو الَّذي خلق لكُم ما في الأَرْضِ جَميعاً ، ثم اسْتَوَى إِلى السَّمَاء فَسَواهُنَّ سبع سموات وهو بكل شيء عليم ] .

ثم ذكرت السورة بعد ذلك جانبا من قصة آدم ، وقد حدثتنا فيه عن خلافة آدم في الأرض ، وعما كان من الملائكة من استفسار بشأنه –وعن سكن آدم وزوجه الجنة ، ثم عن خروجهما منها بسبب أكلهما من الشجرة المحرمة .

[ وإِذْ قال ربُّك لِلْمَلاَئِكة إنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَة ، قالُوا : أَتَجْعَل فيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ونحن نُسبح بِحَمْدِك ونقدس لك ، قال : إني أعلم ما لا تعلمون ] . . الخ . الآيات الكريمة .

هذا ، وقد عرفنا قبل ذلك أن سورة البقرة نزلت بالمدينة بعد أن هاجر المسلمون إليها ، وأصبحت لهم بها دولة فتية ، وكان يجاورهم فيها عدد كبير من اليهود الذين كان أحبارهم يبشرون . بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم . فأخذت السورة الكريمة تتحدث عنهم –في أكثر من مائة آية- حديثاً طويلا متشعبا . .

فنراها في أواخر الربع الثاني توجه إليهم نداء محبباً إلى نفوسهم ، تدعوهم فيه إلى الوفاء بعهودهم ، وإلى الإيمان بنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم فتقول :

[ يا بني إِسْرَائِيل اذكرُوا نعْمَتي الَّتي أَنْعَمْتُ عليكم ، وأَوْفُوا بعهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكم وإيَّاي فارْهبُون . وآمنُوا بما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقا لما معكم ولا تكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ، ولا تَشْتَرُوا بآياتي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فاتَّقُون ] .

ثم تذكرهم في الربع الثالث بنعم الله عليهم ، وبموقفهم الجحودي من هذه النعم ، تذكرهم بنعمة تفضيلهم على عالمي زمانهم ، وبنعمة إنجائهم من عدوهم ، وبنعمة فرق البحر بهم ، وبنعمة عفو الله عنهم مع تكاثر ذنوبهم ، وبنعمة بعثهم من بعد موتهم ، وبنعمة تظليلهم بالغمام ، وبنعمة إنزال المن والسلوى عليهم . الخ .

ولقد كان موقف بني إسرائيل من هذه النعم يمثل بالجحود والعناد والبطر ، فكانت نتيجة ذلك أن .

[ ضُرِبت عليهم الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ ، وباءُوا بغضبٍ منَ اللَّه ] .

ثم تحدثت السورة بعد ذلك حديثاً مستفيضاً عن رذائلهم وقبائحهم ودعواهم الباطلة ، والعقوبات التي حلت بهم جزاء كفرهم وجحودهم .

فنراها في الربع الرابع تذكر لنا تنطعهم في الدين وإلحاقهم في المسألة عندما قال لهم نبيهم موسى : [ إِنَّ اللَّه يأمرُكُم أَنْ تَذْبحُوا بَقَرَةً ] . ثم تذكر قسوة قلوبهم فتقول على سبيل التوبيخ لهم :

[ ثُمَّ قستْ قلوبُكم من بعد ذلِك فَهي كَالحِجَارَةِ أو أَشَدَّ قَسْوَةً ، وإنَّ من الحِجَارةِ لما يتفجر منه الأَنهارُ ، وإن منْها لما يَشقّقُ فيخرجُ منه الماء . وإن منْها لما يَهبطُ من خَشْيَةِ اللَّه ، وما اللَّهُ بغافلٍ عَمَّا تَعْملُون ] .

ونراها في الربع الخامس تحدثنا عن تحريفهم للكلم عن مواضعه عن تعمد وإصرار ، وتتوعدهم على ذلك بسوء المصير :

[ فويْلٌ للذين يكتبُون الكتابَ بأيديهم ثمَّ يقولُون هذَا من عنْدِ اللّه ليشْترُوا به ثَمَناً قليلاً ، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ] .

ثم تحدثنا عن قولهم الباطل : [ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودة ] .

وترد عليهم بما يبطل حجتهم ، وعن نقضهم لعهودهم ومواثيقهم مع الله ومع الناس ومع أنفسهم ، وعن عدائهم لرسول الله ، وعن جحودهم للحق بدافع الحسد والعناد فتقول :

[ ولما جاءهُم كتابٌ منْ عنْدِ الله ، مُصَدِّقٌ لِمَا معهُم وَكَانُوا من قبلُ يَسْتَفْتِحُون على الذين كفرُوا ، فَلما جاءَهُم ما عرفُوا كفرُوا به فلعنةُ اللّهِ على الكافرين . بئْسَما اشْتَرَوْا به أنفسهم أن يكفرُوا بِمَا أنزلَ اللّهُ بغياً ، أَن ينزل اللّه من فضلِه على من يشَاءُ من عباده ، فباءُوا بغضب على غضبٍ وللكَافِرين عَذَابٌ مُهِينٌ ] .

ثم نراها في الربع السادس تحكي لنا نماذج من مزاعمهم الباطلة ، ومن ذلك زعمهم أن الجنة خالصة لهم من دون الناس ، ثم ترد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويصور جبنهم وحرصهم المشين على أية حياة حتى لو كانت ملطخة بالذل والهوان .

استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي ذلك بأسلوبه البليغ فيقول :

[ قل إن كانتْ لكُم الدارُ الآخرةُ عندَ اللهِ خالصةً مِن دونِ النَّاس فتمنوا الموتَ إِن كُنتُم صادقين . ولن يَتَمَنوه أبداً بمَا قَدَّمت أيديهم واللهُ عليمٌ بالظالمين ولتجِدَنَّهم أحرصَ النَّاس على حياةٍ ، ومن الذين أَشركُوا ، يودُّ أحدُهم لو يُعمّرُ ألفَ سنةٍ ، وما هو بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذَاب أن يُعَمَّر واللّهُ بصيرٌ بما يعملون ] .

ثم تسوق لنا نماذج من سوء أدبهم مع الله ، وعداوتهم لملائكته ؛ ونبذهم كتاب الله ، واتباعهم للسحر والأوهام .

ثم نراها في الربع السابع تقص علينا بعض الصور من المجادلات الدينية ، والمخاصمات الكلامية ، التي استعملوها مع النبي صلى الله عليه وسلم لحرب الدعوة الإسلامية ، كجدالهم في قضية النسخ ، وفي كون الجنة لن يدخلها لا من كان هودا أو نصارى ، وفي كون القرآن ليس معجزة –في زعمهم- وإنما هم يريدون معجزة كونية . . الخ .

وقد رد القرآن عليهم بما يزهق باطلهم ، ويزيد المؤمنين إيماناً على إيمانهم .

وكما ابتدأ القرآن الحديث معهم ابتداء محببا إلى نفوسهم [ يا بني إسرائيل ] ، فقد اختتمه –أيضاً- بالنداء نفسه ، لكي يستحثهم على الإيمان فقال :

[ يا بَنِي إسرائيلَ اذكرُوا نعمتي التي أنعمتُ عليكم وأَنِّي فضلتكُم على العالمين . واتَّقٌوا يوماً لا تجزِي نفسٌ عن نفْسٍ شيئاً ، ولا يقبلُ منها عدلٌ ، ولا تنفعُها شفاعةٌ ، ولا هم ينصرون ] .

ثم أخذت السورة بعد ذلك في الربع الثامن منها تحدثنا عن الكلمات التي اختبر الله بها نبيه إبراهيم ، وعن قصة بنانء البيت الحرام ، وعن تلك الدعوات الخاشعات التي كان إبراهيم وإسماعيل يتضرعان بها إلى خالقهما وهما يقومان بهذا العمل الجليل .

[ رَبَّنَا تَقَبَّلْ منا إنك أننت السمِيعُ العلِيمُ . ربَّنا واجْعلنا مُسْلمَيْنِ لَكَ ومنْ ذُرِّيتنا أمةً مسلمةً لكَ ، وأَرِنَا مَنَاسِكَنا ، وتُبْ علينا ، إنك أنت التَّوابُ الرَّحِيمُ ] .

ثم أخذت تقيم الحجج الباهرة ، والأدلة الساطعة على أن إبراهيم ما كان يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً ، وعلى أن يعقوب قد وصى ذريته من بعده أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً .

ثم ختمت تلك المحاورات والمجادلات التي أبطلت بها دعاوى أهل الكتاب الباطلة ، ببيان سنة من سنن الله في خلقه ، هذه السنة تتلخص في بيان أن كل إنسان سيجازى بحسب عمله يوم القيامة ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، وأن اتكال اليهود –أو غيرهم- على أنهم من نسل الأنبياء أو الصالحين دون أن يعملوا بعملهم لن ينفعهم شيئاً . فقال –تعالى- : [ تلك أمةٌ قدْ خلت ، لها ما كسَبتْ ولكُم ما كسبتُمْ ، ولا تُسْأَلُون عَمَّا كانُوا يَعْمَلُون ] .

ثم عادت السورة في الربع التاسع منها إلى الحديث عن الشبهات التي أثارها اليهود عند تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، وقد رد القرآن عليهم بما يدحض هذه الشبهات ، ويهوى باليهود ومن حذا حذوهم في مكان سحيق ، قال –تعالى- :

[ سيقولُ السُّفَهاءُ من النَّاس ما ولاَّهُم عن قِبْلتهم التي كانُوا عليها ، قل للّه المَشْرِقُ والمغربُ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ] إلى أن يقول : [ ومن حيثُ خرجتَ فَوَلِّ وجهك شطر المسجدِ الحرَامِ ، وحيثُ ما كنتُمْ فولُّوا وجوهكُم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة ، إلا الذين ظلَمُوا منهم فلا تَخْشَوْهُم واخْشَوْنِي ، ولأُتِمَّ نِعْمَتي عليكُم ولعلَّكم تَهْتَدُون ] .

وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد فصلت الحديث عن بني إسرائيل تفصيلا يحمل المسلمين على العظة والاعتبار ، ويعرفهم طبيعة أولئك القوم الذين خسروا أنفسهم حتى يأخذوا حذرهم منهم ، وينفروا من التشبه بهم .

أما المقدار الباقي من السورة الكريمة –وهو أكثر من نصفها بقليل- فعندما نراجعه بتفكر وتدبر ، نراه زاخراً بالتشريعات الحكيمة ، والآداب العالية ، والتوجيهات السامية .

نرى السورة الكريمة في هذا المقدار منها تحدثنا في الربع العاشر منها عن بعض شعائر الله التي تتعلق بالحج ، وعن الأدلة على وحدانية الله .

[ وإلهكُم إلهٌ واحدٌ لا إِله إلاَّ هو الرَّحْمَان الرَّحِيم . إن في خلقِ السَّموات والأرض واختلافِ الليلِ والنهارِ ، والفلكِ التي تجري في البحرِ بما ينفعُ النَّاس ، وما أنزلَ اللَّهُ من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرضَ بعد موتِهَا وبثَّ فيها من كل دابةٍ ، وتصريفِ الرِّياحِ والسَّحابِ المسخَّرِ بين السماء والأرضِ لآياتٍ لقومٍ يعقِلُون ] .

ثم بعد أن تصور لنا بأسلوب بليغ مؤثر حسرة المشركين يوم القيامة وهم يتبادلون التهم ، ويتبرأ بعضهم من بعض ، بعد كل ذلك توجه نداء عاماً إلى الناس ، تأمرهم فيه أن يقيدوا أنفسهم بما أحل الله . . وأن يبتعدوا عن محارمه فتقول .

[ يأيها النَّاس كُلُوا مما في الأَرْض حلالاً طيباً ولا تتبعُوا خُطُوات الشَّيطان إِنه لكم عدوٌ مُبين . إنما يأمُركُم بالسُّوءِ والفَحْشَاءِ وأن تقولُوا على اللَّه ما لا تَعلمُون ] .

فإذا ما وصلنا إلى الربع الحادي عشر منها ، رأيناها تسوق لنا في مطلعه آية جامعة لألوان البر ، وأمهات المسائل الاعتقادية والعملية وهي قوله –تعالى- :

[ ليس البرَّ أنْ تُوَلُّوا وجوهَكُم قبل المشرِقِ والمغرِبِ ولكنَّ البرَّ من آمَنَ بالله واليومِ الآخِر والملائِكة والكتابِ والنبيين ] . الخ .

ثم أتبعت ذلك بالحديث عن القصاص ، وعن الوصية ، وعن الصيام وحكمته ، وعن الدعاء وآدابه ، ونهت المسلمين في ختامها عن مقارفة الحرام في شتى صوره وألوانه فقالت : [ ولا تأكُلُوا أموَالكُم بينكُم بالباطلِ وتُدْلُوا بها إلى الحكَّامِ ، لِتأكُلُوا فريقاً من أَمْوالِ النَّاسِ بالإثمِ وأنتم تعلمون ] .

وفي مطلع الربع الثاني عشر حكت بعض الأسئلة التي كان المسلمون يوجهونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأجابت عنها بطريقة حكيمة تدعوهم إلى التدبر والاتعاظ ، ثم حضت المسلمين على الجهاد في سبيل الله ، ونهتهم عن البغي والاعتداء . استمع إلى القرآن وهو يحرض المؤمنين على القتال ويرسم لهم حدوده وآدابه فيقول :

[ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ، واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ، والفتنة أشد من القتل ، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ، فإن قاتلوكم فاقتلوهم . كذلك جزاء الكافرين . فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم . وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ] .

ثم فصلت السورة الحديث عن الحج ، فتحدثت عن جانب من آدابه وأحكامه ، وحضت المسلمين على الإكثار من ذكر الله ، وأن يتجنبوا التفاخر بالأحساب والأنساب ، وأن يرددوا في دعائهم قوله –تعالى- :

[ ربَّنَا أَتِنَا في الدُّنيا حَسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنَا عذابَ النَّارِ ] .

وفي الربع الثالث عشر نراها تبين لنا ألوان الناس في هذه الحياة ، وأن منهم من يسعى في الإفساد وإهلاك الحرث والنسل ، فإذا ما نصح أخذته العزة بالإثم ، وتمادى في طغيانه وإفساده ، وأن منهم من يبيع نفسه عن طواعية واختيار ابتغاء مرضاة الله .

[ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، والله رءوف بالعباد ] .

ثم تبين لنا بأن الناس جميعاً كانوا أمة واحدة ، وأن هذه الحياة مليئة بالمصائب والمحن والفتن ، وأن العاقل هو الذي يقابل كل ذلك بإيمان عميق ، وصبر جميل ، حتى يفوز برضى الله يوم القيامة ، ويظفر بنصره في الحياة الدنيا .

[ أَمْ حسبْتُم أن تدخُلُوا الجنَّة ولما يأْتِكُم مَثَلُ الَّذين خَلَوا من قبلِكم مسَّتهُم البأساءُ والضراءُ وزُلزلُوا حتَّى يقولَ الرَّسُولُ والذين آمنُوا معه : متى نصرُ الله ؟ أَلا إِنَّ نصرَ اللَّهِ قريبٌ ] .

ثم تحدثنا السورة الكريمة في الربعين الرابع عشر والخامس عشر حديثاً جامعاً عن النكاح وما يتعلق به من أحكام ، فحدثتنا عن الإيلاء وعن الطلاق . وعن الرضاع ، وعن المعدة ، وعن الخطبة ، وعن غير ذلك مما يتعلق بهذا الشأن ، ثم ختمت حديثها بهذه الآية الكريمة :

[ كذلك يُبينُ اللَّهُ لكُم آياتِهِ لعلَّكُم تَعقِلُون ] .

ثم عادت السورة في الربع السادس عشر منها إلى الحديث عن الملأ من بني إسرائيل : [ . . . قالُوا لنبيٍّ لهم : ابعثْ لَنَا مَلكاً نُقاتلُ في سبيلِ الله ] .

فساقت لنا قصتهم بأسلوب زاخر بالعظات والعبر ، التي من أهمها أن الدين هو أساس العزة والمنعة ، وأن الشدائد من شأنها أن تصهر النفوس فتجعلها تتجه إلى معالي الأمور ، وأن الأمير يجب أن يكون له من قوة العقل وقوة الجسم وسعة العلم ، وكمال التجربة –ما يقود به أمته إلى صالح الأمور ، وأن العاقل هو الذي يسلك الوسائل السليمة لبلوغ غايته الشريفة ، ثم يفوض الأمور بعد ذلك إلى الله .

وفي الربع السابع عشر منها أفاضت في الحديث عن مظاهر قدرة الله ووحدانيته ، وأقامت على ذلك من الأدلة ما يشفي الصدور ، ويطمئن القلوب ، ويزيد المؤمنين إيماناً ، استمع إلى آية الكرسي وهي تصور عظمة الله وقدرته فتقول .

[ الله لا إله إلا هو الحيُّ القَيُّومُ لا تأخذه سِنَةٌ ولا نومٌ ، له ما في السمواتِ ، وما في الأرضِ ، من ذا الذي يشفعُ عنده إلا بإذنه ، يعلمُ ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يُحيطُون بشيءٍ من علمه إلا بما شَاءَ وَسِع كُرْسيه السمواتِ والأرضَ ، ولا يؤودُهُ حفظهُمَا وهو العليُّ العظيمُ ] .

وبعد هذا الحديث عن مظاهر قدرة الله ساقت السورة في أواخرها أنماطاً من التوجيهات التي تسعد المجتمع ، وتنزع الأحقاد من قلوب الأفراد ، فقد حضت المسلمين في جملة من آياتها على الإنفاق والإحسان ، وضربت لذلك أروع الأمثال ونهتهم عن المن والأذى ، وصرحت بأن الكلمة الطيبة للسائل خير من العطاء الذي تتبعه الإساءة .

[ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ] .

ثم بعد أن عقدت مقارنه مؤثرة بين من ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله ، وبين من ينفقونها رثاء الناس ، بعد كل ذلك مدحت الفقراء الذين يتعففون عن السؤال ، ولا يلجأون إليه إلا عند الضرورة القصوى فقالت :

[ ليس عليكم هُدَاهم ولكن اللَّه يهْدِي من يشاءُ ، وما تُنْفِقُوا من خير فلأنفسِكُم ، وما تنفقُون إلا ابْتغَاءَ وجْهِ اللَّهِ ، وما تنفقُوا من خيرٍ يُوفَّ إليكُم وأنتم لا تُظْلَمُون . للفقراء الذين أُحْصِرُوا في سبيل الله لا يستطيعُون ضرباً في الأرضِ يحسبُهم الجاهلُ أغنياءَ من التعفّفِ ، تعرفهم بسيماهُم لا يسألُون النَّاسَ إِلحاقاً ، وما تُنفِقوا من خيرٍ فإن اللهَ به عليمٌ ] .

ثم حذرت السورة بعد ذلك المؤمنين من التعامل بالربا ، ووصفت آكليه بصفات تنفر منها القلوب ، وتعافها النفوس ، ووجهت إلى المؤمنين نداء أمرتهم فيه بتقوى الله ، وأنذرتهم بحرب من الله لهم إن لم يتوبوا عن التعامل بالربا فقالت :

[ يأيُّها الذين آمَنُوا اتقُوا اللّه وذرُوا ما بقِيَ من الرِّبَا إن كنتُم مؤمنين . فإنْ لم تفعلُوا فأذنُوا بحرْبٍ من اللهِ ورسولِهِ ، وإن تُبْتُمْ فلكُم رءوسُ أموالِكُم لا تَظلمُون ولا تُظلمون ] .

ثم تحدثت بعد ذلك عن الديون والرهون ، فصاغت للمؤمنين دستوراً هو أدق الدساتير المدنية في حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل ، ثم ختمت السورة حديثها الجامع عن العقائد والشرائع والآداب والمعاملات ، بذلك الدعاء الخاشع :

[ ربَّنَا لا تُؤَاخِذْنا إن نَسِينَا أو أَخطأنا ، ربَّنا ولا تحملْ علينا إصراً كَما حملتَهُ علَى الَّذِين من قبلِنَا ، ربَّنَا ولا تحمِّلْنَا ما لا طاقَةَ لنا بِهِ ، واعفُ عَنَّا واغْفِرْ لنا وارْحَمْنا ، أنت مَوْلانا ، فانْصُرنا على القومِ الكَافِرِين ] .

تلك هي سورة البقرة ، أرأيت وحدتها في كثرتها ؟ أعرفت اتجاه خطوطها في لوحتها ؟ أرأيت كيف التحمت لبناتها وارتفعت سماؤها بغير عمد تسندها ؟ أرأيت كيف ينادي كل عضو فيها بأنه قد أخذ مكانه المقسوم وفقاً لخط جامع مرسوم ، رسمه مربي النفوس ومزكيها ، ومنور العقول أشتاتها على هذه الصورة معجزة ، فكيف وكل نجم منها كان يوضع في رتبته من فور نزوله ، وكان يحفظ لغيره مكانه انتظاراً لحلوله . وهكذا كان ما ينزل منها معروف الرتبة ، محدد الموقع قبل أن ينزل .

لعمري لئن كانت للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات ، وفي أساليب ترتيبه معجزات ، وفي نبوءاته الصادقة معجزات ، وفي تشريعاته الخالدة معجزات ، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات لعمري إنه في ترتيب آياته على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات( {[2]} ) .

وبعد : فهذا عرض سريع لأهم مقاصد سورة البقرة ، قدمناه بين يديها لنعطي القارئ الكريم صورة متميزة عنها . ومن هذا العرض نرى أنها بجانب احتوائها على أصول العقائد ، وعلى كثير من أدلة التوحيد ، قد وجهت عنايتها إلى أمرين اقتضتهما حالة المسلمين ، بعد أن أصبحت لهم دولة بالمدينة يجاورهم فيها عدد كبير من اليهود .

أما الأمر الأول فهو توجيه الدعوة إلى بني إسرائيل ، ومناقشتهم فيما كانوا يثيرونه حول الرسالة الإسلامية من مؤثرات . وإماطة اللثام عن تاريخهم المظلم ، وأخلاقهم المرذولة حتى يحذرهم المسلمون .

وأما الأمر الثاني فهو التشريع للدولة الإسلامية الفتية ، وقد رأينا أن سورة البقرة في النصف الثاني منها قد تحدثت عن تلك الجوانب التشريعية حديثاً مفصلا منوعاً تناول أحكام القصاص ، والوصية ، والصيام والاعتكاف والحج ، والعمرة ، والقتال ، والنكاح ، والإنفاق في سبيل الله . والمعاملات المالية . إلى غير ذلك من التشريعات التي سبق الحديث عنها . والآن فلنبدأ في تفسير السورة الكريمة فنقول –وبالله التوفيق- .

سورة البقرة من السور التي ابتدئت ببعض حروف التهجي . وقد وردت هذه الفواتح تارة مفردة بحرف واحد ، وتارة مركبة من حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة . فالسور التي بدأت بحرف واحد ثلاثة وهي سورة ص ، ق ، ن . والسورة التي بدأت بحرفين تسعة وهي : طه ، يس ، طس ، { وحم } في ست سور هي : غافر ، فصلت ، الزخرف ، الجاثية ، الأحقاف . والسورة التي بدأت بثلاثه أحرف ثلاث عشرة سورة وهي : { ألم } في ست سور : البقرة ، وآل عمران ، العنكبوت ، الروم ، لقمان ، السجدة و { الر } في خمس سور هي : يونس ، هود ، يوسف ، الحجر ، إبراهيم { طسم } في سورتين هما : الشعراء ، القصص . وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما . الرعد ، { المر } ، والأعراف ، { المص } وسورتان - أيضاً - بدئنا بخمسة أحرف وهما : مريم { كهيعص } والشورى { حم عسق } . فيكون مجموع السور التي افتتحت بالحروف المقطعة تسعا وعشرين سورة .

هذا ، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ويمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسين :

الرأي الأول يرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهي من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه . وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس - في إحدى رواياته - كما ذهب إليه الشعبي ، وسفيان الثوري ، وغيرهم من العلماء ، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال : إن لكل كتاب سراً ، وإن سر هذا القرآن في فواتح السور . ويروى عن ابن عباس أنه قال : عجزت العلماء عن إدراكها . وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال : " إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي ؟ . وفي رواية أخرى عن الشعبي أنه قال : " سر الله فلا تطلبوه " .

ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأي ، أنه كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس ، لأنه من المتشابه ، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثله كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها . وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإفهام عنها عند كل الناس ، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد منها ، وكذلك بعض أصحابه المقربين - ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعاً فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل بعض السور . وهناك مناقشات أخرى للعلماء حول هذا الرأي يضيق المجال عن ذكرها . أما الرأي الثاني فيرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه . وأصحاب هذا الرأي قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة ، من أهمها ما يأتي :

1- أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح " وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها كسورة ولا يخلو هذا القول من الضعف ، لأن كثيراً من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، والغرض من التسمية رفع الاشتباه .

2- وقيل إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى .

3 - وقيل : إنها حروف مقطعة ، بعضها من أسماء الله - تعالى - وبعضها من صفاته ، فمثلاً { الاما } أصلها : أنا الله أعلم .

4 - وقيل : إنها اسم الله الأعظم . إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلو من مقال ، والتي أوصلها السيوطي في " الإتقان " إلى أكثر من عشرين قولا .

5 - ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة قد وردت في افتتاح بعض السور للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها ، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة ، وفضلا عن ذلك فإن تصدير السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإنصات والتدبر ، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجارى كلامهم ، وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها ، فيستمعوا حكما وحججاً قد يكون سبباً في هدايتهم واستجابتهم للحق . هذه خلاصة لأراء العلماء في الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيداً لذلك فليرجع - مثلاً - إلى كتاب " الإتقان " للسيوطي ، وإلى كتاب " البرهان " للزركشي ، وإلى تفسير الألوسي .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
[2]:- سورة الإسراء. الآية 9.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة البقرة مدنية وآياتها ست وثمانون ومائتان

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه السورة من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة . وهي أطول سور القرآن على الإطلاق . والمرجح أن آياتها لم تنزل متوالية كلها حتى اكتملت قبل نزول آيات من سور أخرى ؛ فمراجعة أسباب نزول بعض آياتها وبعض الآيات من السور المدنية الأخرى - وإن تكن هذه الأسباب ليست قطعية الثبوت - تفيد أن السور المدنية الطوال لم تنزل آياتها كلها متوالية ؛ إنما كان يحدث أن تنزل آيات من سورة لاحقة قبل استكمال سورة سابقة نزلت مقدماتها ؛ وأن المعول عليه في ترتيب السور من حيث النزول هو سبق نزول أوائلها - لا جميعها - وفي هذه السورة آيات في أواخر ما نزل من القرآن كأيات الربا ، في حين أن الراجح أن مقدماتها كانت من أول ما نزل من القرآن في المدينة .

فأما تجميع آيات كل سورة في السورة ، وترتيت هذه الآيات ، فهو توقيفي موحى به . . روى الترمذي - بإسناده - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين ، وقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر : بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتموها في السبع الطوال ؟ وما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان : كان رسول الله [ ص ] كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ؛ فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب ، فيقول : " ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " . وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن ؛ وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وخشيت أنها منها ؛ وقبض رسول الله [ ص ] ولم يبين لنا أنها منها . فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر : بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتها في السبع الطوال .

فهذه الرواية تبين أن ترتيب الآيات في كل سورة كان بتوقيف من رسول الله [ ص ] وقد روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي [ ص ] أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل . وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي [ ص ] القرآن ، وفي رواية فيدارسه القرآن ، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة . ومن الثابت أن رسول الله [ ص ] وقد قرأ القرآن كله على جبريل - عليه السلام - كما أن جبريل قد قرأه عليه . . ومعنى هذا أنهما قرآه مرتبة آياته في سوره .

ومن ثم يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصية مميزة ! شخصية لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس ! ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص . ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها ؛ ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة ، تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو . ولها إيقاع موسيقي خاص - إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة . . وهذا طابع عام في سور القرآن جميعا . ولا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور كهذه السورة .

هذه السورة تضم عدة موضوعات . ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا . . فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة ، واستقبالهم لها ، ومواجهتهم لرسولها [ ص ] وللجماعة المسلمة الناشئة على أساسها . . . وسائر ما يتعلق بهذا الموقف بما فيه تلك العلاقة القوية بين اليهود والمنافقين من جهة ، وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى . . وهي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها ؛ وإعدادها لحمل أمانة الدعوة والخلافة في الأرض ، بعد أن تعلن السورة نكول بني إسرائيل عن حملها ، ونقضهم لعهد الله بخصوصها ، وتجريدهم من شرف الانتساب الحقيقي لإبراهيم - عليه السلام - صاحب الحنيفية الأولى ، وتبصير الجماعة المسلمة وتحذيرها من العثرات التي سببت تجريد بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم . . وكل موضوعات السورة تدور حول هذا المحور المزدوج بخطيه الرئيسيين ، كما سيجيء في استعراضها التفصيلي .

ولكي يتضح مدى الارتباط بين محور السورة وموضوعاتها من جهة ، وبين خط سير الدعوة أول العهد بالمدينة ، وحياة الجماعة المسلمة وملابساتها من الجهة الأخرى . . يحسن أن نلقي ضوءا على مجمل هذه الملابسات التي نزلت آيات السورة لمواجهتها ابتداء . مع التنبيه الدائم إلى أن هذه الملابسات في عمومها هي الملابسات التي ظلت الدعوة الإسلامية وأصحابها يواجهونها - مع اختلاف يسير - على مر العصور وكر الدهور ؛ من أعدائها وأوليائها على السواء . مما يجعل هذه التوجيهات القرآنية هي دستور هذه الدعوة الخالد ؛ ويبث في هذه النصوص حياة تتجدد لمواجهة كل عصر وكل طور ؛ ويرفعها معالم للطريق أمام الأمة المسلمة تهتدي بها في طريقها الطويل الشاق ، بين العداوات المتعددة المظاهر المتوحدة الطبيعة . . وهذا هو الإعجاز يتبدى جانب من جوانبه في هذه السمة الثابتة المميزة في كل نص قرآني .

لقد تمت هجرة الرسول [ ص ] إلى المدينة بعد تمهيد ثابت وإعداد محكم . تمت تحت تأثير ظروف حتمت هذه الهجرة ؛ وجعلتها إجراء ضروريا لسير هذه الدعوة في الخط المرسوم الذي قدره الله لها بتدبيره . . كان موقف قريش العنيد من الدعوة في مكة - وبخاصة بعد وفاة خديجة - رضي الله عنها - وموت أبي طالب كافل النبي وحاميه . . كان هذا الموقف قد انتهى إلى تجميد الدعوة تقريبا في مكة وما حولها . ومع استمرار دخول أفراد في الإسلام على الرغم من جميع الاضطهادات والتدبيرات فإن الدعوة كانت تعتبر قد تجمدت فعلا في مكة وما حولها ، بموقف قريش منها ، وتحالفهم على حربها بشتى الوسائل ، مما جعل بقية العرب تقف موقف التحرز والانتظار ، في ارتقاب نتيجة المعركة بين الرسول وعشيرته الأقربين ، وعلى رأسهم أبو لهب وعمرو بن هشام وأبو سفيان بن حرب وغيرهم ممن يمتون بصلة القرابة القوية لصاحب الدعوة . وما كان هناك ما يشجع العرب في بيئة قبلية لعلاقات القرابة عندها وزن كبير ، على الدخول في عقيدة رجل تقف منه عشيرته هذا الموقف . وبخاصة أن عشيرته هذه هي التي تقوم بسدانة الكعبة ، وهي التي تمثل الناحية الدينية في الجزيرة !

ومن ثم كان بحث الرسول [ ص ] عن قاعدة أخرى غير مكة ، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية ، ويتاح لها فيها أن تخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة . حيث تظفر بحرية الدعوة وبحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة . . وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة .

ولقد سبق الاتجاه إلى يثرب ، لتكون قاعدة للدعوة الجديدة ، عدة اتجاهات . . سبقها الاتجاه إلى الحبشة ، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل . والقول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية . فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس جاها وقوة ومنعة من المسلمين . غير أن الأمر كان على الضد من هذا ، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا . إنما هاجر رجال ذوو عصبيات ، لهم من عصبيتهم - في بيئة قبلية - ما يعصمهم من الأذى ، ويحميهم من الفتنة ؛ وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين ، منهم جعفر بن أبي طالب - وأبوه وفتيان بني هاشم معه هم الذين كانوا يحمون النبي [ ص ] ومنهم الزبير بن العوام ، وعبد الرحمن ابن عوف ، وأبو سلمة المخزومي ، وعثمان بن عفان الأموي . . . . وغيرهم . وهاجرت نساء كذلك من أشرف بيوتات مكة ما كان الأذى لينالهن أبدا . . وربما كان وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة في أوساط البيوت الكبيرة في قريش ؛ وأبناؤها الكرام المكرمون يهاجرون بعقيدتهم ، فرارا من الجاهلية ، تاركين وراءهم كل وشائج القربى ، في بيئة قبلية تهزها هذه الهجرة على هذا النحو هزا عنيفا ؛ وبخاصة حين يكون من بين المهاجرين مثل أم حبيبة ، بنت أبي سفيان ، زعيم الجاهلية ، وأكبر المتصدين لحرب العقيدة الجديدة وصاحبها . . ولكن مثل هذه الأسباب لا ينفي احتمال أن تكون الهجرة إلى الحبشة أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة ، أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة . وبخاصة حين نضيف إلى هذا الاستنتاج ما ورد عن إسلام نجاشي الحبشة . ذلك الإسلام الذي لم يمنعه من إشهاره نهائيا إلا ثورة البطارقة عليه ، كما ورد في روايات صحيحة .

كذلك يبدو اتجاه الرسول [ ص ] إلى الطائف محاولة أخرى لإيجاد قاعدة حرة أو آمنة على الأقل للدعوة . . وهي محاولة لم تكلل بالنجاح لأن كبراء ثقيف استقبلوا رسول الله [ ص ] أسوأ استقبال ، وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم يرجمونه بالحجارة ، حتى أدموا قدميه الشريفتين ، ولم يتركوه حتى آوى إلى حائط [ أي حديقة ] لعتبة وشيبة إبني ربيعة . . وهناك انطلق لسانه بذلك الدعاء الخالص العميق : " اللهم أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس . يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي . إلى من تكلني ؟ إلى عدو ملكته أمري ! أم بعيد يتجهمني ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي . ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن تنزل بي غضبك ، أو تحل علي سخطك . لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .

بعد ذلك فتح الله على الرسول [ ص ] وعلى الدعوة من حيث لا يحتسب ، فكانت بيعة العقبة الأولى ، ثم بيعة العقبة الثانية . وهما ذواتا صلة قوية بالموضوع الذي نعالجه في مقدمة هذه السورة ، وبالملابسات التي وجدت حول الدعوة في المدينة .

وقصة ذلك في اختصار : أن النبي [ ص ] التقى قبل الهجرة إلى يثرب بسنتين بجماعة من الخزرج في موسم الحج ، حيث كان يعرض نفسه ودعوته على الوافدين للحج ؛ ويطلب حاميا يحميه حتى يبلغ دعوة ربه . وكان سكان يثرب من العرب - الأوس والخزرج - يسمعون من اليهود المقيمين معهم ، أن هنالك نبيا قد أطل زمانه ؛ وكانت يهود تستفتح به على العرب ، أي تطلب أن يفتح لهم على يديه ، وأن يكون معهم على كل من عداهم . فلما سمع وفد الخزرج دعوة النبي [ ص ] قال بعضهم لبعض : تعلمن والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود ، فلا تسبقنكم إليه . . وأجابوه لما دعاهم . وقالوا له : إننا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم . فعسى الله أن يجمعهم بك . . ولما عادوا إلى قومهم ، وعرضوا الأمر عليهم ، ارتاحوا له ، ووافقوا عليه .

فلما كان العام التالي وافى الموسم جماعة من الأوس والخزرج ، فالتقوا بالنبي [ ص ] وبايعوه على الإسلام . وقد أرسل معهم من يعلمهم أمر دينهم .

وفي الموسم التالي وفد عليه جماعة كبيرة من الأوس والخزرج كذلك ، فطلبوا أن يبايعوه ، وتمت البيعة بحضور العباس عم النبي [ ص ] على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم . وتسمى هذه البيعة الثانية بيعة العقبة الكبرى . . ومما وردت به الروايات في هذه البيعة ما قاله محمد بن كعب القرظي : قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله [ ص ] يعني ليلة العقبة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : " اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ؛ واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال : " الجنة " . قالوا : ربح البيع ولا نقيل ولا نستقبل !

وهكذا أخذوا الأمر بقوة . . ومن ثم فشا الإسلام في المدينة ، حتى لم يبق فيها بيت لم يدخله الإسلام . وأخذ المسلمون في مكة يهاجرون إلى المدينة تباعا ، تاركين وراءهم كل شيء ، ناجين بعقيدتهم وحدها ، حيث لقوا من إخوانهم الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ، من الإيثار والإخاء ما لم تعرف له الإنسانية نظيرا قط . ثم هاجر رسول الله [ ص ] وصاحبه الصديق . هاجر إلى القاعدة الحرة القوية الآمنة التي بحث عنها من قبل طويلا . . وقامت الدولة الإسلامية في هذه القاعدة منذ اليوم الأول لهجرة الرسول [ ص ] .

من أولئك السابقين من المهاجرين والأنصار تكونت طبقة ممتازة من المسلمين نوه القرآن بها في مواضع كثيرة . وهنا نجد السورة تفتتح بتقرير مقومات الإيمان ، وهي تمثل صفة المؤمنين الصادقين إطلاقا . ولكنها أولا تصف ذلك الفريق من المسلمين الذي كان قائما بالمدينة حينذاك : ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون . والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبالآخرة هم يوقنون . أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون . . )

ثم نجد بعدها مباشرة في السياق وصفا للكفار ؛ وهو يمثل مقومات الكفر على الإطلاق . ولكنه أولا وصف مباشر للكفار الذين كانت الدعوة تواجههم حينذاك ، سواء في مكة أو فيما حول المدينة ذاتها من طوائف الكفار : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، ولهم عذاب عظيم ) . .

كذلك كانت هناك طائفة المنافقين . ووجود هذه الطائفة نشأ مباشرة من الأوضاع التي أنشأتها الهجرة النبوية إلى المدينة في ظروفها التي تمت فيها ، والتي أشرنا إليها من قبل ؛ ولم يكن لها وجود بمكة . فالإسلام في مكة لم تكن له دولة ولم تكن له قوة ، بل لم تكن له عصبة يخشاها أهل مكة فينافقونها . على الضد من ذلك كان الإسلام مضطهدا ، وكانت الدعوة مطاردة ، وكان الذين يغامرون بالانضمام إلى الصف الإسلامي هم المخلصون في عقيدتهم ، الذين يؤثرونها على كل شيء ويحتملون في سبيلها كل شيء . فأما في يثرب التي أصبحت منذ اليوم تعرف باسم المدينة - أي مدينة الرسول - فقد أصبح الإسلام قوة يحسب حسابها كل أحد ؛ ويضطر لمصانعتها كثيرا أو قليلا - وبخاصة بعد غزوة بدر وانتصار المسلمين فيها انتصارا عظيما - وفي مقدمة من كان مضطرا لمصانعتها نفر من الكبراء ، دخل أهلهم وشيعتهم في الإسلام وأصبحوا هم ولا بد لهم لكي يحتفظوا بمقامهم الموروث بينهم وبمصالحهم كذلك أن يتظاهروا باعتناق الدين الذي اعتنقه أهلهم وأشياعهم . ومن هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان قومه ينظمون له الخرز ليتوجوه ملكا عليهم قبيل مقدم الإسلام على المدينة . .

وسنجد في أول السورة وصفا مطولا لهؤلاء المنافقين ، ندرك من بعض فقراته أن المعني بهم في الغالب هم أولئك الكبراء الذين أرغموا على التظاهر بالإسلام ، ولم ينسوا بعد ترفعهم على جماهير الناس ، وتسمية هذه الجماهير بالسفهاء على طريقة العلية المتكبرين ! : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين . يخادعون الله والذين آمنوا ، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون . في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ؛ ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون . وإذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض قالوا : إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون . وإذا قيل لهم : آمنوا كما آمن الناس قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون . وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزؤون . الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون . أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم ، وما كانوا مهتدين . مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم ، وتركهم في ظلمات لا يبصرون . صم بكم عمي فهم لا يرجعون . أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ، والله محيط بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا ، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ، إن الله على كل شيء قدير . . )

وفي ثنايا هذه الحملة على المنافقين - الذين في قلوبهم مرض - نجد إشارة إلى( شياطينهم ) . والظاهر من سياق السورة ومن سياق الأحداث في السيرة أنها تعني اليهود ، الذين تضمنت السورة حملات شديدة عليهم فيما بعد . أما قصتهم مع الدعوة فنلخصها في هذه السطور القليلة :

لقد كان اليهود هم أول من اصطدم بالدعوة في المدينة ؛ وكان لهذا الاصطدام أسبابه الكثيرة . . كان لليهود في يثرب مركز ممتاز بسبب أنهم أهل كتاب بين الأميين من العرب - الأوس والخزرج - ومع أن مشركي العرب لم يظهروا ميلا لاعتناق ديانة أهل الكتاب هؤلاء ، إلا أنهم كانوا يعدونهم أعلم منهم وأحكم بسبب ما لديهم من كتاب . ثم كان هنالك ظرف موات لليهود فيما بين الأوس والخزرج من فرقة وخصام - وهي البيئة التي يجد اليهود دائما لهم فيها عملا ! - فلما أن جاء الإسلام سلبهم هذه المزايا جميعا . . فلقد جاء بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه . ثم إنه أزال الفرقة التي كانوا ينفذون من خلالها للدس والكيد وجر المغانم ، ووحد الصف الإسلامي الذي ضم الأوس والخزرج ، وقد أصبحوا منذ اليوم يعرفون بالأنصار ، إلى المهاجرين ، وألف منهم جميعا ذلك المجتمع المسلم المتضام المتراص الذي لم تعهد له البشرية من قبل ولا من بعد نظيرا على الإطلاق .

ولقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار ، وأن فيهم الرسالة والكتاب . فكانوا يتطلعون أن يكون الرسول الأخير فيهم كما توقعوا دائما . فلما أن جاء من العرب ظلوا يتوقعون أن يعتبرهم خارج نطاق دعوته ، وأن يقصر الدعوة على الأميين من العرب ! فلما وجدوه يدعوهم - أول من يدعو - إلى كتاب الله ، بحكم أنهم أعرف به من المشركين ، وأجدر بالاستجابة له من المشركين . . أخذتهم العزة بالإثم ، وعدوا توجيه الدعوة إليهم إهانة واستطالة !

ثم إنهم حسدوا النبي [ ص ] حسدا شديدا . حسدوه مرتين : مرة لأن الله اختاره وأنزل عليه الكتاب - وهم لم يكونوا يشكون في صحته - وحسدوه لما لقيه من نجاح سريع شامل في محيط المدينة .

على أنه كان هناك سبب آخر لحنقهم ولموقفهم من الإسلام موقف العداء والهجوم منذ الأيام الأولى : ذلك هو شعورهم بالخطر من عزلهم عن المجتمع المدني الذي كانوا يزاولون فيه القيادة العقلية والتجارة الرابحة والربا المضعف ! هذا أو يستجيبوا للدعوة الجديدة . ويذوبوا في المجتمع الإسلامي . وهما أمران - في تقديرهم - أحلاهما مر !

لهذا كله وقف اليهود من الدعوة الإسلامية هذا الموقف الذي تصفه سورة البقرة ، [ وسور غيرها كثيرة ] في تفصيل دقيق ، نقتطف هنا بعض الآيات التي تشير إليه . . جاء في مقدمة الحديث عن بني إسرائيل هذ النداء العلوي لهم : ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون . وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم . ولا تكونوا أول كافر به ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ، وإياي فاتقون . ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون . وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين . أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ؟ وأنتم تتلون الكتاب ؟ أفلا تعقلون ؟ ) . . وبعد تذكيرهم طويلا بمواقفهم مع نبيهم موسى - عليه السلام - وجحودهم لنعم الله عليهم ، وفسوقهم عن كتابهم وشريعتهم . . ونكثهم لعهد الله معهم . . جاء في سياق الخطاب لتحذير المسلمين منهم : ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟ ) . . ( وقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة . قل : أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون ؟ ) . . ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين ) . . . ( وإذا قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله . قالوا : نؤمن بما أنزل علينا ، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم ) . . . ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ) . . . ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ) . . . ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) . . . ( وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى . تلك أمانيهم ) . . . ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) . . . الخ الخ .

وكانت معجزة القرآن الخالدة أن صفتهم التي دمغهم بها هي الصفة الملازمة لهم في كل أجيالهم من قبل الإسلام ومن بعده إلى يومنا هذا . مما جعل القرآن يخاطبهم - في عهد النبي [ ص ] كما لو كانوا هم أنفسهم الذين كانوا على عهد موسى - عليه السلام - وعلى عهود خلفائه من أنبيائهم باعتبارهم جبلة واحدة . سماتهم هي هي ، ودورهم هو هو ، وموقفهم من الحق والخلق موقفهم على مدار الزمان ! ومن ثم يكثر الالتفات في السياق من خطاب قوم موسى ، إلى خطاب اليهود في المدينة ، إلى خطاب أجيال بين هذين الجيلين . ومن ثم تبقى كلمات القرآن حية كأنما تواجه موقف الأمة المسلمة اليوم وموقف اليهود منها . وتتحدث عن استقبال يهود لهذه العقيدة ولهذه الدعوة اليوم وغدا كما استقبلتها بالأمس تماما ! وكأن هذه الكلمات الخالدة هي التنبيه الحاضر والتحذير الدائم للأمة المسلمة ، تجاه أعدائها الذين واجهوا أسلافها بما يواجهونها اليوم به من دس وكيد ، وحرب منوعة المظاهر ، متحدة الحقيقة !

وهذه السورة التي تضمنت هذا الوصف ، وهذا التنبيه ، وهذا التحذير ، تضمنت كذلك بناء الجماعة المسلمة وإعدادها لحمل أمانة العقيدة في الأرض بعد نكول بني إسرائيل عن حملها قديما ، ووقوفهم في وجهها هذه الوقفة أخيرا . .

تبدأ السورة - كما أسلفنا - بوصف تلك الطوائف التي كانت تواجه الدعوة أول العهد بالهجرة - بما في ذلك تلك الإشارة إلى الشياطين اليهود الذين يرد ذكرهم فيما بعد مطولا - وتلك الطوائف هي التي تواجه هذه الدعوة على مدار التاريخ بعد ذلك . ثم تمضي السورة على محورها بخطيه الأساسيين إلى نهايتها . في وحدة ملحوظة ، تمثل الشخصية الخاصة للسورة ، مع تعدد الموضوعات التي تتناولها وتنوعها .

فبعد استعراض النماذج الثلاثة الأولى : المتقين . والكافرين . والمنافقين . وبعد الإشارة الضمنية لليهود الشياطين . . نجد دعوة للناس جميعا إلى عبادة الله والإيمان بالكتاب المنزل على عبده . وتحدي المرتابين فيه أن يأتوا بسورة من مثله . وتهديد الكافرين بالنار وتبشير المؤمنين بالجنة . . ثم نجد التعجيب من أمر الذين يكفرون بالله : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ، ثم يميتكم ثم يحييكم ، ثم إليه ترجعون ! هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ، وهو بكل شيء عليم ) . .

وعند هذا المقطع الذي يشير إلى خلق ما في الأرض جميعا للناس تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض : ( وإذ قال ربك للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ) . . وتمضي القصة تصف المعركة الخالدة بين آدم والشيطان حتى تنتهي بعهد الاستخلاف - وهو عهد الإيمان - : ( قلنا : اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى ، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .

بعد هذا يبدأ السياق جولة واسعة طويلة مع بني إسرائيل - أشرنا إلى فقرات منها فيما سبق - تتخللها دعوتهم للدخول في دين الله وما أنزله الله مصدقا لما معهم مع تذكيرهم بعثراتهم وخطاياهم والتوائهم وتلبيسهم منذ أيام موسى - عليه السلام - وتستغرق هذه الجولة كل هذا الجزء الأول من السورة .

ومن خلال هذه الجولة ترتسم صورة واضحة لاستقبال بني إسرائيل للإسلام ورسوله وكتابه . . لقد كانوا أول كافر به . وكانوا يلبسون الحق بالباطل . وكانوا يأمرون الناس بالبر - وهو الإيمان - وينسون أنفسهم . وكانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه . وكانوا يخادعون الذين آمنوا باظهار الإيمان وإذا خلا بعضهم إلى بعض حذر بعضهم بعضا من إطلاع المسلمين على ما يعلمونه من أمر النبي وصحة رسالته ! وكانوا يريدونإن يردوا المسلمين كفارا . وكانوا يدعون من أجل هذا أن المهتدين هم اليهود وحدهم - كما كان النصارى يدعون هذا أيضا - وكانوا يعلنون عداءهم لجبريل - عليه السلام - بما أنه هو الذي حمل الوحي إلى محمد دونهم ! وكانوا يكرهون كل خير للمسلمين ويتربصون بهم السوء . وكانوا ينتهزون كل فرصة للتشكيك في صحة الأوامر النبوية ومجيئها من عند الله تعالى - كما فعلوا عند تحويل القبلة - وكانوا مصدر إيحاء وتوجيه للمنافقين . كما كانوا مصدر تشجيع للمشركين .

ومن ثم تتضمن السورة حملة قوية على أفاعيلهم هذه ؛ وتذكرهم بمواقفهم المماثلة من نبيهم موسى - عليه السلام - ومن شرائعهم وأنبيائهم على مدار أجيالهم . وتخاطبهم في هذا كأنهم جيل واحد متصل ، وجبلة واحدة لا تتغير ولا تتبدل .

وتنتهي هذه الحملة بتيئيس المسلمين من الطمع في إيمانهم لهم ، وهم على هذه الجبلة الملتوية القصد ، المؤوفة الطبع . كما تنتهي بفصل الخطاب في دعواهم أنهم وحدهم المهتدون ، بما أنهم ورثة إبراهيم . وتبين أن ورثة إبراهيم الحقيقيين هم الذين يمضون على سنته ، ويتقيدون بعهده مع ربه ؛ وأن وراثة إبراهيم قد انتهت إذن إلى محمد [ ص ] والمؤمنين به ، بعد ما انحرف اليهود وبدلوا ونكلوا عن حمل أمانة العقيدة ، والخلافة في الأرض بمنهج الله ؛ ونهض بهذا الأمر محمد والذين معه . وأن هذا كان استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وهما يرفعان القواعد من البيت : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، وأرنا مناسكنا ، وتب علينا ، إنك أنت التواب الرحيم . ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، إنك أنت العزيز الحكيم ) .

وعند هذا الحد يبدأ سياق السورة يتجه إلى النبي [ ص ] وإلى الجماعة المسلمة من حوله ؛ حيث يأخذ في وضع الأسس التي تقوم عليها حياة هذا الجماعة المستخلفة على دعوة الله في الأرض ، وفي تمييز هذه الجماعة بطابع خاص ، وبمنهج في التصور وفي الحياة خاص .

ويبدأ في هذا بتعيين القبلة التي تتجه إليها هذه الجماعة . وهي البيت المحرم الذي عهد الله لإبراهيم وإسماعيل أن يقيماه ويطهراه ليعبد فيه الله وحده ، هذه القبلة التي كان النبي [ ص ] يرغب ولا يصرح في الاتجاه إليها : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) . .

ثم تمضي السورة في بيان المنهج الرباني لهذه الجماعة المسلمة . منهج التصور والعبادة ، ومنهج السلوك والمعاملة ، تبين لها أن الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا بل أحياء . وأن الإصابة بالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات ليس شرا يراد بها ، إنما هو ابتلاء ، ينال الصابرون عليه صلوات الله ورحمته وهداه . وأن الشيطان يعد الناس الفقر ويأمرهم بالفحشاء والله يعدهم مغفرة منه وفضلا . وأن الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات . . وتبين لهم بعض الحلال والحرام في المطاعم والمشارب . وتبين لهم حقيقة البر لا مظاهره وأشكاله . وتبين لهم أحكام القصاص في القتلى . وأحكام الوصية . وأحكام الصوم . وأحكام الجهاد . وأحكام الحج . وأحكام الزواج والطلاق مع التوسع في دستور الأسرة بصفة خاصة . وأحكام الصدقة وأحكام الربا . وأحكام الدين والتجارة . . .

وفي مناسبات معينة يرجع السياق إلى الحديث عن بني إسرائيل من بعد موسى . وعن حلقات من قصةإبراهيم . ولكن جسم السورة - بعد الجزء الأول منها - ينصرف إلى بناء الجماعة المسلمة ، وإعدادها لحمل أمانة العقيدة ، والخلافة في الأرض بمنهج الله وشريعته . وتمييزها بتصورها الخاص للوجود ، وارتباطها بربها الذي اختارها لحمل هذه الأمانة الكبرى .

وفي النهاية نرى ختام السورة ينعطف على افتتاحها ، فيبين طبيعة التصور الإيماني ، وإيمان الأمة المسلمة بالأنبياء كلهم ، وبالكتب كلها وبالغيب وما وراءه ، مع السمع والطاعة : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا نفرق بين أحد من رسله ، وقالوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا وإليك المصير . لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنا واغفر لنا ، وارحمنا ، أنت مولانا ، فانصرنا على القوم الكافرين . . )

ومن ثم يتناسق البدء والختام ، وتتجمع موضوعات السورة بين صفتين من صفات المؤمنين وخصائص الإيمان .

1

تبدأ السورة بهذه الأحرف الثلاثة المقطعة : " ألف . لام . ميم " . يليها الحديث عن كتاب الله : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين ) . .

ومثل هذه الأحرف يجيء في مقدمة بعض السور القرآنية . وقد وردت في تفسيرها وجوه كثيرة . نختار منها وجها . إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف ، وهي في متناول المخاطبين به من العرب . ولكنه - مع هذا - هو ذلك الكتاب المعجز ، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله . الكتاب الذي يتحداهم مرة ومرة ومرة أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله ، أو بسورة من مثله فلا يملكون لهذا التحدي جوابا !

والشأن في هذا الإعجاز هو الشأن في خلق الله جميعا . وهو مثل صنع الله في كل شيء وصنع الناس . . أن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات . فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو آجرة ، أو آنية أو أسطوانة ، أو هيكل أو جهاز . كائنا في دقته ما يكون . . ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة . حياة نابضة خافقة . تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز . . سر الحياة . . ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر ، ولا يعرف سره بشر . . وهكذا القرآن . . حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا ، ويجعل منها الله قرآنا وفرقانا ، والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات ، هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض . . هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة !