معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفتح

مدنية وآياتها تسع وعشرون

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنبأنا أبو علي زاهر بن أحمد الطوسي ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه { أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، فقال عمر : ثكلتك أمك يا عمر كررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، كل ذلك لا يجيبك ، قال عمر فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس ، وخشيت أن ينزل في قرآن ، فما لبثت أن سمعت صارخا يصرخ بي فقلت : لقد خشيت ان يكون نزل في قرآن ، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه ، فقال : لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ثم قرأ : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } " . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو عمر بكر بن محمد المزني ، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله حفيد العباس بن حمزة ، حدثنا الحسين بن الفضل البجلي ، حدثنا أنس ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، حدثنا عفان قال : " نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } إلى آخر الآية ، مرجعه من الحديبية وأصحابه مخالطهم الحزن والكآبة ، فقال : نزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعاً ، فلما تلاها نبي الله صلى الله عليه وسلم قال رجل من القوم : هنيئاً مريئاً قد بين الله ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فأنزل الله الآية التي بعدها : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } حتى ختم الآية .

قوله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } اختلفوا في هذا الفتح : وروي عن أبي جعفر الرازي عن قتادة عن أنس : أنه فتح مكة ، وقال قتادة : فتح خيبر . والأكثرون على أنه صلح الحديبية . ومعنى الفتح فتح المنغلق ، والصلح مع المشركين بالحديبية كان متعذراً حتى فتحه الله عز وجل . وروى شعبة عن قتادة عن أنس : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } قال : صلح الحديبية .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحاً ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان ، يوم الحديبية كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة ، والحديبية بئر ، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها : غير بعيد ، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا " . وقال الشعبي في قوله :{ إنا فتحنا لك فتحاً مبينا } ، قال : فتح الحديبية ، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدي محله ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس . قال الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم ، أسلم في ثلاث سنين خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإسلام . قوله عز وجل : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } أي : قضينا لك قضاءً بيناً . وقال الضحاك : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً بغير قتال ، وكان الصلح في قوله :{ ليغفر } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الفتح وهي مدنية

{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا }

هذا الفتح المذكور هو صلح الحديبية ، حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء معتمرا في قصة طويلة ، صار آخر أمرها أن صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ، وعلى أن يعتمر من العام المقبل ، وعلى أن من أراد أن يدخل في عهد قريش وحلفهم دخل ، ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده فعل .

وبسبب ذلك لما أمن الناس بعضهم بعضا ، اتسعت دائرة الدعوة لدين الله عز وجل ، وصار كل مؤمن بأي محل كان من تلك الأقطار ، يتمكن من ذلك ، وأمكن الحريص على الوقوف على حقيقة الإسلام ، فدخل الناس في تلك المدة في دين الله أفواجا ، فلذلك سماه الله فتحا ، ووصفه بأنه فتح مبين أي : ظاهر جلي ، وذلك لأن المقصود في فتح بلدان المشركين إعزاز دين الله ، وانتصار المسلمين ، وهذا حصل بذلك{[789]}  الفتح ، ورتب الله على هذا الفتح عدة أمور ، فقال :


[789]:في ب: به.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة وتمهيد

1- سورة الفتح من السور المدنية ، وعدد آياتها تسع وعشرون آية ، وكان نزولها في أعقاب صلح الحديبية .

قال ابن كثير –رحمه الله- : نزلت سورة " الفتح " لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة ، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، ليقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة . . . ( {[1]} ) .

2- والمتدبر للقرآن الكريم ، يرى كثيرا من آياته وسوره ، في أعقاب بعض الغزوات ، ليتعلم المسلمون من تلك الآيات والسور ما ينفعهم وما يصلح من شأنهم .

فمثلا في أعقاب غزوة " بدر " نزلت سورة الأنفال التي سماها ابن عباس سورة بدر .

وفي أعقاب غزوة " أحد " نزلت عشرات الآيات في سورة آل عمران .

وفي أعقاب غزوة " بني النضير " نزلت آيات من سورة الحشر .

وفي أعقاب غزوة " الأحزاب " نزلت آيات من سورة الأحزاب .

وفي أعقاب صلح الحديبية نزلت هذه السورة الكريمة ، التي تحكي الكثير من الأحداث التي تتعلق بهذا الصلح .

3- وقبل أن نبدأ في تفسير هذه السورة الكريمة ، نرى من الخير أن نعطي للقارئ فكرة واضحة عن صلح الحديبية ، التي نزلت في أعقابه هذه السورة . . فنقول –وبالله التوفيق- :

رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أنه قد دخل المسجد الحرام هو وأصحابه ، وقد صرحت السورة الكريمة بذلك في قوله –تعالى- : [ لقد صدق الله رسول الرؤيا بالحق ، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون . . . ] فقص صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا بها . وكان المشركون قد منعوهم من دخول مكة ، ومن الطواف بالمسجد الحرام .

4- وخرج صلى الله عليه وسلم ومعه حوالي أربعمائة وألف من أصحابه ، ليس معهم من السلاح سوى السيوف في أغمادها ، وساقوا معهم الهدى الذي يتقربون بذبحه إلى الله –تعالى- ليكون دليلا على أنهم لا يريدون حرب قريش ، وإنما يريدون الطواف بالبيت الحرام .

وسار صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فلما وصل إلى " عُسْفَان " وهو مكان بين مكة والمدينة –جاءه بشر بن سفيان العكبي وكان مكلفا من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم لمعرفة أخبار قريش فقال : يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العُوذُ المطَافِيلُ –أي : ومعهم الإبل التي لم تلد ، والإبل التي ولدت ، قد لبسوا جلود النمور –أي : قد استعدوا لقتالك وقد نزلوا بِذِي طَوىً –وهو مكان بالقرب من مكة- ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا . .

فقال صلى الله عليه وسلم : " يا ويح قريش ! ! لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم ، دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به ، حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة " أي أو أن أقتل في سبيل الله .

ثم قال صلى الله عليه وسلم : " مَن رجلُ يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها " ؟ .

فقال رجل من قبيلة أسلم : أنا يا رسول الله ، فسلك بهم طريقا وعرا ، انتهى يهم إلى " الحديبية " وهي قرية على بعد مرحلة من مكة ، أو هي بئر سمى المكان بها .

5- وفي هذا المكان بركت القصواء –وهي الناقة التي كان يركبها النبي صلى الله عليه وسلم فقال الناس : خلأت الناقة أي : حرنت وأبت المشي - ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لا تدعوني قريش إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها " .

ثم أمر صلى الله عليه وسلم الناس بالنزول في هذا المكان . .

6- وعلمت قريش بنزول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية ، فبدأوا يرسلون رسلهم لمعرفة الأسباب التي حملت المسلمين إلى المجيء إليهم .

وكان من بين الرسل بُدَيل بن ورقاء الخزاعي . . فلما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبب مجيئه إلى مكة ، أخبره أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت الحرام ، ومعظما لحرمته . .

وعاد بديل إلى مكة ، وأخير المشركين بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنهم لم يقتنعوا ، وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا . والله لا يدخلها علينا عنوة أبدا . . .

7- ثم أرسلت قريش رسلا آخرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان من بينهم ، عروة بن مسعود الثقفي . . فكان مما قاله للرسول صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، أجمعت أوشاب الناس –أي : أخلاطهم- ثم جئت بهم إلى أهلك . . إن قريشا قد تعاهدت أنك لن تدخل عليهم مكة عنوة . .

وكان عروة خلال حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يمد يده إلى لحيته صلى الله عليه وسلم فكان المغيرة ابن شعبة يقرع يد عروة ويقول له : اكفف يداك عن وجه رسول الله قبل أن لا تصل إليك .

وشاهد عروة ما شاهد من احترام المسلمين لرسولهم صلى الله عليه وسلم فعاد إلى المشركين وقال لهم : يا معشر قريش ، إني قد جئت كسرى في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا ، فروا رأيكم . .

8- ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش عثمان بن عفان –رضي الله عنه- لكي يخبرهم بأن المسلمين ما جاءوا لحرب ، وإنما جاءوا للطواف بالبيت .

وذهب إليهم عثمان وأخبرهم بذلك ، ولكنهم صمموا على منع المسلمين من دخول مكة ، قالوا لعثمان : إن شئت أنت أن تطوف بالبيت فطف .

فقال لهم : ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال مكث عثمان عند قريش ، حتى أشبع بين المسلمين أنه قد قتله المشركون .

فقال صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن عثمان قد قتل : " لا نبرح حتى نناجز القوم " ودعا المسلمين إلى مبايعته على الموت ، فبايعه المسلمون على ذلك تحت شجرة الرضوان . . .

ثم جاء عثمان بعد ذلك دون أن يصيبه أذى . . .

9- وأخيرا أوفدت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا منهم اسمه سهيل بن عمرو ، ليعقد صلحا مع المسلمين ، وقالوا له : أنت محمدا فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا . .

وعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سهيلا مقبلا نحوه ، قال لأصحابه : لقد سهل الله لكم من أمركم ، إن قريشا أرادت الصلح حين بعث هذا الرجل .

وتم الصلح بين الفريقين على ما يأتي :

أولا : أن يرجع المسلمون دون زيارة البيت هذا العام ، فإذا كان العام التالي : أخلت قريش لهم مكة ثلاثة أيام ، ليطوفوا بالبيت ، وليس معهم إلا السيوف في غمدها . .

ثانيا : أن تضع الحرب أوزارها بين الطرفين عشر سنوات .

ثالثا : من أتى الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش مسلما بغير إذن وليه رده إليهم ، ومن أتى قريش من المسلمين لم يردوه .

رابعا : من أحب أن يدخل في عقد مع الرسول صلى الله عليه وسلم فله ما أراد . ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فله ذلك .

ولقد عز على بعض المسلمين قبول الرسول صلى الله عليه وسلم فله ما أراد . ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فله ذلك .

ولقد عز على بعض المسلمين قبول الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الشروط ، التي ظاهرها الظلم للمسلمين ، حتى قال عمر –رضي الله عنه- للرسول صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري " .

ثم أشار صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين أن يتحللوا من عمرتهم ، بأن ينحروا هديهم ، وأن يحلقوا رءوسهم أو يقصروا . ولكنهم لم يسارعوا بالامتثال ، فدخل صلى الله عليه وسلم على زوجه أم سلمة –رضي الله عنها- ، وقد ظهر الغضب على وجهه .

فقالت له : يا رسول الله ، اعذرهم ، وابدأ بما تأمرهم به دون أن تكلم منهم أحدا .

فقام صلى الله عليه وسلم فنحر هديه ، ودعا حالقه فحلق له ، فلما رأى المسلمون ذلك من نبيهم ، قاموا فنحروا هديهم ، وجعل بعضهم يحلق بعضا .

ثم أقام المسلمون بعد ذلك عدة أيام بالحديبية ، ثم قفلوا راجعين إلى المدينة ، وعندما سمع صلى الله عليه وسلم بعضهم يقول : لقد رجعنا ولم نصنع شيئا . .

قال صلى الله عليه وسلم " بل فتحتم أعظم الفتح " .

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله هذا . فقد كان صلح الحديبية فتحا عظيما ، كما تبين ذلك عند تفسيرنا للسورة الكريمة .

وبهذا العرض المجمل لأحداث صلح الحديبية ، نكون قد أعطينا القارئ فكرة مركزة عن هذا الصلح ، وعن الجو العام الذي نزلت في أعقابه سورة الفتح ، ومن أراد المزيد لمعرفة أحداث صلح الحديبية فليرجع إلى كتب السيرة( {[2]} ) .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .

افتتحت سورة " الفتح " بهذه البشارات السامية ، والمدائح العالية للنبى - صلى الله عليه وسلم - افتتحت بقوله - تعالى - : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } .

والفتح فى الأصل : إزالة الأغلاق عن الشئ . . وفتح البلد : المقصود به الظفر به ، ووقوعه تحت سيطرة الفاتح .

والذى عليه المحققون من العلماء أن المراد بالفتح هنا : صلح الحديبية وما ترتب عليه من خيرات كثيرة ، ومنافع جمة للمسلمين .

ويشهد لذلك أحاديث متعددة منها : ما أخرجه البخارى وأبو داود والنسائى عن ابن مسعود قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان قد خرج إليها - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين هلال ذى القعدة ، فأقام بها بضعة عشر يوما ، ثم قفل راجعا إلى المدينة ، فينما نحن نسير إلى المدينة إذ أتاه الوحى - وكان إذا أتاه اشتد عليه - فسرى عنه وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبرنا أنه أنزل عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } .

وروى الإِمام أحمد وأبو داود عن مجمع بن جارية الأوسى قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا منها وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا عند كراع الغميم - موضع بين مكة والمدينة - وقد جمع الناس وقرأ عليهم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } الآيات .

فقال رجل : يا رسول الله ، أو فتح هو ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : أو والذى نفسى بيده إنه لفتح .

ويرى بعضهم : أن المراد بالفتح هنا : فتح مكة ، والتعبير عنه بالماضى فى قوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } لتحقق الوقوع ، فهو من قبيل قوله - تعالى - : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . . . } ويبدو لنا أن المراد بالفتح هنا صلح الحديبية لوجود اللآثار الصحيحة التى تشهد لذلك ، ولأن هذا الصلح قد ترتب عليه من المنافع للدعوة الإِسلامية ما يجعله من أعظم الفتوح ، إن لم يكن أعظمها .

لقد ترتب عليه أن انتشر الأمان بين المسلمين والمشركين ، فاستطاع المسلمون أن ينشروا دعوة الحق فى مكة وفى غيرها ، كما استطاعوا أن ينتقلوا من مكان إلى آخر للتبشير بدينهم ، فترتب على ذلك أن دخل فى الإِسلام عدد كبير من الناس .

قال الزهرى : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين ، فسمعوا كلامهم ، وتمكن الإِسلام من قلوبهم ، وأسلم خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإِسلام .

قال ابن هشام : والدليل على صحة قول الزهرى ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الحديبية فى الف وأربعمائة من أصحابه ثم خرج إلى مكة فى عام الفتح - بعد ذلك بسنتين - فى عشرة آلاف من أصحابه .

وقد أكد - سبحانه - هذا الفتح بثلاثة أنواع من المؤكدات ، وهى " إن " والمصدر " فتحا " والوصف " مبينا " وذلك للمسارعة إلى تبشير المؤمنين بتحقق هذا الفتح ، ولإِدخال السرور على قلوبهم ، بعد تلك الشروط التى اشتمل عليها الصلح ، والتى ظنها بعضهم أن فيها إجحافا بالمسلمين .

وأسند - سبحانه - الفعل إلى نون العظمة { فَتَحْنَا } لتفخيم شأن المخبر - عز وجل - وعلو شأن المخبَر عنه وهو الفتح .

وقدم - سبحانه - الجار والمجرور { لَكَ } على المفعول المطلق { فَتْحاً } للاهتمام وللإِشعار بأن ذلك الفتح كان من أجله - صلى الله عليه وسلم - وفى ذلك ما فيه من تعظيم أمره - صلى الله عليه وسلم - ومن وجوب طاعته ، والامتثال لأمره .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
[2]:- سورة الإسراء. الآية 9.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مّبِيناً * لّيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخّرَ وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ اللّهُ نَصْراً عَزِيزاً } .

يعني بقوله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا يقول : إنا حكمنا لك يا محمد حكما لمن سمعه أو بلغه على من خالفك وناصبك من كفار قومك ، وقضينا لك عليهم بالنصر والظفر ، لتشكر ربك ، وتحمده على نعمته بقضائه لك عليهم ، وفتحه ما فتح لك ، ولتسبحه وتستغفره ، فيغفر لك بفعالك ذلك ربك ، ما تقدّم من ذنبك قبل فتحه لك ما فتح ، وما تأخّر بعد فتحه لك ذلك ما شكرته واستغفرته .

وإنما اخترنا هذا القول في تأويل هذه الآية لدلالة قول الله عزّ وجلّ إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالفَتْح ، ورأيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أفْوَاجا ، فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كانَ تَوّابا على صحته ، إذ أمره تعالى ذكره أن يسبح بحمد ربه إذا جاءه نصر الله وفتح مكة ، وأن يستغفره ، وأعلمه أنه توّاب على من فعل ذلك ، ففي ذلك بيان واضح أن قوله تعالى ذكره : لَيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخّرَ إنما هو خبر من الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام عن جزائه له على شكره له ، على النعمة التي أنعم بها عليه من إظهاره له ما فتح ، لأن جزاء الله تعالى عباده على أعمالهم دون غيرها .

وبعد ففي صحة الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم حتى ترِم قدماه ، فقيل له : يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : «أفَلا أكُونُ عَبْدا شَكُورا ؟ » ، الدلالة الواضحة على أن الذي قلنا من ذلك هو الصحيح من القول ، وأن الله تبارك وتعالى ، إنما وعد نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم غفران ذنوبه المتقدمة ، فتح ما فتح عليه ، وبعده على شكره له ، على نعمه التي أنعمها عليه . وكذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم : «إنّي لأَسْتَغْفِرُ اللّهَ وأتُوبُ إلَيْهِ فِي كُلّ يَوْمٍ مِئَةَ مَرّةٍ » ولو كان القول في ذلك أنه من خبر الله تعالى نبيه أنه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر على غير الوجه الذي ذكرنا ، لم يكن لأمره إياه بالاستغفار بعد هذه الآية ، ولا لاستغفار نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ربه جلّ جلاله من ذنوبه بعدها معنى يعقل ، إذ الاستغفار معناه : طلب العبد من ربه عزّ وجلّ غفران ذنوبه ، فإذا لم يكن ذنوب تغفر لم يكن لمسألته إياه غفرانها معنى ، لأنه من المحال أن يقال : اللهمّ اغفر لي ذنبا لم أعمله . وقد تأوّل ذلك بعضهم بمعنى : ليغفر لك ما تقدّم من ذنبك قبل الرسالة ، وما تأخر إلى الوقت الذي قال : إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ . وأما الفتح الذي وعد الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم هذه العدة على شكره إياه عليه ، فإنه فيما ذُكر الهدنة التي جرت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش بالحديبية .

وذُكر أن هذه السورة أُنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفة عن الحديبية بعد الهدنة التي جرَت بينه وبين قومه . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال : قضينا لك قضاءً مبينا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا والفتح : القضاء .

ذكر الرواية عمن قال : هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ذكرت :

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن عامر إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال : الحديبية .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال : نحرُه بالحديبية وحَلْقُه .

حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا أبو بحر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا جامع بن شدّاد ، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : لما أقبلنا من الحُديبية أعرسنا فنمنا ، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت ، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم ، قال : فقلنا أيقظوه ، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «افْعَلُوا كمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ ، فكذلك من نام أو نسي » قال : وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدناها قد تعلّق خطامها بشجرة ، فأتيته بها ، فركب فبينا نحن نسير ، إذ أتاه الوحي ، قال : وكان إذا أتاه اشتدّ عليه فلما سري عنه أخبرنا أنه أُنزل عليه : إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا .

حدثنا أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي يحدّث عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، قال : لما رجعنا من غزوة الحديبية ، وقد حيل بيننا وبين نسكنا ، قال : فنحن بين الحزن والكآبة ، قال : فأنزل الله عزّ وجلّ : إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ ، وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ، ويَهْدِيَكَ صِرَاطا مُسْتَقِيما ، أو كما شاء الله ، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَليّ آيَةٌ أحَبّ إليّ مِنَ الدّنْيا جَمِيعا » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، في قوله : إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال : نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية ، وقد حيل بينهم وبين نسكهم ، فنحر الهدي بالحديبية ، وأصحابه مخالطو الكآبة والحزن ، فقال : «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَليّ آيَةٌ أحَبّ إليّ مِنَ الدّنْيا جَمِيعا » ، فَقَرأ إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ . . . إلى قوله : عَزِيزا فقال أصحابه هنيئا لك يا رسول الله قد بين الله لنا ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ، فأنزل الله هذه الآية بعدها لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنات جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارَ خالِدِينَ فِيها . . . إلى قوله : وكانَ ذلكَ عِنْدَ اللّهِ فَوْزا عَظِيما .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا همام ، قال : حدثنا قتادة ، عن أنس ، قال : أُنزلت هذه الآية ، فذكر نحوه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بنحوه ، غير أنه قال في حديثه : فَقال رجل من القوم : هنيئا لك مريئا يا رسول الله ، وقال أيضا : فبين الله ماذا يفعل بنبيه عليه الصلاة والسلام ، وماذا يفعل بهم .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : «نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ مرجعه من الحديبية ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ نَزَلَتْ عَليّ آيَةٌ أحَبّ إليّ مِمّا عَلى الأرْضِ » ، ثم قرأها عليهم ، فقالوا : هنيئا مريئا يا نبيّ الله ، قد بين الله تعالى ذكره لك ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه : لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ . . . إلى قوله : فَوْزا عَظِيما » .

حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، قال : لما نزلت هذه الآية إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ ، وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ، ويَهْدِيَكَ صِرَاطا مُسْتَقِيما قالوا : هنيئا مريئا لك يا رسول الله ، فماذا لنا ؟ فنزلت لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ خالِدِينَ فِيها ، وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت قتادة يحدّث عن أنس في هذه الآية إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال : الحديبية .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن حماد ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : ما كنا نعدّ فتح مكة إلا يوم الحديبية .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن عبد العزيز بن سياه ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي وائل ، قال : تكلم سهل بن حنيف يوم صفّين ، فقال : يا أيها الناس اتهموا أنفسكم ، لقد رأيتنا يوم الحديبية ، يعني الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين ، ولو نرى قتالاً لقاتلنا ، فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ألسنا على حقّ وهم على باطل ؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : «بَلى » ، قال : ففيم نُعطَى الدنية في ديننا ، ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال : «يا بْنَ الخَطّابِ ، إنّي رَسُولُ الله ، وَلَنْ يُضَيّعَنِي أبَدا » ، قال : فرجع وهو متغيظ ، فلم يصبر حتى أتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ألسنا على حقّ وهم على باطل ؟ أليس قتلانا في الجنة ، وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى ، قال : ففيم نعطَى الدنية في ديننا ، ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال : يا بن الخطاب إنه رسول الله ، لن يضيعه الله أبدا ، قال : فنزلت سورة الفتح ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر ، فأقرأه إياها ، فقال : يا رسول الله ، أوَ فَتْح هو ؟ قال : «نَعَمْ » .

حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان عن جابر ، قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : تعدّون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحا ، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة مِئة ، والحديبية : بئر .

حدثني موسى بن سهل الرملي ، حدثنا محمد بن عيسى ، قال : حدثنا مُجَمع بن يعقوب الأنصاريّ ، قال : سمعت أبي يحدّث عن عمه عبد الرحمن بن يزيد ، عن عمه مجمّع بن جارية الأنصاريّ ، وكان أحد القرّاء الذين قرأوا القرآن ، قال : شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرفنا عنها ، إذا الناس يهزّون الأباعر ، فقال بعض الناس لبعض : ما للناس ، قالوا : أُوحِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا ، لَيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ فقال رجل : أوَ فتحٌ هو يا رسول الله ؟ قال : «نَعَمْ » ، «وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّهُ لَفَتْحٌ » ، قال : فقُسّمَت خيبر على أهل الحديبية ، لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية ، وكان الجيش ألفا وخمس مئة ، فيهم ثلاث مئة فارس ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما ، فأعطى الفارس سهمين ، وأعطى الراجل سهما .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : نزلت إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا بالحديبية ، وأصاب في تلك الغزوة ما لم يصبه في غزوة ، أصاب أن بُويع بيعة الرضوان ، وغُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وظهرت الروم على فارس ، وبلغ الهَدْىُ مَحِله ، وأُطعموا نخل خيبر ، وفرح المؤمنون بتصديق النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وبظهور الروم على فارس .

وقوله تعالى : وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإظهاره إياك على عدوّك ، ورفعه ذكرك في الدنيا ، وغفرانه ذنوبك في الاَخرة ويَهْدِيَكَ صِرَاطا مُسْتَقِيما يقول : ويرشدك طريقك من الدين لا اعوجاج فيه ، يستقيم بك إلى رضا ربك وَيَنْصُرَكَ اللّهُ نَصْرا عَزِيزا يقول : وينصرك على سائر أعدائك ، ومن ناوأك نصرا ، لا يغلبه غالب ، ولا يدفعه دافع ، للبأس الذي يؤيدك الله به ، وبالظفر الذي يمدّك به .