قوله تعالى : { قل إنما أعظكم } آمركم وأوصيكم بواحدة ، أي : بخصلة واحدة ، ثم بين تلك الخصلة فقال : { أن تقوموا لله } لأجل الله ، { مثنى } أي : اثنين اثنين ، { وفرادى } أي : واحداً واحد { ثم تتفكروا } جميعاً أي : تجتمعون فتنظرون وتتحاورون وتنفردون ، فتفكرون في حال محمد صلى الله عليه وسلم فتعلموا ، { ما بصاحبكم من جنة }أي : جنون ، وليس المراد من القيام القيام الذي هو ضد الجلوس ، وإنما هو قيام بالأمر الذي هو في طلب الحق ، كقوله : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } { إن هو } ما هو ، { إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } قال مقاتل : تم الكلام عند قوله : ثم تتفكروا أي : في خلق السموات والأرض فتعلموا أن خالقها واحد لا شريك له ، ثم ابتدأ فقال : { ما بصاحبكم من جنة } .
بعد كل ذلك لقن الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم الحجج القاطعة ، والأقوال الحكيمة ، التى تهدى إلى الرشد بأبلغ أسلوب ، واصدق بيان ، فقال - تعالى - : { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ . . . إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } .
قوله - تعالى - { أَعِظُكُمْ } من الوعظ ، وهو تذكير الغير بالخير والبر بكلام مؤثر رقيق يقال : وعظه يعظه وعظا وعظه ، إذا أمره بالطاعة ووصاه بها .
وقوله { بِوَاحِدَةٍ } صفة لموصوف محذوف .
والتقدير : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين الذين قالوا الكذب فى شأنك وفى شأن ما جئت به ، قل لهم : إنما أعظكم وآمركم وأوصيكم بكلمة واحدة ، أو بخصلة واحدة .
ثم فسر - سبحانه - هذه الكلمة بقوله : { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى } . والمراد بالقيام هنا : التشمير عن ساعد الجد ، وتلقى ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم بقلب مفتوح . وعقل واع ، ونفس خالية من التعصب والحقد والعكوف على التقليد .
و { مثنى وفرادى } أى : متفرقين اثنين اثنين ، وواحدة واحدا ، وهما منصوبان على الحال .
{ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } بعد ذلك فى أمر هذا الرسول صلى الله عليه وسلم وفى أمر رسالته ، وفى أمر ما جاء به من عند ربه ، فعند ذلك ترون أنه على الحق ، وأنه قد جاءكم بما يسعدكم .
فالآية الكريمة تأمرهم أن يفكر كل اثنين بموضوعية وإنصاف فى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يعرض كل واحد منهما حصيلة تفكيره على صاحبه ، وأن يفكر كل واحد منهم على انفراد - أيضا فى شأن هذا الرسول ، من غير تعصب وهوى .
وقدم الاثنين فى القيام على المنفرد ، لأن تفكير الاثنين فى الأمور بإخلاص واجتهاد وتقدير ، أجدى فى الوصول إلى الحق من تفكير الشخص الواحد ولم يأمرهم بأن يتفكروا فى جماعة ، لأن العقلية الجماعية كثيرا ما تتبع الانفعال الطارئ . وقلما تتريث فى الحكم على الأمور .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : والمعنى : إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها ، أصبتم الحق ، وتخلصتم من الباطل - وهى : أن تقوموا لوجه الله خالصا ، متفرقين اثنين اثنين ، وواحدا واحدا ، { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } فى أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به .
أما الاثنان : فيتكفر ان ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه ، وينظران فيه متصادقين متناصفين ، لا يميل بهما اتباع هوى ، ولا ينبض لهما عرق عصبية ، حتى يهجم بهما الفكر الصالح ، والنظر الصحيح على جادة الحق يفكر فى نفس .
وكذلك الفرد : ه بعدل ونصفة من غير أن يكابرها ، ويعرض فكره على عقله وذهنه ، وما استقر عنده من عادات العقلاء ، ومجارى أحوالهم . والذى أوجب تفرقهم مثنى وفرادى ، أن الاجتماع مما يشوش الخواطر ، ويعمى البصائر ، ويمنع من الروية ، ويخلط القول . ومع ذلك يقل الإِنصاف ويكثر الاعتساف : ويثور عجاج التعصب .
وقوله - سبحانه - : { مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } كلام مستأنف بجئ به لتنزيه ساحته صلى الله عليه وسلم عما افتراه عليه المفرتون من كونه قد أصيب بالجنون .
أى : اجتمعوا اثنين اثنين ، أو واحدا واحدا ، ثم تفكروا بإخلاص وروية فترون بكل تأكيد أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس به شئ من الجنون ، إنما هو أرجح الناس عقلا ، وأصدقهم قولا ، وأفضلهم علما ، وأحسنهم عملا ، وأزكاهم نفسا ، وأنقاهم قلبا ، وأجمعهم لكل كمال بشرى .
وقوله - تعالى - { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } بيان لوظيفته صلى الله عليه وسلم أى : ليس به صلى الله عليه وسلم من جنون ، وإنما هو نذير لكم ، يحذركم ويخوفكم من العذاب الشديد الذى سينزل بكم يوم القيامة ، إذا ما بقيتم على شرككم وكفركم ، وهذا العذاب ليس بعيدا عنكم .
قال الإِمام ابن كثير : " قال الامام أحمد : حدثنا بشير بن المهاجر ، حدثنى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فنادى ثلاث مرات فقال : " أيها الناس أتدرون ما مثلى ومثلكم " ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم فقال : " إنما مثلى ومثلكم كمثل قوم خافوا عدوا يأتيهم . فبعثوا رجلا يتراءى لهم ، فبينما هو كذلك أبصر العدو ، فأقبل لينذرهم وخشى أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه ، فأهوى بثوبته وقال : أيها الناس أوتيتم . أيها الناس وأتيتم . . " " .
وبهذا الاسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعثت أنا والساعة جميعا ، إن كادت لتسبقنى " .
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون : { إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } أي : إنما آمركم بواحدة ، وهي : { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } أي : تقوموا قياما خالصًا لله ، من غير هوى ولا عصبية ، فيسأل بعضكم بعضا : هل بمحمد من جنون ؟ فينصح بعضكم بعضا ، { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } أي : ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه ، ويتفكر في ذلك ؛ ولهذا قال : { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } .
هذا معنى ما ذكره مجاهد ، ومحمد بن كعب ، والسُّدِّيّ ، وقتادة ، وغيرهم ، وهذا هو المراد من الآية .
فأما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «أعطيت ثلاثا لم يعطهن مَن قبلي ولا فخر : أحلت لي الغنائم ، ولم تحل لمن قبلي ، كانوا قبلي يجمعون غنائمهم فيحرقونها . وبُعثت إلى كل أحمر وأسود ، وكان كل نبي يبعث إلى قومه ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ، أتيمم بالصعيد ، وأصلي حيث أدركتني الصلاة ، قال الله : { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } وأعنت بالرعب مسيرة شهر بين يدي " - فهو حديث ضعيف الإسناد ، وتفسير الآية بالقيام في الصلاة في جماعة وفرادى بعيد ، ولعله مقحم في الحديث من بعض الرواة ، فإن أصله ثابت في الصحاح وغيرها{[24399]} والله أعلم .
وقوله : { إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } : قال{[24400]} البخاري عندها :
حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا محمد بن خَازم ، حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مرَّة ، عن سعيد بن جُبَيْر{[24401]} ، عن ابن عباس قال : صَعدَ النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم ، فقال : " يا صباحاه " . فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : ما لك ؟ فقال : " أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يُصَبّحكم أو يُمَسّيكم ، أما كنتم تصدقوني ؟ " قالوا : بلى . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تبا لك ! ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد ] . {[24402]}
وقد تقدم عند قوله : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا بشير بن المهاجر ، حدثني عبد الله بن بريدة ، {[24403]} عن أبيه قال : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فنادى ثلاث مرات فقال : " أيها الناس ، أتدرون ما مثلي ومثلكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " إنما مثلي ومثلكم مثلُ قوم خافوا عدوا يأتيهم ، فبعثوا رجلا يتراءى لهم ، فبينما هو كذلك أبصر العدو ، فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه ، فأهوى بثوبه : أيها الناس ، أوتيتم . أيها الناس ، أوتيتم - ثلاث مرات " .
وبهذا الإسناد{[24404]} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بعثت أنا والساعة جميعًا ، إن كادت لتسبقني » . تفرد به الإمام أحمد في مسنده . {[24405]}
{ قل إنما أعظكم بواحدة } أرشدكم وانصح لكم بخصلة واحدة هي ما دل عليه : { أن تقوموا لله } وهو القيام من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو الانتصاب في الأمر خالصا لوجه الله معرضا عن المراء والتقليد . { مثنى وفرادى } متفرقين اثنين اثنين وواحدا واحدا ، فإن الازدحام يشوش الخاطر وبخلط القول . { ثم تتفكروا } في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به لتعلموا حقيقته ، ومحله الجر على البدل أو البيان أو الرفع أو النصب بإضمار هو أعني . { ما بصاحبكم من جنة } فتعلموا ما به من جنون يحمله على ذلك ، أو استئناف منبه لهم على أن ما عرفوا من رجاحة عقله كاف في ترجيح صدقه ، فإنه لا يدعه أن يتصدى لادعاء أمر خطير وخطب عظيم من غير تحقق ووثوق ببرهان ، فيفتضح على رؤوس الأشهاد ويلقي نفسه إلى الهلاك ، فكيف وقد انضم إليه معجزات كثيرة . وقيل { ما } استفهامية والمعنى : ثم تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون : { إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } قدامه لأنه مبعوث في نسيم الساعة .