قوله عز وجل{ وما قدروا الله حق قدره } ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره ، ثم أخبر من عظمته فقال : { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، حدثنا شيبان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : " جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع ، فيقول : أنا الملك ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجده تصديقاً لقول الحبر " ثم قرأ : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } ورواه مسلم بن الحجاج ، عن عبد الله بن يونس ، عن فضيل بن عياض ، عن منصور ، وقال : " والجبال والشجر على إصبع ، وقال : ثم يهزهن هزاً ، فيقول " أنا الملك أنا الله " . أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني الحسين بن فنجويه ، حدثنا عمر بن الخطاب ، حدثنا عبد الله بن الفضل ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو أسامة ، عن عمر بن حمزة ، عن سالم بن عبد الله ، أنبأنا عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يطوي الله السماوات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك : أين الجبارون أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرضين ، ثم يأخذهن بشماله ، ثم يقول : أنا الملك : أين الجبارون أين المتكبرون ؟ " هذا حديث صحيح ، أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشمهيني ، حدثنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، حدثنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن مبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، حدثني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقبض الله الأرض يوم القيامة ، ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك : أين ملوك الأرض " .
ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المشركين بعبادتهم لغير الله - تعالى - قد تجاوزوا حدودهم معه - عز وجل - ولم يعطوه ما يستحقه من تنزيه وتقديس فقال : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } .
أى : أن هؤلاء المشركين بعبادتهم لغيره - تعالى - ، ما عظموه حق تعظيمه ، وما أعطوه ما يستحقه - سبحانه - من تقديس وتكريم وتنزيه وطاعة .
ثم ساق - سبحانه - ما يدل على وحدانيته . وكمال قدرته . فقال : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } .
والقَبْضة : المرة من القَبْض ، وتطلق على المقدار المقبوض بالكف . ومطويات أى : مجموعات تحت قدرته وملكه ، كما يجمع الكتاب المطوى ، والجملة الكريمة حال من لفظ الجلالة ، فيكون المعنى : إن هؤلاء المشركين لم يعظموا الله حق تعظيمه ، حيث أشركوا معه فى العبادة آلهة أخرى هى من مخلوقاته ، والحال أنه - سبحانه - هو المتولى لإِبقاء السموات والأرض على حالهما فى الدنيا ، وهو المتولى لتبديلهما ، أو إزالتهما فى الآخرة ، فالأرض كلها مع عظمتها وكثافتها تكون يوم القيامة فى قبضته وتحت قدرته ، كالشئ الذى يقبض عليه القابض ، والسموات كذك مع ضخامتها واتساعها ، تكون مطويات بيمينه وتحت قدرته وتصرفه ، كما يطوى الواحد منا الشئ الهين القليل بيمينه ، وما دام الأمر كذلك فكيف يشركون معه غيره فى العبادة ؟
فالمقصود من الآية الكريمة بيان وحدانيته وعظمته وقدرته - سبحانه - وبيان ما عليه المشركون من جهالة وانطماس بصيرة حين أشركوا معه فى العبادة غيره .
قال صاحب الكشاف : والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعته ، تصوير عظمته ، والتوقيف على كنه جلاله لا غير ، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز . .
وقال الآلوسى : والكلام فى هذه الآية عند كثير من الخلف ، تمثيل لحال عظمته - تعالى - ونفاذ قدرته . . بحال من يكون له قبضة فيها الأرض جميعا ، ويمين بها يطوى السموات ، أو بحال من يكون له قبضة فيها الأرض والسموات ، ويمين بها يطوى السموات .
والسلف يقولون : إن الكلام هنا تنبيه على مزيد جلالته - تعالى - . إلا أنهم لا يقولون إن القبضة مجاز عن الملك أو التصرف ، ولا اليمين مجاز عن القدرة ، بل ينزهون الله - تعالى - عن الأعضاء والجوارح ، ويؤمنون بما نسبه - تعالى - : إلى ذاته بالمعنى اللائق به الذى أراده - سبحانه - وكذا يفعلون فى الأخبار الواردة فى هذا المقام .
فقد أخرج البخارى ومسلم عن ابن مسعود قال : " جاء حبر من الأحبار إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد . إنا نجد الله يحمل السموات يوم القيامة على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع . فيقول : أنا الملك . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ، ثم قرأ هذه الآية . . "
وقدم - سبحانه - الأرض على السموات لمباشرتهم لها ، ومعرفتهم بحقيقتها .
وخص يوم القيامة بالذكر ، وإن كانت قدرته عامة وشاملة لدار الدنيا - أيضا - لأن الدعاوى تنقطع فى ذلك اليوم .
كما قال - تعالى - { والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } روى الشيخان عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يطوى الله السموات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول أنا الملك ، أين الجبارون ، أين المتكبرون ، أين ملوك الأرض " .
وقوله - تعالى - : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيه له - تعالى - : عما افتراه المفترون .
أى : تنزه وتقدس الله - تعالى - عن شرك المشركين ، وعن ضلال الضالين .
( وما قدروا الله حق قدره ) . .
نعم . ما قدروا الله حق قدره ، وهم يشركون به بعض خلقه . وهم لا يعبدونه حق عبادته . وهم لا يدركون وحدانيته وعظمته . وهم لا يستشعرون جلاله وقوته .
ثم يكشف لهم عن جانب من عظمة الله وقوته . على طريقة التصوير القرآنية ، التي تقرب للبشر الحقائق الكلية في صورة جزئية ، يتصورها إدراكهم المحدود :
( والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة . والسماوات مطويات بيمينه . سبحانه وتعالى عما يشركون ) . .
وكل ما يرد في القرآن وفي الحديث من هذه الصور والمشاهد إنما هو تقريب للحقائق التي لا يملك البشر إدراكها بغير أن توضع لهم في تعبير يدركونه ، وفي صورة يتصورونها . ومنه هذا التصوير لجانب من حقيقة القدرة المطلقة ، التي لا تتقيد بشكل ، ولا تتحيز في حيز ، ولا تتحدد بحدود .
لما جرى الكلام على أن الله تعالى خلق كل شيء وأن له مقاليد السماوات والأرض وهو مُلك عوالم الدنيا ، وذيل ذلك بأن الذين كفروا بدليل الوحدانية هم الخاسرون ، وانتقلَ الكلام هنا إلى عظمة مُلك الله تعالى في العالم الأخروي الأبدي ، وأن الذين كفروا بآيات الله الدالة على ملكوت الدنيا قد خسروا بترك النظر ، فلو اطلعوا على عظيم ملك الله في الآخرة لقدّروه حقّ قدره فتكون الواو عاطفة جملة { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } على جملة { له مقاليد السموات والأرض } [ الزمر : 63 ] ويكون قوله : { وما قدروا الله } الخ معترضاً بين الجملتين ، اقتضاها التناسب مع جملة { والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون } [ الزمر : 63 ] .
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة الله خالق كل شيء [ الزمر : 62 ] فتكون جملة { وما قدروا الله حق قدره } وجملة { والأرض جميعاً قبضته } كلتاهما معطوفتين على جملة { الله خالق كل شيء } [ الزمر : 62 ] . والمعنى : هو هو ، إلا أن الحال أوضح إفصاحاً عنه .
ويجوز أن تكون جملة { والأرض جميعاً قبضته } عطفَ غرض على غرض انتُقل به إلى وصف يوم القيامة وأحوال الفريقين فيه ، وجملة { وما قدروا الله حق قدره } اعتراضاً ، وهو تمثيل لحال الجاهل بعظمة شيء بحال من لم يحقق مقدار صُبرة فنقصها عن مقدارها ، فصار معنى { ما قدروا الله : } ما عرفوا عظمته حيث لم ينزهوه عما لا يليق بجلاله من الشريك في إلهيته .
و { حقَّ قدره } من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي ما قدروا الله قدرَه الحقَّ ، فانتصب { حَقَّ } على النيابة عن المفعول المطلق المبيّن للنوع ، وتقدم نظير هذا في سورة الأنعام .
وجميع : أصله اسم مفعول مثل قتيل ، قال لبيد :
عريت وكان بها الجَميع فأبكروا *** منها وغودر نؤيها وثمامها
وبذلك استعمل توكيداً مثلَ ( كلّ ) و ( أَجمَع ) قال تعالى : { يوم يبعثهم اللَّه جميعاً } في سورة [ المجادلة : 6 ] . وقد وقع { جميعاً } هنا حالاً من { الأرض } واسم { الأرض } مؤنث فكان تجريد ( جميع ) من علامة التأنيث جرياً على الوجه الغالب في جريان فعيل بمعنى مفعول على موصوفه ، وقد تلحقه علامة التأنيث كقول امرىء القيس :
فلو أنها نفس تموت جميعةٌ *** ولكنها نفس تَسَاقَطُ أنفسا
وانتصب { جميعاً } هنا على الحال من { الأرض } وتقدم نظيره آنفاً في قوله : { قل لله الشفاعة جميعاً } [ الزمر : 44 ] .
والقبضة بفتح القاف المرّة من القَبْض ، وتقدم في قوله : { فقبضت قبضة من أثر الرسول } في سورة [ طه : 96 ]
والإِخبار عن الأرض بهذا المصدر الذي هو بمعنى المفعول كالخَلق بمعنى المخلوق للمبالغة في الاتصاف بالمعنى المصدري وإنما صيغ لها وزن المرة تحقيراً لها في جانب عظمة ملك الله تعالى ، وإنما لم يُجَأْ بها مضمومة القاف بمعنى الشيء المقبوض لئلا تفوت المبالغة في الاتصاف ولا الدلالة على التحقير فالقَبضة مستعارة للتناول استعارة تصريحية ، والقبضة تدل على تمام التمكن من المقبوض وأن المقبوض لا تصرّف له ولا تحرّك .
وهذا إيماء إلى تعطيل حركة الأرض وانقماع مظاهرها إذ تصبح في عالم الآخرة شيئاً موجوداً لا عمل له وذلك بزوال نظام الجاذبية وانقراض أسباب الحياة التي كانت تمد الموجودات الحية على سطح الأرض من حيوان ونبات .
وطَيُّ السماوات : استعارة مكنية لتشويش تنسيقها واختلال أَبعاد أجرامها ، فإن الطي ردّ ولفّ بعض شُقق الثوب أو الوَرق على بعض بعد أن كانت مبسوطة منتشرة على نسق مناسب للمقصود من نشره فإذا انتهى المقصود طوي المنشور ، قال تعالى : { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب كما بدأنا أول خلق نعيده } [ الأنبياء : 104 ] . وإثبات الطي تخييل .
والباء في { بِيَمِينِه } للآلة والسببية . واليمين : وصف لليد ولا يدَ هنا وإنما هي كناية عن القدرة لأن العمل يكون باليد اليمين قال الشاعر أنشده الفرّاء والمبرد ، قال القرطبي :
ولما رأيتُ الشمس أشرقَ نورها *** تَناولتُ منها حَاجتي بيمين
أي بقدرة . وضمير ( منها ) يعود على مذكور في أبيات قبله .
والمقصود من هاتين الجملتين تمثيل عظمة الله تعالى بحال من أخذ الأرض في قَبضته ومن كانت السماوات مطويةً أفلاكها وآفاقها بيده تشبيه المعقول بالمتخيَّل وهي تمثيلية تنحل أجزاؤها إلى استعارتين ، وفيها دلالة على أن الأرض والسماوات باقية غير مضمحلة ولكن نظامهما المعهود اعتراه تعطيل ، وفي « الصحيح » عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول أَنَا المَلِك أَين ملوك الأرض " وعن عبد الله بن مسعود قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إنّا نجد أن الله يجعل السماوات على إِصبَع ، والأرضينَ على إصبع ، والشجَر على إصبع ، والماءَ والثَّرى على إصبع ، وسائر الخلق على اصبَع . فيقول أنا الملك ، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } .
ومعنى قوله : ثم قرأ هذه الآية ، نزلت قبل ذلك لأنها مما نزل بمكة . والحَبر من أحبار يهود المدينة ، وقول الراوي : تصديقاً لقول الحَبر ، مُدرَج في الحديث من فهم الراوي كما جزم به أبو العباس القرطبي في كتابه : « المفهم على صحيح مسلم » ، وقال الخطّابي رَوى هذا الحديث غيرُ واحد عن عبد الله بن مسعود من طريق عَبِيدة فلم يذكروا قوله تصديقاً لقول الحَبر ، ولعله من الراوي ظَنٌّ وحسبان . اهـ ، أي فهو من إدراج إبراهيم النخعي رواية عن عَبِيدَة . وإنما كان ضحك النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء بالحَبر في ظنه أن الله يفعل ذلك حقيقة وأن له يداً وأصابع حسب اعتقاد اليهود التجسيم ولذلك أعقبه بقراءة { وما قدروا الله حق قدره } لأن افتتاحها يشتمل على إبطال ما توهمه الحَبر ونظراؤه من الجسمية ، وذلك معروف من اعتقادهم وقد ردّه القرآن عليهم غيرَ مرة مما هو معلوم فلم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى التصريح بإبطاله واكتفى بالإِشارة التي يفهمها المؤمنون ، ثم أشار إلى أن ما توهمه اليهودي توزيعاً على الأصابع إنما هو مجاز عن الأخذ والتصرف .
وفي بعض روايات الحديث فنزل قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } وهو وهَم من بعض رواته وكيف وهذه مكية وقصة الحبر مدنية .
وجملة { سبحانه وتعالى عما يشركون } إنشاء تنزيه لله تعالى عن إشراك المشركين له آلهةً وهو يؤكد جملة { وما قدروا الله حق قدره } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما قدروا الله حق قدره} نزلت في المشركين، يقول: وما عظموا الله حق عظمته.
{والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} مطويات يوم القيامة بيمينه...
{وتعالى} وارتفع {عما يشركون} به.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ" يقول تعالى ذكره: وما عظّم الله حقّ عظمته، هؤلاء المشركون بالله، الذين يدعونك إلى عبادة الأوثان... عن ابن عباس، قوله: "وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ "قال: هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كلّ شيء قدير، فقد قدر الله حقّ قدره، ومن لم يؤمن بذلك، فلم يقدر الله حقّ قدره...
وقوله: "والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامَةِ" يقول تعالى ذكره: والأرض كلها قبضته في يوم القيامة.
"والسّمَوَاتُ" كلها "مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ"...
حدثنا الربيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني أُسامة بن زيد، عن أبي حازم، عن عبد الله بن عمر، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على المنبر يخطب الناس، فمر بهذه الآية: "وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ والأرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامَةِ" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَأْخُذُ السّمَوَاتِ والأرْضَينِ السّبْعَ فَيَجْعَلُها في كَفّهِ، ثُمّ يَقُولُ بِهِما كمَا يَقُولُ الغُلامُ بالكُرَةِ: أنا اللّهُ الوَاحِدُ، أنا اللّهُ العَزِيزُ» حتى لقد رأينا المنبر وإنه ليكاد أن يسقط به...
وقوله سبحانه وتعالى: "عَمّا يُشْرِكُونَ" يقول تعالى ذكره تنزيها وتبرئة لله، وعلوّا وارتفاعا عما يشرك به هؤلاء المشركون من قومك يا محمد، القائلون لك: اعبد الأوثان من دون الله، واسجد لألهتنا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وما قدروا الله حق قدره} أي ما عرفوا الله حق معرفته، أو ما عظموه حق عظمته ما يحتمل وُسع الخَلق، وكذلك لم يعرفوه حق معرفته التي يحتملها وسع البشر بينهم.
وهو لم يكلّفهم أن يعرفوه حق معرفته أو يعظّموه؛ لأنه لا يحتمل وسع الخلق ذلك. وإنما كلّفهم ما احتمله وسعهم...
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} يحتمل تنزيه نفسه عما وصفه المشبّهة، وشبّهوه بالخلق.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما كان العظيم من الأشياء، إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حقّ تقديره وعظمه حق تعظيمه قيل {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} وقرئ بالتشديد على معنى: وما عظموه كنه تعظيمه، ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريقة التخييل فقال: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ} والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير.
والمراد والأرض: الأرضون السبع، يشهد لذلك شاهدان، قوله: {جَمِيعاً} وقوله: {والسماوات}؛ ولأنّ الموضع موضع تفخيم وتعظيم، فهو مقتض للمبالغة، ومع القصد إلى الجمع وتأكيده بالجميع اتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء الخبر؛ ليعلم أوّل الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة، ولكن عن الأراضي كلهن... والقبضة: المرة من القبض، {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} [طه: 96] والقبضة -بالضم -: المقدار المقبوض بالكف، ويقال أيضاً: أعطني قبضة من كذا تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر... وكلا المعنيين محتمل، والمعنى: الأرضون جميعاً قبضته، أي: ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة، يعني أنّ الأرضين مع عظمهن وبسطهن لا يبلغن إلاّ قبضة واحدة من قبضاته، كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة، كما تقول: الجزور أكلة لقمان، والقلة جرعته، أي: ذات أكلته وذات جرعته؛ تريد: أنهما لا يفيان إلا بأكلة فذة من أكلاته، وجرعة فردة من جرعاته، وإذا أريد معنى القبضة فظاهر، لأنّ المعنى: أنّ الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
أخرج البخاري ومسلم في "الصحيحين "من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟).
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام، ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد قولهم وأمر الرسول بأن يعبد الله ولا يعبد شيئا آخر سواه، بين أنهم لو عرفوا الله حق معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له المعبودية، فقال: {وما قدروا الله حق قدره}...
واعلم أنه تعالى لما بين أنهم ما عظموه تعظيما لائقا به أردفه بما يدل على كمال عظمته ونهاية جلالته، فقال: {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه}،ونظيره قوله تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم} {وما قدروا الله حق قدره} إذ زعموا أن له شركاء وأنه لا يقدر على إحياء الموتى مع أن الأرض والسموات في قبضته وقدرته...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{الله} أي الملك الأعظم {حق قدره} أي ما عظموه كما يجب له فإنه لو استغرق الزمان في عبادته وخالص طاعته بحيث لم يخل شيء منه عنها لما كان ذلك حق قدره، فكيف إذا خلا بعضه عنها فكيف إذا عدل به غيره.
ولما ذكر تعظيم كل شيء ينسب إليه، دل على باهر قدرته الذي هو لازم القبض والطي بما يكون من الحال في طي هذا الكون، فقال كناية عن العظمة بذلك:
{والأرض} أي والحال أنها، وقدمها لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها.
ولما كان ما يدركون منها من السعة والكبر كافياً في العظمة وإن لم يدركوا أنه سبع، أكد بما يصلح لجميع طبقاتها تنبيهاً للبصراء على أنها سبع من غير تصريح به فقال: {جميعاً}.
ولما كان أحقر ما عند الإنسان وأخفه عليه ما يحويه في قبضته، مثل بذلك في قوله مخبراً عن المبتدأ مفرداً بفتح القاف؛ لأنه أقعد في تحقير الأشياء العظيمة بالنسبة إلى جليل عظمته: {قبضته}.
ولما كان في الدنيا من يدعي الملك والقهر والعظمة والقدرة، وكان الأمر في الآخرة بخلاف هذا لانقطاع الأسباب قال: {يوم القيامة} ولا قبضة هناك حقيقية ولا مجازاً، وكذا الطي واليمين، وإنما تمثيل وتخييل لتمام القدرة.
ولما كانوا يعلمون أن السماوات سبع متطابقة بما يشاهدون من سير النجوم، جمع ليكون مع {جميعاً} كالتصريح في جميع الأرض أيضاً في قوله: {والسماوات مطويات} ولما كان العالم العلوي أشرف، شرفه عند التمثيل باليمين فقال: {بيمينه}.
{عما يشركون} أي إن علوه عن ذلك علو من يبالغ فيه، فهو في غاية من العلو لا يكون وراءها غاية؛ لأنه لو كان له شريك لنازعه هذه القدرة أو بعضها فمنعه شيئاً منها، وهذه معبوداتهم لا قدرة لها على شيء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الواو عاطفة جملة {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة} على جملة {له مقاليد السموات والأرض} ويكون قوله: {وما قدروا الله} الخ معترضاً بين الجملتين، اقتضاها التناسب مع جملة {والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون}.
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة الله خالق كل شيء، فتكون جملة {وما قدروا الله حق قدره} وجملة {والأرض جميعاً قبضته} كلتاهما معطوفتين على جملة
{الله خالق كل شيء}. والمعنى: هو هو، إلا أن الحال أوضح إفصاحاً عنه.
ويجوز أن تكون جملة {والأرض جميعاً قبضته} عطفَ غرض على غرض انتُقل به إلى وصف يوم القيامة وأحوال الفريقين فيه، وجملة {وما قدروا الله حق قدره} اعتراضاً، وهو تمثيل لحال الجاهل بعظمة شيء بحال من لم يحقق مقدار صُبرة فنقصها عن مقدارها، فصار معنى {ما قدروا الله} ما عرفوا عظمته حيث لم ينزهوه عما لا يليق بجلاله من الشريك في إلهيته.
{حقَّ قدره} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي ما قدروا الله قدرَه الحقَّ، فانتصب {حَقَّ} على النيابة عن المفعول المطلق المبيّن للنوع، وتقدم نظير هذا في سورة الأنعام، وجميع: أصله اسم مفعول مثل قتيل، وبذلك استعمل توكيداً مثلَ (كلّ) و (أَجمَع) قال تعالى: {يوم يبعثهم اللَّه جميعاً} في سورة [المجادلة: 6]. وقد وقع {جميعاً} هنا حالاً من {الأرض} واسم {الأرض} مؤنث فكان تجريد
(جميع) من علامة التأنيث جرياً على الوجه الغالب في جريان فعيل بمعنى مفعول على موصوفه، وقد تلحقه علامة التأنيث، وانتصب {جميعاً} هنا على الحال من
وهذا إيماء إلى تعطيل حركة الأرض وانقماع مظاهرها إذ تصبح في عالم الآخرة شيئاً موجوداً لا عمل له، وذلك بزوال نظام الجاذبية وانقراض أسباب الحياة التي كانت تمد الموجودات الحية على سطح الأرض من حيوان ونبات.
وطَيُّ السماوات: استعارة مكنية لتشويش تنسيقها واختلال أَبعاد أجرامها، فإن الطي ردّ ولفّ بعض شُقق الثوب أو الوَرق على بعض، بعد أن كانت مبسوطة منتشرة على نسق مناسب للمقصود من نشره، فإذا انتهى المقصود طوي المنشور، قال تعالى: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب كما بدأنا أول خلق نعيده}
والباء في {بِيَمِينِه} للآلة والسببية، واليمين: وصف لليد ولا يدَ هنا وإنما هي كناية عن القدرة؛ لأن العمل يكون باليد اليمين، وفيها دلالة على أن الأرض والسماوات باقية غير مضمحلة ولكن نظامهما المعهود اعتراه تعطيل...
معنى {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] يعني: ما قدروه وما عظَّموه التعظيم المناسب له سبحانه، يعني: ما عرفوا لله قيمته، ولذلك أشركوا به، والشرك في حَدِّ ذاته عدم تقدير الله حَقَّ قدره. وقد فعلوا ذلك والحال أن {وَالأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَـٰمَةِ وَالسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] إذن: كيف يحدث منكم ذلك؟ أغفلتم عن هذه الحقيقة؟ إنكم سوف تروْنَ عاقبة فعلكم في الآخرة.
ومعنى {وَالأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَـٰمَةِ} [الزمر: 67] نقول: هذا الأمر في يدي يعني: أنا مُتمكن منه تمكُّناً بحيث لا يفلت منِّي، وليس من الضروري بالنسبة لله تعالى أن يكون في المسألة قبضة أو يد، فهنا كناية عن القوة والتمكُّن، كما نقول مثلاً قبضنا على المجرم يعني: أصبح في حوزتنا ولم يَعُدْ مطلق السراح في الحياة يفعل ما يشاء.
وسبق أنْ قلنا: إذا ذُكر للحق سبحانه وصفٌ له مثيل في عباده فخُذْه في إطار
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ومن ذلك صفة السمع والبصر واليد والعلم.. إلخ.
وكلمة {وَالأَرْضُ جَمِيعـاً} [الزمر: 67] أي: أرضنا التي نعيش عليها وأمثالها من الأرضين لأن الحق سبحانه قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] هذا كله في مجموعتنا الشمسية، فما بالك بباقي المجموعات والمجرَّات التي تحوي الملايين مثل أرضنا: {وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29].
وقوله: {وَالسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] يطويها بقدرته تعالى، واليمين عندنا هي الفاعلة في الأشياء وهي مصدر القوة؛ لذلك قال سبحانه: {قَالُوۤاْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28] أي من جهة القوة، وفي موضع آخر قال الحق سبحانه وتعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 104].
لكن أيّ أرض نعني في قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَـٰمَةِ} [الزمر: 67] قالوا: هي أرض غير الأرض التي نعرفها، لأن الأرض ستُبدل في الآخرة، كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَٰوَٰتُ} [إبراهيم: 48] لأن أرض الدنيا أرضُ أسباب، نعيش عليها ونأكل من ثمرها ونزاول فيها حياتنا، أما في الآخرة فالحياة فيها بالمسبِّب سبحانه.
أرض الآخرة لا زرعَ فيها ولا حرثَ ولا حصادَ، إنما تأكل وتشرب بمجرد إرادة الأكل أو الشرب، فما يخطر على بالك تجده بين يديْكَ لا بأسباب، إنما بقدرة المسبِّب سبحانه، كذلك السماء في الدنيا سماء أسباب ينزل منها المطر وتشرق فيها الشمس، ويُنوِّرها القمر، أما في الآخرة فلا شيء من ذلك لا مطرَ ولا شمسَ ولا قمر، إنما تُنوِّر الأرض بنور ربها.
وقوله تعالى في ختام هذه الآية {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] أمر بأن نقول سبحان الله، وأنْ ننزِّهه تعالى عن مشابهة خَلْقه في مسألة القبضة وفي طَيِّ السماء، لأنه ليس كالطَّيِّ الذي نعرفه نحن، إنما ينبغي أن نأخذ هذه الصفات في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فنزه الله عما يقوله المشركون.