غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّـٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (67)

32

ثم بين أنهم لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة في العبادة ما عرفوا الله حق معرفته وقد مر في " الأنعام " و " الحج " . ثم أردفه بما يدل على كمال عظمته قائلاً { والأرض جميعاً قبضته } قال جار الله : الغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة حقيقة أو إلى جهة مجاز . وكذلك حكم ما يروى عن عبد الله بن مسعود أن رجلاً من أهل الكتاب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا القاسم ، إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع ، والأرضين على أصبع ، والجبال على أصبع ، والشجر على أصبع ، والثرى على أصبع ، وسائر الخلق على أصبع ، ثم يهزهن فيقول : أنا الملك . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً مما قال وأنزل الله الآية تصديقاً له . وقال جار الله : وإنما ضحك أفصح العرب وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من غير ذلك ، ولكن فهمه وقع أول شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة ، وأن الأفعال العظام التي لا تكتنهها الأوهام هينة عليه ، ثم ذكر كلاماً آخر طويلاً . واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازي بأن هذا الكلام الطويل لا طائل تحته لأنه هل يسلم أن الأصل في الكلام حمله على حقيقته أم لا . وعلى الثاني يلزم خروج القرآن بكليته عن كونه حجة فإن لكل أحد حينئذ أن يؤوّل الآية بما شاء . وعلى الأول وهو الذي عليه الجمهور يلزمه بيان أنه لا يمكن حمل اللفظ الفلاني على معناه الحقيقي لتعين المصير إلى التأويل . ثم إن كان هناك مجازان وجب إقامة الدليل على تعيين أحدهما ، ففي هذه الصورة لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الجوارح إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع الأعضاء والجوارح لله تعالى فوجب المصير إلى التأويل صوتاً للنص عن التعطيل . ولا تأويل إلا أن يقال : المراد كونها تحت تدبيره وتسخيره كما يقال : فلان في قبضة فلان . وقال تعالى { وما ملكت أيمانهم } [ الأحزاب : 50 ] ويقال : هذه الدار في يد فلان ويمينه ، وفلان صاحب اليد . وأنا أقول : هذا الذي ذكره الإمام طريق أصولي ، والذي ذكره جار الله طريق بياني ، وأنهم يحيلون كثيراً من المسائل إلى الذوق فلا منافاة بينهما . ولا يرد اعتراض الإمام وتشنيعه وقد مر لنا في هذا الكتاب الأصل الذي كان يعمل به السلف في باب المتشابهات في مواضع فتذكر . ولنرجع إلى الآية . قوله { والأرض } قالوا : المراد بها الأرضون لوجهين : أحدهما قوله { جميعا } فإنه يجعله في معنى الجمع كقوله { كل الطعام } [ آل عمران : 93 ] وقوله { والنخل باسقات } [ ق : 10 ] والثاني قوله { والسماوات } ولقائل أن يقول : كل ما هو ذو أجزاء حساً أو حكماً فإنه يصح تأكيده بالجميع . وعطف السماوات على الأرض في القرآن كثير . نعم قيل : إن الموضع موضع تعظيم وتفخيم فهو مقتض للمبالغة وليس ببعيد . والقبضة بالفتح المرة من القبض يعني والأرضون جميعاً مع عظمهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته فهن ذوات قبضته . وعندي أن المراد منه تصرفه يوم القيامة فيها بتبديلها كقوله { يوم تبدل الأرض غير الأرض } [ إبراهيم : 48 ] { والسماوات مطويات بيمينه } كقوله { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } [ الأنبياء : 104 ] وقيل : معنى مطويات كونها مستولى عليها استيلاءك على الشيء المطوي عندك بيدك . وقيل : معنى مطويات كونها مستولى عليها بيمينه أي بقسمه لأنه تعالى حلف أن يطويها ويفنيها في الآخرة . وفي الآية إشارة إلى كمال استغنائه ، وأنه إذا حاول تخريب الأرض والسماوات وتبديلها . وذلك في يوم القيامة سهل عليه كل السهولة ، ولذلك نزه نفسه عن الشركاء بقوله { سبحانه وتعالى عما يشركون } .

/خ75