السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّـٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (67)

ولما حكى الله تعالى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام ، ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد قولهم وأمر الرسول أن يعبد الله ولا يعبد سواه ، وبين أنهم لو عرفوا الله تعالى حق معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له في العبودية قال : { وما قدروا الله } أي : الملك الأعظم { حق قدره } أي : ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره مع أنهم لو استغرقوا الزمان كله في عبادته وخالص طاعته بحيث لم يخل شيء منه عنها لما كان ذلك حق قدره فكيف إذا خلا بعضه عنها فكيف إذا عدل به غيره .

ولما بين أنهم ما عظموه تعظيماً لائقاً به أردفه بما يدل على كمال عظمته بقوله تعالى : { والأرض جميعاً قبضته } وهو مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال أي : ما عظموه حق عظمته والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة كقوله تعالى : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } ( البقرة : 28 ) أي : كيف تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه كذا ، وجميعاً حال وهي دالة على أن المراد بالأرض : الأرضون لأن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع ، وقدم الأرض على السماوات لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها .

ولما كان في هذه الدنيا من يدعي الملك والقهر والعظمة والقدرة وكان الأمر في الآخرة بخلاف هذا لانقطاع الأسباب قال تعالى : { يوم القيامة } ولا قبضة هناك لا حقيقة ولا مجازاً وكذا الطي واليمين وإنما هو تمثيل وتخييل لتمام القدرة .

ولما كانوا يعلمون أن السماوات سبع متطابقة بما يشاهدونه من سير النجوم جمع ليكون مع جميعاً كالتصريح في جمع الأرض أيضاً في قوله تعالى : { والسماوات مطويات } أي : مجموعات { بيمينه } قال الإمام الرازي : وههنا سؤالات ؛ الأول : أن العرش أعظم من السماوات السبع والأرضين السبع ثم إنه تعالى قال في صفة العرش { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } ( الحاقة : 17 ) ، فإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين العرش العظيم فكيف يجوز تقرير عظمة الله عز وجل بكونه حاملاً للسماوات والأرض ؟ وأجاب : بأن مراتب التعظيم كثيرة .

فأولها : تقرير الله بكونه قادراً على هذه الأجسام العظيمة كما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة عظيم ، ثم بعده تقرير عظمته بكونه قادراً على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش .

السؤال الثاني : قوله تعالى : { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } شرح حال لا تحصل إلا في القيامة والقوم ما شاهدوا ذلك فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم معترفون بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء لله فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم ، وإن كان الخطاب مع المكذبين بالنبوة فهم ينكرون قوله تعالى : { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك ؟ .

وأجاب عنه : بأن المقصود منه أن المتولي لإبقاء السماوات والأرضين من وجوه العمارة في هذا الوقت هو المتولي لتخريبها وإفنائها يوم القيامة ، وذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام ويدل أيضاً على كونه قادراً غنياً على الإطلاق ، فإنه يدل على أنه إذا حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض وذلك يدل على كمال الاستغناء .

السؤال الثالث : حاصل القول بالقبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام العظيمة فكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدرته تعالى ، فكذلك الآن فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة ؟ وأجاب : بأنه خصص تلك الحالة بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا يظهر كمال قدرته في الإعدام عند خراب الدنيا .

ولما كان هذا إنما هو تمثيل يعهد والمراد به الغاية في القدرة نزه نفسه المقدس عما ربما نسبه له المجسم والمشبه فقال تعالى : { سبحانه } أي : تنزه من هذه القدرة قدرته عن كل شائبة نقص { وتعالى } علو الإيحاط به { عما يشركون } معه لأنه لو كان له شريك ينازعه في هذه القدرة أو بعضها لمنعه شيئاً منها وهذه معبوداتهم لا قدرة لها على شيء البتة . روى البخاري في صحيحه في التوحيد وغيره عن عبد الله بن مسعود قال : «جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إذا كان يوم القيامة جعل الله تعالى السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والماء والثرى على إصبع والخلائق على إصبع ثم يهزهن ثم يقول : أنا الملك . فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه تعجباً وتصديقاً لقول الحبر ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم { وما قدروا الله حق قدره } الآية » وإنما ضحك صلى الله عليه وسلم وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما فهم علماء البيان من غير تصور إمساك ولا إصبع ولا هز ولا شيء من ذلك ، وإنما يدل ذلك على القدرة الباهرة وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأذهان هينة عليه هواناً لا يصل السامع إلى الوقوف عليه إلا بإجراء العبارة في مثل هذه الطريقة على التخييل .

وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبابرة أين المتكبرون ، ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بشماله ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون » . وللبخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض » . قال أبو سليمان الخطابي : ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من وصف اليدين شمال لأن الشمال محل النقص والضعف ، وقد ورد كلتا يديه يمين وليس عندنا معنى اليد الجارحة وإنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها وننتهي حيث انتهى بنا الكتاب والأخبار المأثورة الصحيحة ، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة رضي الله تعالى عنهم ، وقال سفيان بن عيينة : كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه انتهى . وقد قدمنا أن السلف يجرون المتشابه على ما هو عليه وأن الخلف يؤولونه والأول أسلم والثاني أحكم .