البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّـٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (67)

{ وما قدروا الله حق قدره } : أي ما عرفوه حق معرفته ، وما قدروه في أنفسهم حق تقديره ، إذ أشركوا معه غيره ، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة .

وقرأ الأعمش : حق قدره بفتح الدال ؛ وقرأ الحسن ، وعيسى ، وأبو نوفل ، وأبو حيوة : وما قدروا بتشديد الدال ، حق قدره : بفتح الدال ، أي ما عظموه حقيقة تعظيمه .

والضمير في قدروا ، قال ابن عباس : في كفار قريش ، كانت هذه الآية كلها محاورة لهم وردًّا عليهم .

وقيل : نزلت في قوم من اليهود تكلموا في صفات الله وجلاله ، فألحدوا وجسموا وجاءوا بكل تخليط .

وهذه الجملة مذكورة في الأنعام وفي الحج وهنا .

ولما أخبر أنهم ما عرفوه حق معرفته ، نبههم على عظمته وجلاله شأنه على طريق التصوير والتخييل فقال : { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويّات بيمينه } .

وقال الزمخشري : والغرض من هذا الكلام ، إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعة تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير ، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز . انتهى .

ويعني : أو جهة مجاز معين ، والإخبار : التصوير ، والتخييل هو من المجاز .

وقال غيره : الأصل في الكلام حمله على حقيقته ، فإن قام دليل منفصل على تعذر حمله عليها ، تعين صرفه إلى المجاز .

فلفظ القبضة واليمين حقيقة في الجارحة ، والدليل العقلي قائم على امتناع ثبوت الأعضاء والجوارح لله تعالى ، فوجب الحمل على المجاز ، وذلك أنه يقال : فلان في قبضة فلان ، إذا كان تحت تدبيره وتسخيره ، ومنه : { أو ما ملكت أيمانهم } فالمراد كونه مملوكاً لهم ، وهذه الدار في يد فلان ، وقبض فلان كذا ، وصار في قبضته ، يريدون خلوص ملكه ، وهذا كله مجاز مستفيض مستعمل .

وقال ابن عطية : اليمين هنا والقبضة عبارة عن القدرة ، وما اختلج في الصدر من غير ذلك باطل .

وما ذهب إليه القاضي ، يعني ابن الطيب ، من أنها صفات زائدة على صفات الذات ، قول ضعيف ، ويحسب ما يختلج في النفوس التي لم يحصها العلم .

قال عز وجل : { سبحانه وتعالى عما يشركون } : أي منزه عن جميع الشبه التي لا تليق به . انتهى .

وقال القفال : هذا كقول القائل : وما قدرني حق قدري ، وأنا الذي فعلت كذا وكذا ، أي لما عرفت أن حالي وصفتي هذا الذي ذكرت ، وجب أن لا تخطىء عن قدري ومنزلتي ، ونظيره : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } أي كيف تكفرون من هذه صفته وحال ملكه ؟ فكذا هنا ، { وما قدروا الله حق قدره } : أي زعموا أن له شركاء ، وأنه لا يقدر على إحياء الموتى ، مع أن الأرض والسموات في قبضة قدرته . انتهى .

{ والأرض } : أي والأرضون السبع ، ولذلك أكد بقوله : { جميعاً } ، وعطف عليه { والسموات } ، وهو جمع ، والموضع موضع تفخيم ، فهو مقتض المبالغة .

والقبضة : المرة الواحدة من القبض ، وبالضم : المقدار المقبوض بالكف ، ويقال في المقدار : قبضته بالفتح ، تسمية له بالقدر ، فاحتمل هنا هذا المعنى .

واحتمل أن يراد المصدر على حذف مضاف ، أي ذوات قبضة ، أي يقبضهن قبضة واحدة ، فالأرضون مع سعتها وبسطتها لا يبلغن إلا قبضة كف ، وانتصب جميعاً على الحال .

قال الحوفي : والعامل في الحال ما دل عليه قبضته انتهى .

ولا يجوز أن يعمل فيه قبضته ، سواء كان مصدراً ، أم أريد به المقدار .

وقال الزمخشري : ومع القصد إلى الجمع يعني في الأرض ، وأنه أريد بها الجمع قال : وتأكيده بالجميع ، أتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء ذلك الخبر ، ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة ، ولكن عن الأراضي كلهن . انتهى .

ولم يذكر العامل في الحال ، ويوم القيامة معمول لقبضته .

وقرأ الحسن : قبضته بالنصب .

قال ابن خالويه : بتقدير في قبضته ، هذا قول الكوفيين .

وأما أهل البصرة فلا يجيزون ذلك ، كما لا يقال : زيد داراً انتهى .

وقال الزمخشري : جعلها ظرفاً مشبهاً للوقت بالمبهم .

وقرأ عيسى ، والجحدري : مطويات بالنصب على الحال ، وعطف والسموات على الأرض ، فهي داخلة في حيز والأرض ، فالجميع قبضته .

وقد استدل بهذه القراءة الأخفش على جواز : زيد قائماً في الدار ، إذ أعرب والسموات مبتدأ ، وبيمينه الخبر ، وتقدمت الحال والمجرور ، ولا حجة فيه ، إذ يكون والسموات معطوفاً على والأرض ، كما قلنا ، وبيمينه متعلق بمطويات ، ومطويات : من الطي الذي هو ضد النشر ، كما قال تعالى : { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه .

وقيل : قبضته ملكه بلا مدافع ولا منازع ، وبيمينه : وبقدرته .

قال الزمخشري : وقيل : مطويات بيمينه : مفنيات بقسمه ، لأنه أقسم أن يفنيها ؛