الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّـٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (67)

قوله تعالى : " وما قدروا الله حق قدره " قال المبرد : ما عظموه حق عظمته من قولك فلان عظيم القدر . قال النحاس : والمعنى على هذا وما عظموه حق عظمته إذا عبدوا معه غيره وهو خالق الأشياء ومالكها . ثم أخبر عن قدرته وعظمته فقال : " والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه " . ثم نزه نفسه عن أن يكون ذلك بجارحة فقال : " سبحانه وتعالى عما يشركون " . وفي الترمذي عن عبد الله قال : جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد إن الله يمسك السماوات على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول أنا الملك . فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال : " وما قدروا الله حق قدره " . قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض ) . وفي الترمذي عن عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : " والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه " قالت : قلت فأين الناس يومئذ يا رسول الله ؟ قال : ( على جسر جهنم ) في رواية ( على الصراط يا عائشة ) قال : حديث حسن صحيح . وقوله : " والأرض جميعا قبضته " ( ويقبض الله الأرض ) عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته ، يقال : ما فلان إلا في قبضتي ، بمعنى ما فلان إلا في قدرتي ، والناس يقولون الأشياء في قبضته يريدون في ملكه وقدرته . وقد يكون معنى القبض والطي إفناء الشيء وإذهابه فقوله جل وعز : " والأرض جميعا قبضته " يحتمل أن يكون المراد به والأرض جميعا ذاهبة فانية يوم القيامة ، والمراد بالأرض الأرضون السبع ، يشهد لذلك شاهدان : قوله : " والأرض جميعا " ولأن الموضع موضع تفخيم وهو مقتضٍ للمبالغة . وقوله : " والسماوات مطويات بيمينه " ليس يريد به طيا بعلاج وانتصاب ، وإنما المراد بذلك الفناء والذهاب ، يقال : قد انطوى عنا ما كنا فيه وجاءنا غيره . وانطوى عنا دهر بمعنى المضي والذهاب . واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى القدرة والملك ، ومنه قوله تعالى : " أو ما ملكت أيمانكم " [ النساء :3 ] يريد به الملك ، وقال : " لأخذنا منه باليمين " [ الحاقة : 45 ] أي بالقوة والقدرة أي لأخذنا قوته وقدرته . قال الفراء والمبرد : اليمين القوة والقدرة . وأنشدا :

إذا ما رايةٌ رفعت لمجد *** تلقاها عَرابَةُ باليمين{[13336]}

وقال آخر :

ولما رأيتُ الشمس أشرق نورها *** تناولتُ منها حاجتي بيمين{[13337]}

قَتَلتُ شُنَيْفًا ثم فَارَانَ بعده *** وكان على الآيات غيرَ أمينِ

وإنما خص يوم القيامة بالذكر وإن كانت قدرته شاملة لكل شيء أيضا ؛ لأن الدعاوى تنقطع ذلك اليوم ، كما قال : " والأمر يومئذ لله " [ الانفطار : 19 ] وقال : " مالك يوم الدين " [ الفاتحة : 3 ] حسب ما تقدم في " الفاتحة " {[13338]} ولذلك قال في الحديث : ( ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض ) وقد زدنا هذا الباب في التذكرة بيانا ، وتكلمنا على ذكر الشمال في حديث ابن عمر قوله : ( ثم يطوي الأرض بشماله ) .


[13336]:قائله الحطيئة. وقيل هو للشماخ.
[13337]:كذا في الأصول ولم نعثر على هذين البيتين فيما لدينا من المراجع.
[13338]:راجع ج 1 ص 142 طبعة ثانية أو ثالثة.