تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّـٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (67)

الآية 67 وقوله تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ذكر أهل التأويل أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له : إن ربك على كذا وكذا ، وإن السماوات على كذا منه ، والأرض على كذا ، ذكروه له ، ووصفوه كما يوصف الخَلق ، فنزل قوله : { وما قدروا الله حق قدره } قيل : ما عرفوا الله حق معرفته ، ولا عظّموه حق عظمته .

ويذكر أهل الكلام أن اليهود مشبِّهة ، ولذلك قالوا بالولد حين{[18065]} قالوا : { عُزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] فلو لم يكونوا عرفوه ما يُعرف به الخلق لم يكونوا يقولون له بالولد كما يقولون للخلق من الولد .

فدل ما وصفوا له ، وذكروا له أنهم عرفوه بمعنى الخلق . فتعالى الله عما تقوله الملاحدة علوًّا كبيرًا .

ثم قوله عز وجل : { وما قدروا الله حق قدره } أي ما عرفوا الله حق معرفته ، أو ما عظموه حق عظمته ما يحتمل وُسع الخَلق ، وكذلك لم يعرفوه حق معرفته التي يحتملها{[18066]} وسع البشر بينهم .

فأما معرفته [ أو تعظيمه{[18067]} حق عظمته فما{[18068]} وسع الخلق ، وهو لم يكلّفهم أن يعرفوه حق معرفته ]{[18069]} أو يعظّموه لأنه لا يحتمل وسع الخلق ذلك . وإنما كلّفهم ما احتمله وسعهم .

فالمشبّهة حين{[18070]} وصفوه كما وصف الخلق ومن معانيهم{[18071]} لم يعرفوه المعرفة التي تحتمل وسع الخلق وبُنيتَهم ، ولا عظّموه العظمة التي تحتمل وسع الخلق وبنيتهم .

ثم إن الله ، سبحانه ، جعل سبب معرفته الاستدلال بآثار الأفعال المحسوسات . فلا تُفهم معرفته ، ولا تُقدَّر بمعرفة الخلق وتقديرهم مع ما جعل الله سبحانه وتعالى الخلق على قسمين : [ قسم مما ]{[18072]} يحاط به ، وتُدرك حقيقته ، وهو المحسوس منه والمُدرك ، وقسم{[18073]} مما يعرف بآثار الأفعال والاستدلال بها ، وهو غير محسوس من نحو العقل والبصر والسمع والروح وغير ذلك .

فإذا لم يدرك من خلقه ، ولم يُحَط به مما سبيل الاستدلال بآثار الأفعال لا بالحسّ ، فالذي أنشأ ذلك ، وأبدعه ، أحق ألا يُدرَك ولا يحاط بمعرفته ما يحاط ، ويدرك بالمحسوس ؛ إذ الموصل إلى معرفة الاستدلال بآثار الأفعال بالمحسوس ، والله أعلم .

[ وإضافة الأمور في وجهين :

أحدهما : ]{[18074]} وكذلك ما أضاف إلى نفسه من الأحرف لا يُفهم منه ما لو أضيف ذلك إلى الخلق من نحو الاستواء والمجيء والإتيان ونحو ذلك ، ولا يقدّر منه ما يقدّر من الخلق على ما لم يفهم من مجيء الحق وإتيانه ما فُهِم من مجيء الخلق وإتيانهم{[18075]} .

فعلى ذلك لا تُفهَم { قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } ما يُفهم من ذلك كله من قوله عز وجل : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] كل ما ذكر من القبضة والطّيّ واليمين في ذلك { كن } كاف ونون أو شيء من ذلك .

لكنه ذكر { كن } لأنه أخف كلام على الألسن وأوجز حرف يفهم منه المعنى وتعدّيه في ما بين الخلق ، والله أعلم .

وأصله أن الله عز وجل خاطبهم بما تعارفوا في ما بينهم حقيقة ، وإن كان ما تعارفوا في ما بينهم منفيا{[18076]} عن الله تعالى نحو ما ذكر : { لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله } [ الحجرات : 1 ] وقوله عز وجل : { ذلك ما قدّمت أيديكم } [ آل عمران : 182 ] وقوله : { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } [ فصلت : 42 ] لما باليد يقدَّم ، ويؤخّر ، في الشاهد ، وإن يكن ما ذكر عمل اليد ، وذكر بين يدي ما ذكر ، وإن يكن بين يديه ، لما في الشاهد كذلك يتقدم .

فعلى ذلك ما أضاف إلى نفسه من أحرف كانت تلك منفية عنه ، لما في الشاهد بذلك يكون ، والله أعلم .

وأصل ذلك أن قد بُيّنت بالتنزيل على ما ذكر من إضافة تلك الأحرف إلى الله ، وثبتت بدليل السمع أن { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] وفي{[18077]} العقل تعاليه عن الأشباه والشركاء لزم القول بوقوع تلك الآيات على ما [ لا ]{[18078]} تشابه به يقع بينه وبين الخلق في الفعل لا [ في ]{[18079]} جهة من جهات الخلق ؛ إذ هو متعال عن جميع جهات الخلق في حدّ الإحداث والخلق ، فيلزم الإيمان بها على ما نطق به الكتاب والتنزيه{[18080]} عن التشابه ، وتفويض المراد إلى من جاء عنه ذلك مع ما توجد الإضافة إلى الله عز وجل من نحو قوله عز وجل { تلك حدود الله } [ البقرة : 187 ] ونحوه لا يحتمل فهم المضاف منه إلى غيره .

فكذلك ما ذكرنا على إمكان وجوه فيها ينفي معنى التشابه من ذلك ما يضمّن فيها معاني نحو قوله عز وجل : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } الآية [ آل عمران : 160 ] [ وقوله ]{[18081]} : { وإلى الله المصير } [ آل عمران : 28 ] والمرجع . [ وقوله ]{[18082]} : { يرجو لقاء الله } [ العنكبوت : 5 ] [ وقوله ]{[18083]} : { فرُدّوه إلى الله والرسول } [ النساء : 59 ] وغير{[18084]} ذلك مما أضيف إلى الله ، ولا معنى لتحقيقه في ذلك ، فيضمّن في ذلك [ دينه ووعده ووعيده ]{[18085]} وغير ذلك من الوجوه مما يطول ذكره ، ويكثر . فمثله أمر هذه الآيات .

والثاني : أن إضافة الأمور في الشاهد إلى الملوك وذكر التولّي لهم ، ليس يخرّج مخرج تحقيق كما هو ما جرى به الذّكر ، ولكن على الكناية والعبارة عن غيره ، ونحو ما يقال{[18086]} : بلدة كذا في يد فلان وقبضته ، وأمر كذا في [ يد ]{[18087]} فلان ؛ وإنما يراد بذلك قدرته . فعلى ذلك ما ذكر من قبضته ويده ويمينه إنما هو الوصف له بالقوة والسلطان والقدرة على ذلك .

وقوله عز وجل : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } يحتمل تنزيه نفسه عما وصفه المشبّهة ، وشبّهوه بالخلق أو عما أشرك عبدة الأصنام الله في العبادة وتسميتهم إياها آلهة .

وقوله تعالى : { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويّاتٌ بيمينه } هو على التقديم والتأخير ، كأنه يقول : عز وجل : الأرض والسماوات جميعا في قبضته مطويات بيمينه ، والله أعلم .


[18065]:في الأصل وم: حيث.
[18066]:في الأصل وم: يحتمله.
[18067]:في م: عظموا الله.
[18068]:الفاء ساقطة من م.
[18069]:من م، ساقطة من الأصل.
[18070]:في الأصل وم: حيث.
[18071]:في الأصل وم: يعاينوه.
[18072]:في الأصل وم: قسما منها.
[18073]:في الأصل وم: وقسما.
[18074]:في الأصل وم: وكذلك.
[18075]:في الأصل وم: ولا إتيانهم.
[18076]:في الأصل وم: منفى.
[18077]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[18078]:من م، ساقطة من الأصل.
[18079]:ساقطة من الأصل وم.
[18080]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: واستهى به.
[18081]:في الأصل وم: و.
[18082]:في الأصل وم: و.
[18083]:في الأصل وم: و.
[18084]:في الأصل وم: في غير.
[18085]:من نسخة الحرم المكي في الأصل وم: منه ووعد ووعيده.
[18086]:في الأصل وم: قال.
[18087]:ساقطة من الأصل وم.