فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّـٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (67)

{ وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } قال المبرد : أي ما عظموه حق عظمته ، من قولك فلان عظيم القدر ، وإنما وصفهم بهذا ؛ لأنهم عبدوا غير الله ، وأمروا رسوله بأن يكون مثلهم في الشرك . وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وعيسى بن عمر : " قدّروا " بالتشديد { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة } القبضة في اللغة ما قبضت عليه بجميع كفك ، فأخبر سبحانه : عن عظيم قدرته بأن الأرض كلها مع عظمها ، وكثافتها في مقدوره كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفه كما يقولون : هو في يد فلان ، وفي قبضته للشيء الذي يهون عليه التصرّف فيه ، وإن لم يقبض عليه ، وكذا قوله : { والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ } ، فإن ذكر اليمين للمبالغة في كمال القدرة كما يطوي الواحد منا الشيء المقدور له طيه بيمينه ، واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى : القدرة والملك . قال الأخفش : بيمينه يقول : في قدرته ، نحو قوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم } [ النساء : 3 ] أي ما كانت لكم قدرة عليه ، وليس الملك لليمين دون الشمال ، وسائر الجسد ، ومنه له سبحانه : { لأخَذْنَا مِنْهُ باليمين } [ الحاقة : 45 ] أي : بالقوّة والقدرة ، ومنه قول الشاعر :

إذا ما راية نصبت لمجد *** تلقاها عرابة باليمين

وقول الآخر :

ولما رأيت الشمس أشرق نورها *** تناولت منها حاجتي بيمين

وقول الآخر :

عطست بأنف شامخ وتناولت *** يداي الثريا قاعداً غير قائم

وجملة : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ } في محل نصب على الحال ، أي ما عظموه حق تعظيمه ، والحال أنه متصف بهذه الصفة الدالة على كمال القدرة . قرأ الجمهور برفع { قبضته } على أنها خبر المبتدأ ، وقرأ الحسن بنصبها ، ووجهه ابن خالويه بأنه على الظرفية ، أي في قبضته .

وقرأ الجمهور : { مطويات } بالرفع على أنها خبر المبتدأ ، والجملة في محل نصب على الحال كالتي قبلها ، و{ بيمينه } متعلق ب{ مطويات } ، أو حال من الضمير في { مطويات } ، أو خبر ثانٍ ، وقرأ عيسى ، والجحدري بنصب : ( مطويات ) ، ووجه ذلك : أن { السموات } معطوفة على { الأرض } ، وتكون { قبضته } خبراً عن الأرض والسماوات ، وتكون { مطويات } حالاً ، أو تكون { مطويات } منصوبة بفعل مقدّر ، و{ بيمينه } الخبر ، وخصّ يوم القيامة بالذكر ، وإن كانت قدرته شاملة ، لأن الدعاوي تنقطع فيه كما قال سبحانه : { الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ } [ الحج : 56 ] ، وقال : { مالك يَوْمِ الدين } [ الفاتحة : 4 ] ، ثم نزّه سبحانه نفسه ، فقال : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع هذه القدرة العظيمة ، والحكمة الباهرة .

/خ72