قوله عز وجل : { إذ جاءوكم من فوقكم } أي : من فوق الوادي من قبل المشرق ، وهم أسد ، وغطفان ، وعليهم مالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان ، ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود بني قريظة ، { ومن أسفل منكم } يعني : من بطن الوادي ، من قبل المغرب ، وهم قريش وكنانة ، عليهم أبو سفيان بن حرب في قريش ومن تبعه ، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق . وكان السبب الذي جر غزوة الخندق فيما قيل : إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير من ديارهم . { وإذ زاغت الأبصار } مالت وشخصت من الرعب ، وقيل : مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها ، { وبلغت القلوب الحناجر } فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع ، والحنجرة : جوف الحلقوم ، وهذا على التمثيل ، عبر به عن شدة الخوف ، قال الفراء : معناه أنهم جنبوا وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته فإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة ، ولهذا يقال للجبان : انتفخ سحره . { وتظنون بالله الظنونا } أي : اختلفت الظنون ، فظن المنافقون استئصال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، وظن المؤمنون النصر والظفر لهم . قرأ أهل المدينة ، والشام ، وأبو بكر : الظنونا والرسولا والسبيلا بإثبات الألف وصلاً ووقفاً ، لأنها مثبته في المصاحف بالألف ، وقرأ أهل البصرة وحمزة بغير الألف في الحالين على الأصل ، وقرأ الآخرون بالألف في الوقف دون الوصل لموافقة رؤوس الآي .
ثم فصل - سبحانه - ما حدث للمؤمنين فى هذه الغزوة ، بعد هذا الإِجمال ، فقال : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ } أى : من أعلى الوادى من جهة المشرق .
والجملة بدل من قوله { إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ } . والمراد بالذين جاءوا من تلك الجهة : قبائل غطفان وهوزان . . وانضم إليهم بنو قريظة بعد أن نقضوا عهودهم .
{ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } أى : ومن أسفل الوادى من جهة المغرب ، وهم قريش ومعهم أحابيشهم وحلفاؤهم .
وقوله : { وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار } معطوف على ما قبله ، داخل معه فى حيز التذكير .
أى : واذكروا وقت أن زاغت أبصاركم ، ومالت عن كل شئ حولها ، وصارت لا تنظر إلا إلى أولئك الأعداء . يقال زاغ البصر يزيغ زيغا وزيغانا إذا مال وانحرف . ويقال - أيضا : زاغ البصر ، إذا مل وتعب بسبب استدامة شخوصه من شدة الهول .
وقوله { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } بيان آخر لما أصاب المسلمين من بلاء بسبب إحاطة جيوش الأحزاب بهم .
والحناجر : جمع حنجرة ، وهى جوف الحلقوم ، والمراد أن قلوبكم فزعت فزعا شديدا ، حتى لكأنها قد انتقلت من أماكنها إلى أعلى ، حتى قاربت أن تخرج من أفواهكم .
فالآية تصور ما أصاب المسلمين من فزع وكرب فى غزوة الأحزاب ، وتصيرا بديعا مؤثرا ، يرسم حركات القلوب ، وملامح الوجوه ، وخلجات النفوس .
وقوله - سبحانه - { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } بيان لما دار فى عقولهم من أفكار ، حين رأوا الأحزاب وقد أحاطوا بالمدينة .
والظنون جمع الظن . وهو مصدر يطلق على القليل والكثير منه . وجاء بصيغة الجمع لتعدد أنواعه ، واختلافه باختلاف قوة الإِيمان وضعفه .
أى : وتظنون - أيها المؤمنون - بالله - تعالى - الظنون المختلفة ، فمنكم من ازداد يقينا على يقينه ، وازداد ثقة بوعد الله - تعالى - وبنصره ، ومنكم من كان أقل من ذلك فى ثباته ويقينه ، ومنكم من كان يظهر أمامكم الإِيمان والاسلام ، ويخفى الكفر والعصيان ، وهم المنافقون وهؤلاء ظنوا الظنون السيئة ، بأن اعتقدوا بأن الدائرة ستدور عليكم .
قال ابن كثير : قوله { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } قال الحسن : ظنون مختلفة ، ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون ، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق ، وأنه - سبحانه - سيظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون .
" عن أبى سعيد قال : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله ، هل من شئ نقول ، فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نعم : قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا " .
ثم يأخذ بعد هذا الإجمال في التفصيل والتصوير :
إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ؛ وإذ زاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ، وتظنون بالله الظنونا . هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا . وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا . وإذ قالت طائفة منهم : يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا . ويستأذن فريق منهم النبي ، يقولون : إن بيوتنا عورة - وما هي بعورة . إن يريدون إلا فرارا . .
إنها صورة الهول الذي روع المدينة ، والكرب الذي شملها ، والذي لم ينج منه أحد من أهلها . وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب . من أعلاها ومن أسفلها . فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب ؛ وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب ، وظنها بالله ، وسلوكها في الشدة ، وتصوراتها للقيم والأسباب والنتائج . ومن ثم كان الابتلاء كاملا والامتحان دقيقا . والتمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسما لا تردد فيه .
وننظر اليوم فنرى الموقف بكل سماته ، وكل انفعالاته ، وكل خلجاته ، وكل حركاته ، ماثلا أمامنا كأننا نراه من خلال هذا النص القصير .
ننظر فنرى الموقف من خارجه : إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم . .
ثم ننظر فنرى أثر الموقف في النفوس : ( وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ) . . وهو تعبير مصور لحالة الخوف والكربة والضيق ، يرسمها بملامح الوجوه وحركات القلوب .
( وتظنون بالله الظنونا ) . . ولا يفصل هذه الظنون . ويدعها مجملة ترسم حالة الاضطراب في المشاعر والخوالج ، وذهابها كل مذهب ، واختلاف التصورات في شتى القلوب .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ جَآءُوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَاْ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ مّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً } .
يقول تعالى ذكره : وكان الله بما تعملون بَصِيرا ، إذ جاءتكم جنودُ الأحزاب من فوقِكم ، ومن أسفلَ منكم . وقيل : إن الذين أتَوْهم من أسفل منهم ، أبو سفيان في قريش ومن معه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد إذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ قال عيينة بن بدر في أهل نجد ، ومن أسفل منكم ، قال : أبو سفيان . قال : وواجَهَتْهم قُرَيظة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : ذكرت يوم الخندق وقرأت : إذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ ، وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ قالت : هو يوم الخندق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلَمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رُومان مولى آل الزبير ، عن عُروة بن الزبير ، وعمن لاأتهم ، عن عُبيد الله بن كعب بن مالك ، وعن الزّهريّ ، وعن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وعن محمد بن كعب القُرَظيّ ، وعن غيرهم من علمائنا : أنه كان من حديث الخندق ، أن نَفَرا من اليهود ، منهم سلام بن أبي الحُقَيق النّضَريّ ، وحُييّ بن أخطب النّضَري ، وكِنانة بن الرّبيع بن أبي الحُقَيق النضريّ ، وهَوْذَة بن قيس الوائليّ ، وأبو عمار الوائليّ ، في نفر من بني النضير ، ونفر من بني وائل ، وهم الذين حَزّبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرجوا حتى قدِموا مكة على قريش ، فدعَوْهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إنا سنكون معكم عليه ، حتى نستأصلَه . فقال لهم قريش : يا معشر يهود ، إنكم أهل الكتاب الأوّل ، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، أَفَدِيننا خير أم دينه ؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحقّ منه . قال : فهم الذين أنزل الله فيهم : ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ والطّاغُوتِ ، وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً . . . إلى قوله : وكَفَى بِجَهَنّمَ سَعِيرا فلما قالوا ذلك لقريش ، سرّهم ما قالوا ، ونشطوا لما دعوهم له من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا لذلك ، واتعدوا له . ثم خرج أولئك النفر من اليهود ، حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان ، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه ، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك ، فاجتمعوا فيه ، فأجابوهم فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حُذَيفة بن بدر في بني فزارة ، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرّة ، ومسْعر بن رخيلة بن نُوَيرة بن طريف بن سحمة بن عبدالله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان ، فيمن تابعه من قومه من أشجع فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ، ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة ، وأقبلت غطَفان ومن تابعهم من أهل نجد ، حتى نزلوا بذنب نَقَمَى إلى جانب أحد ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلْع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هنالك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذّراري والنساء ، فرفعوا في الاَطام ، وخرج عدوّ الله حيي بن أخطب النضري ، حتى أتى كعب بن أسد القرظيّ ، صاحب عقد بني قريظة وعهدهم ، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه ، وعاهده على ذلك وعاقده ، فلما سمع كعب بحييّ بن أخطب ، أغلق دونه حصنه ، فاستأذن عليه ، فأبى أن يفتح له ، فناداه حييّ : يا كعب افتح لي ، قال : ويحك يا حييّ ، إنك امرؤ مشؤوم ، إني قد عاهدت محمدا ، فلست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلاّ وفاء وصدقا قال : ويحك افتح لي أكلمك ، قال : ما أنا بفاعل . قال : والله إن أغلقت دوني إلاّ تخوّفت على جشيشتك أن آكل معك منها ، فأحفظ الرجل ، ففتح له ، فقال : يا كعب جئتك بعزّ الدهر ، وببحر طمّ ، جئتك بقريش على قاداتها وساداتها ، حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رُومَة ، وبغطَفان على قاداتها وساداتها حتى أنزلتهم بذنب نَقَمَى إلى جانب أُحد ، قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه ، فقال له كعب بن أسد : جئتني والله بذلّ الدهر ، وبجهام قد هراق ماءه ، يرعد ويبرق ، ليس فيه شيء ، فدعني ومحمدا وما أنا عليه ، فلم أر من محمد إلاّ صدقا ووفاء فلم يزل حييّ بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له على أن أعطاهم عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك . فنقض كعب بن أسد عهده ، وبرىء مما كان عليه ، فيما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر ، وإلى المسلمين ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ بن النعمان بن امرىء القيس ، أحد بني الأشهل ، وهو يومئذٍ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة بن ديلم أخي بني ساعدة بن كعب بن الخزرج ، وهو يومئذٍ سيد الخزرج ، ومعهما عبد الله بن رواحة أخو بلحرث بن الخزرج ، وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف ، فقال : انطلقوا حتى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ؟ ، فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ، ولا تفتوا في أعضاد الناس ، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم ، فاجهروا به للناس . فخرجوا حتى أتوهم ، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم ، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد ، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه ، وكان رجلاً فيه حدّة ، فقال له سعد بن معاذ : دع عنك مشاتمتهم ، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة . ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلموا عليه ، ثم قالوا : عضل والقارة : أي كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الرجيع خبيب بن عديّ وأصحابه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الله أكبر ، أبشروا يا معشر المسلمين » ، وعظم عند ذلك البلاء ، واشتدّ الخوف ، وأتاهم عدوّهم من فوقهم ، ومن أسفل منهم ، حتى ظنّ المسلمون كلّ ظنّ ، ونجم النفاق من بعض المنافقين ، حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط ، وحتى قال أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث : يا رسول الله إن بيوتنا لعورة من العدوّ ، وذلك عن ملإ من رجال قومه ، فأذن لنا فلنرجع إلى دارنا ، وإنها خارجة من المدينة ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ، ولم يكن بين القوم حرب إلاّ الرمي بالنبل والحصار » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان ، قوله إذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ فالذين جاءوهم من فوقهم : قريظة ، والذين جاءوهم من أسفل منهم : قريش وغطفان .
وقوله : وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ يقول : وحين عدلت الأبصار عن مقرّها ، وشخصت طامحة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ : شخصت .
وقوله : وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ يقول : نبت القلوب عن أماكنها من الرعب والخوف ، فبلغت إلى الحناجر . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سويد بن عمرو ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرِمة : وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ قال : من الفزع .
وقوله : وَتَظُنّونَ باللّهِ الظّنُونا يقول : وتظنون بالله الظنونَ الكاذبة ، وذلك كظنّ من ظنّ منهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغلب ، وأن ما وعده الله من النصر أن لا يكون ، ونحو ذلك من ظنونهم الكاذبة التي ظنها من ظنّ ممن كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عسكره .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا هوذة بن خليفة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن وَتَظُنّونَ بالله الظّنُونا قال : ظنونا مختلفة : ظنّ المنافقون أن محمدا وأصحابه يُستأصلون ، وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله حقّ ، أنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَتَظُنّونَ بالله الظّنُونا فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة ، وبعض الكوفيين : الظّنَونا بإثبات الألف ، وكذلك وأطَعْنا الرّسُولا فأضَلّونا السّبِيلا في الوصل والوقف وكان اعتلال المعتلّ في ذلك لهم ، أن ذلك في كل مصاحف المسلمين بإثبات الألف في هذه الأحرف كلها . وكان بعض قرّاء الكوفة يثبت الألف فيهنّ في الوقف ، ويحذفها في الوصل اعتلالاً بأن العرب تفعل ذلك في قوافي الشعر ومصاريعها ، فتلحق الألف في موضع الفتح للوقوف ، ولا تفعل ذلك في حشو الأبيات ، فإن هذه الأحرف ، حسُن فيها إثبات الألفات ، لأنهنّ رؤوس الاَي تمثيلاً لها بالقوافي . وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة والكوفة بحذف الألف من جميعه في الوقف والوصل ، اعتلالاً بأن ذلك غير موجود في كلام العرب إلاّ في قوافي الشعر دون غيرها من كلامهم ، وأنها إنما تفعل ذلك في القوافي طلبا لإتمام وزن الشعر ، إذ لو لم تفعل ذلك فيها لم يصحّ الشعر ، وليس ذلك كذلك في القرآن ، لأنه لا شيء يضطرهم إلى ذلك في القرآن ، وقالوا : هنّ مع ذلك في مصحف عبد الله بغير ألف .
وأولى القرَاءات في ذلك عندي بالصواب ، قراءة من قرأه بحذف الألف في الوصل والوقف ، لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب ، مع شهرة القراءة بذلك في قرّاء المصرين : الكوفة ، والبصرة ثم القراءة بإثبات الألف فيهنّ في حالة الوقف والوصل ، لأن علة من أثبت ذلك في حال الوقف أنه كذلك في خطوط مصاحف المسلمين . وإذا كانت العلة في إثبات الألف في بعض الأحوال كونه مثبتا في مصاحف المسلمين ، فالواجب أن تكون القراءة في كل الأحوال ثابتة ، لأنه مثبت في مصاحفهم . وغير جائز أن تكون العلة التي توجب قراءة ذلك على وجه من الوجوه في بعض الأحوال موجودة في حال أخرى ، والقراءة مختلفة ، وليس ذلك لقوافي الشعر بنظير ، لأن قوافي الشعر إنما تلحق فيها الألفات في مواضع الفتح ، والياء في مواضع الكسر ، والواو في مواضع الضمّ طلبا لتتمة الوزن ، وأن ذلك لو لم يفعل كذلك بطل أن يكون شعرا لاستحالته عن وزنه ، ولا شيء يضطرّ تالي القرآن إلى فعل ذلك في القرآن .
{ إذ } هذه لا بد من الأولى في قوله : { إذ جاءتكم } [ الأحزاب : 9 ] ، وقوله تعالى : { من فوقكم } يريد أهل نجد مع عيينة بن حصن ، { ومن أسفل منكم } يريد مكة وسائر تهامة ، قاله مجاهد وقيل «من فوق وأسفل » هنا إنما يراد به ما يختص ببقعة المدينة ، أي نزلت طائفة في أعلى المدينة وطائفة في أسفلها ، وهذه عبارة عن الحصر ، و { زاغت } معناه مالت عن مواضعها ، وذلك فعل الواله الفزع المختبل ، وأدغم الأعمش { إذ زاغت } وبين الذال الجمهور وكل حسن ، { وبلغت القلوب الحناجر } عبارة عما يجده الهلع من ثوران نفسه وتفرقها شعاعاً ويجد كأن حشوته وقلبه يصعد لينفصل ، فليس بلوغ القلوب الحناجر حقيقة بالنقلة بل يشير لذلك وتجيش فيستعار لها بلوغ الحناجر ، وروى أبو سعيد الخدري أن المؤمنين قالوا يوم الخندق : يا رسول الله بلغت القلوب الحناجر فهل من شيء نقوله ، قال : «نعم ، قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا » ، فقالوها فضرب الله تعالى وجوه الكفار بالريح فهزمهم{[9467]} .
وقوله { وتظنون بالله الظنونا } أي تكادون تضطربون وتقولون ما هذا الخلف للموعد ، وهذه عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين لا يمكن للبشر دفعها وأما المنافقون فجلحوا{[9468]} ونطقوا ، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة «الظنونا » بالألف في الوصل والوقف ، وذلك اتباع لخط المصحف ، وعلته تعديل رؤوس الآي وطرد هذه العلة أن يلازم الوقف ، وقد روي عن أبي عمرو أنه كان لا يصل ، فكان لا يوافق خط المصحف وقياس الفواصل ، وقرأ أبو عمرو أيضاً وحمزة في الوصل والوقف «الظنون » بغير ألف وهذا هو الأصل ، وقرأ ابن كثير والكسائي وعاصم وأبو عمرو بالألف في الوقف وبحذفها في الوصل ، وعللوا الوقف بتساوي رؤوس الآي على نحو فعل العرب في القوافي من الزيادة والنقص .
{ إذ جاءوكم } بدل من { إذ جاءتكم جنود } [ الأحزاب : 9 ] بدلَ مفصَّل من مجمل . والمراد ب ( فوق ) و { أسفل } فوق جهة المدينة وأسفلها .
و { وإذا زاغت الأبصار } عطف على البدل وهو من جملة التفصيل ، والتعريف في { الأبصار والقلوب والحناجر للعهد ، أي : أبصار المسلمين وقلوبهم وحناجرهم ، أو تجعل اللام فيها عوضاً عن المضافات إليها ، أي : زاغت أبصاركم وبلغت قلوبكم حناجركم .
والزَيغ : الميل عن الاستواء إلى الانحراف . فزيغ البصر أن لا يرى ما يتوجه إليه ، أو أن يريد التوجه إلى صوب فيقع إلى صوب آخر من شدة الرعب والانذعار .
والحناجر : جمع حَنْجَرة بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الجيم : منتهى الحُلقوم وهي رأس الغلصمة . وبلوغ القلوب الحناجر تمثيل لشدة اضطراب القلوب من الفزع والهلع حتى كأنها لاضطرابها تتجاوز مقارّها وترتفع طالبة الخروج من الصدور فإذا بلغت الحناجر لم تستطع تجاوزها من الضيق ؛ فشبهت هيئة قلب الهلوع المرعُود بهيئة قلببٍ تجاوز موضعه وذهب متصاعداً طالباً الخروج ، فالمشبه القلبُ نفسه باعتبار اختلاف الهيئتين . وليس الكلام على الحقيقة ، فإن القلوب لا تتجاوز مكانها ، وقريبٌ منه قولهم : تنفّس الصُعَداء ، وبلغت الروح التراقيَ .
وجملة { وتظنون بالله الظنونا } يجوز أن تكون عطفاً على جملة { زاغت الأبصار } ويجوز أن يكون الواو للحال وجيء بالفعل المضارع للدلالة على تجدد تلك الظنون بتجدد أسبابها كناية عن طول مدة هذا البلاء .
وفي صيغة المضارع معنى التعجيب من ظنونهم لإدماج العتاب بالامتنان فإن شدة الهلع الذي أزاغ الأبصار وجعل القلوب بمثل حالة أن تبلغ الحناجر ، دل على أنهم أشفقوا من أن يهزموا لِمَا رأوا من قوة الأحزاب وضيق الحصار أو خافوا طول مدة الحرب وفناء الأنفس ، أو أشفقوا من أن تكون من الهزيمة جراءة للمشركين على المسلمين ، أو نحو ذلك من أنواع الظنون وتفاوت درجات أهلها .
والمؤمن وإن كان يثق بوعد ربه لكنه لا يأمن غضبه من جراء تقصيره ، ويخشى أن يكون النصر مرجَّأ إلى زمن آخر ، فإن ما في علم الله وحكمته لا يحاط به .
وحذف مفعولا { تظنون } بدون وجود دليل يدل على تقديرهما فهو حذف لتنزيل الفعل منزلة اللازم ، ويسمى هذا الحذف عند النحاة الحذف اقتصاراً ، أي : للاقتصار على نسبة فعل الظن لفاعله ، والمقصود من هذا التنزيل أن تذهب نفس السامع كل مذهب ممكن ، وهو حذف مستعمل كثيراً في الكلام الفصيح وعلى جوازه أكثر النحويين ومنه قوله تعالى : { أعنده علم الغيب فهو يَرى } [ النجم : 35 ] وقوله : { وظننتم ظن السوء } [ الفتح : 12 ] ، وقول المثل : من يسمع يَخل ، ومنعه سيبويه والأخفش .
وضُمِّن { تظنّون } معنى تُلحقون ، فعدي بالباء فالباء للملابسة . قال سيبويه : قولهم : ظننت به ، معناه : جعلته موضع ظنّي . وليست الباء هنا بمنزلتها في { كفى بالله حسيباً } [ النساء : 6 ] ، أي : ليست زائدة ، ومجرورها معمول للفعل قبلها كأنك قلت : ظننت في الدار ، ومثله : شككت فيه ، أي : فالباء عنده بمعنى ( في ) .
والوجه أنها للملابسة كقول دريد بن الصِّمَّة :
فقلت لهم : ظُنوا بألفي مدجج *** سراتهم في الفارسي المسرد
وسيأتي تفصيل ذلك عند قوله تعالى { فما ظنكم برب العالمين } في سورة الصافات ( 87 ) .
وانتصب { الظنونا } على المفعول المطلق المبين للعدد ، وهو جمع ظن . وتعريفه باللام تعريف الجنس ، وجمعه للدلالة على أنواع من الظن كما في قول النابغة :
أبيتك عارياً خلقاً ثيابي *** على خوف تظن بي الظنون
وكتب { الظنونا } في الإمام بألف بعد النون ، زيدت هذه الألف في النطق للرعاية على الفواصل في الوقوف ، لأن الفواصل مثل الأسْجاع تعتبر موقوفاً عليها لأن المتكلم أرادها كذلك . فهذه السورة بنيت على فاصلة الألف مثل القصائد المقصورة ، كما زيدت الألف في قوله تعالى { وأطعنا الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] وقوله : { فأضلونا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] .
وعن أبي علي في « الحجة » : من أثبت الألف في الوصل لأنها في المصحف كذلك وهو رأس آية ورؤوس الآيات تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع ، فأما في طرح الألف في الوصل فإنه ذهب إلى أن ذلك في القوافي وليس رؤوس الآي بقوافٍ .
فأما القراء فقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بإثبات الألف في الوصل والوقف . وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم والكسائي بحذف الألف في الوصل وإثباتها في الوقف . وقرأ أبو عمرو وحمزة ويعقوب بحذف الألف في الوصل والوقف ، وقرأ خلف بإثبات الألف بعد النون في الوقف وحذفها في الوصل . وهذا اختلاف من قبيل الاختلاف في وجوه الأداء لا في لفظ القرآن . وهي كلها فصيحة مستعملة والأحسن الوقف عليها لأن الفواصل كالأسجاع والأسجاع كالقوافي .