الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠} (10)

قوله تعالى : " إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم " " إذ " في موضع نصب بمعنى واذكر . وكذا " وإذ قالت طائفة منهم " . " من فوقكم " يعني من فوق الوادي ، وهو أعلاه من قبل المشرق ، جاء منه عوف بن مالك في بني نصر ، وعيينة بن حصن في أهل نجد ، وطليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد . " ومن أسفل منكم " يعني من بطن الوادي من قبل المغرب ، جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة ، ويزيد بن جحش على قريش ، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة مع عامر بن الطفيل من وجه الخندق . " وإذ زاغت الأبصار " أي شخصت . وقيل : مالت ، فلم تلتفت إلا إلى عدوها دهشا من فرط الهول . " وبلغت القلوب الحناجر " أي زالت عن أماكنها من الصدور حتى بلغت الحناجر وهي الحلاقيم ، واحدها حنجرة ، فلولا أن الحلوق ضاقت عنها لخرجت . قاله قتادة . وقيل : هو على معنى المبالغة على مذهب العرب على إضمار كاد . قال{[12765]} :

إذا ما غضبنا غضبةً مُضَرِيَّةً *** هتكنا حجابَ الشمسِ أو قَطَرَتْ دَمَا

أي كادت تقطر . ويقال : إن الرئة تنفتح عند الخوف فيرتفع القلب حتى يكاد يبلغ الحنجرة مثلا ؛ ولهذا يقال للجبان : انتفخ سحره . وقيل : إنه مثل مضروب في شدة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر ، وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة . قال معناه عكرمة . روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال : بلغ فزعها . والأظهر أنه أراد اضطراب القلب وضربانه ، أي كأنه لشدة اضطرابه بلغ الحنجرة . والحنجرة والحنجور ( بزيادة النون ) حرف الحلق . " وتظنون بالله الظنونا " قال الحسن : ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون ، وظن المؤمنون أنهم ينصرون . وقيل : هو خطاب للمنافقين ، أي قلتم هلك محمد وأصحابه . واختلف القراء في قوله تعالى : " الظنونا ، والرسولا ، والسبيلا " آخر السورة ، فأثبت ألفاتها في الوقف والوصل نافع وابن عامر . وروي عن أبي عمرو الكسائي تمسكا بخط المصحف ، مصحف عثمان ، وجميع المصاحف في جميع البلدان . واختاره أبو عبيد ، إلا أنه قال : لا ينبغي للقارئ أن يدرج القراءة بعدهن لكن يقف عليهن . قالوا : ولأن العرب تفعل ذلك في قوافي أشعارهم ومصاريعها . قال :

نحن جلبنا القُرَّحَ{[12766]} القوافلا *** تستنفر الأواخرُ الأوائلا

وقرأ أبو عمرو والجحدري ويعقوب وحمزة بحذفها في الوصل والوقف معا . قالوا : هي زائدة في الخط كما زيدت الألف في قوله تعالى : " ولأوضعوا{[12767]} خلالكم " [ التوبة : 47 ] فكتبوها كذلك ، وغير هذا . وأما الشعر فموضع ضرورة ، بخلاف القرآن فإنه أفصح اللغات ولا ضرورة فيه . قال ابن الأنباري : ولم يخالف المصحف من قرأ . " الظنون . والسبيل . والرسول " بغير ألف في الحروف الثلاثة ، وخطهن في المصحف بألف ؛ لأن الألف التي في " أطعنا " والداخلة في أول " الرسول . والظنون . والسبيل " كفى من الألف المتطرفة المتأخرة كما كفت ألف أبي جاد من ألف هوّاز . وفيه حجة أخرى : أن الألف أنزلت منزلة الفتحة وما يلحق دعامة للحركة التي تسبق والنية فيه السقوط ، فلما عمل على هذا كانت الألف مع الفتحة كالشيء الواحد يوجب الوقف سقوطهما ويعمل على أن صورة الألف في الخط لا توجب موضعا في اللفظ ، وأنها كالألف في " سحران " وفي " فطر السموات والأرض " وفي " وعدنا موسى " وما يشبههن مما يحذف من الخط وهو موجود في اللفظ{[12768]} ، وهو مسقط من الخط . وفيه حجة ثالثة هي أنه كتب على لغة من يقول لقيت الرجلا . وقرئ على لغة من يقول : لقيت الرجل ، بغير ألف . أخبرنا أحمد بن يحيى عن جماعة من أهل اللغة أنهم رووا عن العرب قام الرجلو ، بواو ، ومررت بالرجلي ، بياء ، في الوصل والوقف . ولقيت الرجلا ، بألف في الحالتين كلتيهما . قال الشاعر :

أسائلةٌ عميرةُ عن أبيها *** خلال الجيش تعترف الرِّكابا{[12769]}

فأثبت الألف في " الركاب " بناء على هذه اللغة . وقال الآخر :

إذا الجوزاء أردفت الثريا *** ظننت بآل فاطمة الظنونا

وعلى هذه اللغة بنى نافع وغيره . وقرأ ابن كثير وابن محيصن والكسائي بإثباتها في الوقف وحذفها في الوصل . قال ابن الأنباري : ومن وصل بغير ألف ووقف بألف فجائز أن يحتج بأن الألف احتاج إليها عند السكت حرصا على بقاء الفتحة ، وأن الألف تدعمها وتقويها .


[12765]:القائل هو بشار بن برد.
[12766]:القرح: جمع القارح، وهي الناقة أوّل ما تحمل.
[12767]:هذا يدل على أن رسم المصحف:" ولا أوضعوا" بزيادة ألف.
[12768]:في الأصول:" وهو موجود في اللفظ ويثبت في اللفظ وهو..."
[12769]:البيت لبشر بن أبي خازم. واعترف القوم: سألهم.