فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠} (10)

{ إِذْ جَاؤوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ } { إذ } هذه وما بعدها بدل من { إذ } الأولى ، والعامل في هذه هو العامل في تلك . وقيل : منصوبة بمحذوف هو : اذكر ، ومعنى { مّن فَوْقِكُمْ } : من أعلى الوادي ، وهو من جهة المشرق ، والذين جاؤوا من هذه الجهة هم غطفان وسيدهم عيينة بن حصن ، وهوازن وسيدهم عوف بن مالك ، وأهل نجد ، وسيدهم طليحة بن خويلد الأسدي ، وانضمّ إليهم عوف بن مالك وبني النضير ، ومعنى { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } من أسفل الوادي من جهة المغرب من ناحية مكة ، وهم قريش ومن معهم من الأحابيش ، وسيدهم أبو سفيان بن حرب ، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حييّ بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة من وجه الخندق ، ومعهم عامر بن الطفيل ، وجملة { وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار } معطوفة على ما قبلها ، أي مالت عن كل شيء ، فلم تنظر إلا إلى عدوّها مقبلاً من كل جانب .

وقيل : شخصت دهشاً من فرط الهول والحيرة { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } جمع حنجرة ، وهي جوف الحلقوم ، أي ارتفعت القلوب عن مكانها ، ووصلت من الفزع والخوف إلى الحناجر ، فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها ، وهو الذي نهايته الحنجرة ، لخرجت ، كذا قال قتادة . وقيل هو على طريق المبالغة المعهودة في كلام العرب ، وإن لم ترتفع القلوب إلى ذلك المكان ولا خرجت عن موضعها ولكنه مثل في اضطرابها وجبنها . قال الفراء : والمعنى أنهم جبنوا وجزع أكثرهم ، وسبيل الجبان إذا اشتدّ خوفه أن تنتفخ رئته ، فإذا انتفخت الرئة ارتفع القلب إلى الحنجرة ، ولهذا يقال للجبان انتفخ سحره .

{ وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } أي الظنون المختلفة ، فبعضهم ظنّ النصر ورجا الظفر ، وبعضهم ظنّ خلاف ذلك . وقال الحسن : ظنّ المنافقون أنه يستأصل محمد وأصحابه ، وظنّ المؤمنون أنه ينصر . وقيل الآية خطاب للمنافقين ، والأولى ما قاله الحسن . فيكون الخطاب لمن أظهر الإسلام على الإطلاق أعمّ من أن يكون مؤمناً في الواقع أو منافقاً .

واختلف القراء في هذه الألف في { الظنونا } : فأثبتها وصلاً ووقفا نافع وابن عامر وأبو بكر ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو والكسائي ، وتمسكوا بخط المصحف العثماني وجميع المصاحف في جميع البلدان فإن الألف فيها كلها ثابتة ، واختار هذه القراءة أبو عبيد إلا أنه قال : لا ينبغي للقارىء أن يدرج القراءة بعدهنّ بل يقف عليهنّ ، وتمسكوا أيضاً بما في أشعار العرب من مثل هذا . وقرأ أبو عمرو وحمزة والجحدري ويعقوب بحذفها في الوصل والوقف معاً ، وقالوا : هي من زيادات الخط ، فكتبت كذلك ، ولا ينبغي النطق بها . وأما في الشعر فهو يجوز فيه للضرورة ما لا يجوز في غيره . وقرأ ابن كثير والكسائي وابن محيصن بإثباتها وقفاً ، وحذفها وصلاً ، وهذه القراءة راجحة باعتبار اللغة العربية ، وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق ، والكلام فيها معروف في علم النحو ، وهكذا اختلف القراء في الألف التي في قوله { الرسولا } { والسبيلا } كما سيأتي آخر هذه السورة .

/خ17