جامع البيان في تفسير القرآن للإيجي - الإيجي محيي الدين  
{إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠} (10)

{ إِذْ جَاؤُوكُم } بدل من جاءتكم ، { مِّن فَوْقِكُم } : من أعلى الوادي من قبل المشرق ، { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } : من قبل المغرب ، { وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ } مالت أبصار المسلمين عن سنتها حيرة لشدة الأمر ، { وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } : رعبا وهذا مثل في الاضطراب ، قيل : إذا انتفخت الرئة من فزع أو غضب ارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة وهي منتهى الحلقوم ، { وَتَظُنُّونَ{[4060]} بِاللَّهِ الظُّنُونَا } ، حتى قال بعض المنافقين : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر والآن لا نقدر أن نذهب إلى الغائط ، والألف زيدت تشبيها للفواصل بالقوافي ،


[4060]:ظن كل من المؤمن الخالص والمؤمن الضعيف والمنافق مختلف، وظن المنافقين ما حكى الله عنهم بقوله: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية} إلى قوله: {يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا} [آل عمران: 154]، قال بعض الأئمة بعد بيان سوء الظن: وبالجملة فأعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به، ولهذا يتوعدهم في كتابه على إساءة الظن به أعظم وعيد، كما قال تعالى: {الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا} [الفتح: 6] إلى أن قال: واعلم أنك إذا تأملت جميع طوائف الضلال والبدع، وجدت أصل ضلالهم راجعا إلى شيئين: أحدهما: ظنهم بالله ظن السوء، والثاني: أنهم لم يقدروا الرب حق قدره، قال الإمام العلامة شمس الدين ابن القيم رحمه الله في الهدى النبوي: من ظن أن الله سبحانه وتعالى أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحقائق المقصورة من كلامه سبحانه وتعالى، ورمز إليهم رموزا بعيدة وأشار إليهم إشارة ملغزة وصرح بالتشبيه، والتمثيل والأمور الباطلة التي لا تجوز عليه ولا تليق، وأراد من خلقه أن يتبعوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه وتأويله على غير تأويله المفهوم من ظاهره، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة شرعا وعقلا، والتأويل التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفته وأسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق، الذي ينبغي التصريح به ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في الاعتقاد الباطل فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان، فقد ظن به السوء، فإنه إن قيل: أنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه، فقد ظن العجز بقدرته وإن قيل: أنه قادر ولم يبين، وعدل عن البيان والتصريح بالحق إلى ما يوهم بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد، فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء، ومن ظن أنه وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباداتهم، وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهورين الحائرين هو الهدى والحق، هذا من سوء الظن بالله، فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية، ومن ظن بأنه ليس فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه أسفل كما هو أعلى وإن من قال: سبحان ربي الأسفل كما قال: سبحان ربي الأعلى، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه، ومن ظن به خلاف ما وصف نفسه، أو وصفه به رسوله فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أن أحدا يشفع عنده بغير إذنه، وأن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، وأنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه، ويتوسلون بهم إليه ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم، فيدعونهم في حاجتهم إليه سبحانه وتعالى، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه، إلى آخر ما بين وفصل رحمه الله تعالى /12.