فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠} (10)

{ إِذْ جَاءوكُم مِّن فَوْقِكُمْ } أي اذكر إذ جاءوكم من أعلى الوادي ، وهو من جهة المشرق والذين جاءوا من هذه الجهة هم غطفان وسيدهم عيينة بن حصن ، وهوازن وسيدهم عوف ابن مالك ، وأهل نجد وسيدهم طليحة بن خويلد الأسدي ، وانضم إليهم عوف بن مالك ، وبنوا النضير . وعن عائشة في الآية قالت كان ذلك يوم الخندق { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } أي من أسفل الوادي من جهة المغرب من ناحية مكة ، وهم قريش ومن معهم من الأحابيش وسيدهم أبو سفيان بن حرب وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة من وجه الخندق ومعهم عامر بن الطفيل .

{ وَإِذْ } معطوف على ما قبله داخل معه في حكم التذكير { زَاغَتْ الأَبْصَارُ } أي مالت وعدلت عن كل شيء فلم تنظر إلا عدوها مقبلا من كل جانب ، وقيل شخصت دهشا من فرط الهول والحيرة { وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } جمع حنجرة ، وهي جوف الحلقوم ، وقيل رأس الغلصمة ، والغلصمة رأس الحلقوم ، وقيل هي منتهى الحلقوم ، والحلقوم مجرى الطعام والشراب وقيل مجرى النفس ، والمريء مجرى الطعام والشراب ، وهو تحت الحلقوم وقال الراغب رأس الغلصمة من خارج ، والمعنى ارتفعت القلوب عن مكانها ووصلت من الفزع والخوف إلى الحناجر ، فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها وهو الذي نهايته الحنجرة لخرجت ، كذا قال قتادة ، وقيل هو على طريق المبالغة المعهودة في كلام العرب وإن لم ترتفع القلوب إلى ذلك المكان ولا خرجت عن موضعها ، ولكنه مثل في اضطرابها وجبنها ، قال الفراء والمعنى أنهم جبنوا وجزع أكثرهم ، وسبيل الجبان إذا اشتد الخوف أن تنتفخ رئته ، فإذا انتفخت الرئة ارتفع القلب إلى الحنجرة ، ولهذا يقال للجبان : انتفخ سحره .

{ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا } المختلفة ، فبعضهم ظن النصر ورجا الظفر ، وبعضهم ظن خلاف ذلك . وقال الحسن ظن المنافقون أنه يستأصل محمد وأصحابه وظن المؤمنون أنه ينصر . وقيل : الآية خطاب للمنافقين ، والأولى ما قاله الحسن ، فيكون الخطاب لمن أظهر الإسلام على الإطلاق ، أعم من أن يكون مؤمنا في الواقع أو منافقا .

واختلف القراء في الألف في الظنونا ، فأثبتها وصلا ووقفا جماعة وتمسكوا بخط المصحف العثماني ، وجميع المصاحف في البلدان ، فإن الألف فيها كلها ثابت وتمسكوا أيضا بما في أشعار العرب من مثل هذا . وأيضا أن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة ، وهاء السكت تثبت وقفا ، للحاجة إليها ، وقد تثبت وصلا إجراء للوصل مجرى الوقف ، وقرئ بحذفها في الوصل والوقف معا لأنها لا أصل لها ، وقالوا هي من زيادات الخط فكتبت كذلك ولا ينبغي النطق بها ، وأما الشعر فهو يجوز فيه للضرورة ما لا يجوز في غيره ، وقولهم : أجريت الفواصل مجرى القوافي غير معتد به ، لأن القوافي يلزم الوقف عليها غالبا ، والفواصل لا يلزم ذلك فيها فلا تشبه بها ، وقرئ بإثباتها وقفا ، وحذفها وصلا إجراء للفواصل مجرى القوافي في ثبوت ألف الإطلاق ولأنها كهاء السكت ، وهي تثبت وقفا وتحذف وصلا ، قاله السمين وهذه القراءة راجحة باعتبار اللغة العربية ، وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق ، والكلام فيها معروف على علم النحو ، وهكذا اختلف القراء في الألف التي في قوله : الرسولا والسبيلا ، كما يأتي في آخر هذه السورة .