اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠} (10)

قوله : «إِذْ جَاؤُوكُمْ » بدل من «إذْ » الأولى{[43170]} ، والحناجر جمع «حَنْجَرَةٍ » وهي رأس الغَلْصَمَةِ والغَلْصَمَة منتهى الحُلْقُومِ ، والحلقوم مجرى الطعام والشراب ، وقيل : الحلقوم مَجْرَى النفس والمريء الطعام والشراب وهو تحت الحلقوم{[43171]} وقال الرَّاغِبُ{[43172]} : رَأْسُ الغَْلصَمَةِ من خارج{[43173]} .

قوله : «الظُّنُونا » قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بإثبات ألف بعد نون «الظُّنُون » ولام الرسول في قوله : { وَأَطَعْنَا الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] ولام السبيل في قوله : { فَأَضَلُّونَا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] وصلاً وَوَقْفاً موافقة للرسم{[43174]} ؛ لأنهن رسمن في المصحف كذلك وأيضاً فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة ، وهاء السكت تثبت وَقْفاً للحاجة إليها وقد ثبتت وصلاً إجراءً للوصل مُجْرَى الوقف كما تقدم في البقرة والأنعام فكذلك هذه الألف ، وقرأ أبو عمرو وحمزةُ بحذفها في الحالين{[43175]} ؛ لأنها لا أصل لها وقولهم : أجريت الفواصل مُجْرَى القوافي غير معتدٍّ به لأن القوافيَ{[43176]} يلتزم الوقف عليها غالباً ، والفواصل لا يلزم ذلك فيها فلا تُشَبَّهُ بها ، والباقون بإثباتها وقفاً وحذفها وصلاً إجراء للفواصل مُجْرَى القوافي في ثبوت ألف الإطلاق{[43177]} كقوله :

4069 - اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالوَفَاءِ وَبِالعَدْلِ *** وَوَلَّى المَلاَمَةَ الرَّجُلاَ{[43178]}

وقوله :

4070 - أَقِلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالعِتَابَا *** وَقُولِي إِنْ أَصَبْتُ لَقَدْ أَصَابَا{[43179]}

ولأنها كهاء السكت وهي تثبت وقفاً وتحذف وصلاً ، قال شهاب الدين : «كذا يقولون تشبيهاً للفواصل بالقوافي وأنا لا أحب هذه العبارة فإِنها منكرة{[43180]} لفظاً » . ولا خلاف في قوله : { وَهُوَ يَهْدِي السبيل } أنه بغير ألف في الحالين .

فصل :

المعنى إذْ جَاؤُوكُمْ من فوقكم أي من فوق الوادي من قبل المَشْرِق{[43181]} وهم «أَسَدٌ » ، وغَطَفَان عليهم مالكُ بن عَوْف النَّضرِيّ ، وعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْن الفزَاريّ في{[43182]} ألفٍ من غَطَفَانَ ومنهم طلحةُ بن خُوَيْلد الأسَدِيّ في بني أسد ، وحُيَيّ بن أَخْطَبَ في يهودِ بني قُرَيْظَةَ { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } أي من بطن الوادي من قِبَلِ المَغْرب وهم قُرَيْشٌ وكِنَانَةُ عليهم أبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ ومن معه وأبو الأعور بن سُفْيَانَ السُّلَمِي من قبل الخندق ، وكان الذي جر غزوة الخندق فيما قيل إجلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَنِي النَّضِير من ديارهم { وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار } مالت وشَخِصَتْ{[43183]} من الرعب ، وقيل : مالت{[43184]} عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحُلُوق من الفَزَع ، وهذا على التمثيل عبر به عن شدة الخوف{[43185]} . قال الفراء معناه أنهم جَبنُوا{[43186]} ، وسبيل الجَبَان إذا اشتد خوفه أن تَنْتَفِخَ رِئَتُهُ فإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة ولهذا يقال للجبان : انتفخ سحره ؛ لأن القلب{[43187]} عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة{[43188]} وقد يفضي إلى أن يَسُدَّ مخرج النفس فلا يقدر المرء ( أن ) يتنفس ويموت من الخوف . { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } وهو اختلاف الظنون ، فظن المنافقون استئصال محمد وأصحابه وظن المؤمنون النصر والظفر لهم .

فإن قيل : المَصْدَرُ لا يُجْمَعُ فما الفائدة من جمع الظنون ؟ .

فالجواب : لا شك أنه منصوب على المصدر ولكن الاسم قد يجعل{[43189]} مصدراً كما يقال : «ضَرَبْتُهُ سِيَاطاً » و «أَدَّبْتُهُ مِرَاراً » فكأنه قال : ظَنَنْتُمْ ظَنّاً{[43190]} جاز أن يكونوا مصيبين فإذا قال : ظُنُوناً بين أن فيهم من كان ظنه كاذباً لأن الظنون قد تكذب كلها ، وقد تكذب بعضها إذا كانت في أمر واحد كما إذا رأى جمع جسماً من بعيد فظنه بعضهم أنه زيدٌ ، وآخرونَ أنه عمرو ، وآخرون أنه بكرٌ ، ثم ظهر لهم الحق قد يكونون كلهم مخطئين والمرئي شجر أو حجر ، وقد يكون أحدهم مصيباً ولا يمكن أن يكونوا كلهم مُصِيبِين في ظنونهم ، فقوله : «الظُّنون » أفادنا أن فيهم من أخطأ الظن ، ولو قال : { تظنون بالله ظناً } ما كان يفيد{[43191]} هذا ، والألف واللام في «الظنون » يمكن أن تكون للاستغراق مبالغة بمعنى تظنون كل ظن ، ولأن عند الأمر العظيم كل أحد يظن شيئاً ، ويمكن أن تكون الألف واللام للعهد أي ظنونهم المعهودة ؛ لأن المعهود من المؤمن ظن الخير{[43192]} بالله كما قال عليه ( الصلاة{[43193]} و ) السلام : «ظُنُّوا باللَّهِ خَيْراً »{[43194]} ومن الكافر الظن السوء كقوله تعالى : { ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُوا } [ ص : 27 ] وقوله : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } [ الأنعام : 148 ] .


[43170]:ذكره في الدر المصون 4/367. والتبيان 1053.
[43171]:ذكره أيضاً في الدر المصون 4/367 والقرطبي 14/145.
[43172]:تقدم.
[43173]:ينظر: المفردات 133.
[43174]:انظر الإتحاف 353 والسبعة 519 و 920 وإبراز المعاني 645 و 646 والنشر 2/347 وحجة ابن خالويه 289.
[43175]:المراجع السابقة.
[43176]:في "ب" يلزم.
[43177]:ذكره في الدر المصون 4/378.
[43178]:البيت من المنسرح وهو للأعشى وهو فيه يخبرنا أن الكمال لله وحده بينما النقص صفة من صفات الإنسان تعالى الله عنه علواً كبيراً. والبيت شاهد على ألف الإطلاق في "الرَّجُلا" فكان بالإمكان أن يقول: "الرجل" ولكنه أطلق وهنا يصحّ وكثير في كلامهم الشّعْريّ وانظر: إبراز المعاني 646 وديوانه 170.
[43179]:من مشهور الأبيات الشعرية وهو من تمام الوافر، لجرير وقوله: "عاذل" مرخم "عاذلة" علماً، والشاهد: "أصابا، والعتابا" بألف أطلقت ناشئة عن إشباع فتحة الباء، وذلك- كما قلت- كثيرٌ في الشعر ويروى: العتابن، وأصَابَنْ، وعليه فلا شاهد فيه حينئذ. فالألف قد أبدلت نوناً وهو المسمى التنوين الغالي. وانظر: الكتاب 4/205 و 208 والمقتضب 1/375 والخصائص 1/171 و 2/96 والإنصاف 655 وابن يعيش 4/115 و 145 و 9/29، والخزانة 1/69، 74، وديوانه 89.
[43180]:انظر: الدر المصون 4/368.
[43181]:انظر: القرطبي 14/144.
[43182]:في "ب" من.
[43183]:قال ابن قتيبة في غريب القرآن 348: "عدلت" وانظر: القرطبي 14/144 و 145.
[43184]:المرجع السابق.
[43185]:وقيل: هو على معنى المبالغة على مذهب العرب على إضمار "كاد" قال: إذا غضبنا غضبةً مُضربَّةً *** هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما أي كادت تقطر كذا قرره القرطبي في تفسيره الجامع 14/145.
[43186]:في المعاني 2/336 ذكر أن الرجل منهم كانت تنتفخ رئته حتى ترفع قلبه إلى حنجرته من الفزع.
[43187]:نقله الفخر الرازي في تفسيره 25/198.
[43188]:في الفخر فيتقلص فيلتصق.
[43189]:في "ب" يحصل.
[43190]:في تفسير الرازي: ظننتم ظناً بعد ظن أي ما ثبتم على ظن فالفائدة هي أن الله تعالى لو قال: تظنون ظناً جاز....
[43191]:انظر: تفسير الرازي 25/198، 199.
[43192]:السابق.
[43193]:زيادة من "ب".
[43194]:لم أعثر عليه بصيغته هذه في الكتب المعتمدة للحديث وقد نقله الفخر الرازي 25/198.