التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠} (10)

ثم فصل - سبحانه - ما حدث للمؤمنين فى هذه الغزوة ، بعد هذا الإِجمال ، فقال : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ } أى : من أعلى الوادى من جهة المشرق .

والجملة بدل من قوله { إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ } . والمراد بالذين جاءوا من تلك الجهة : قبائل غطفان وهوزان . . وانضم إليهم بنو قريظة بعد أن نقضوا عهودهم .

{ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } أى : ومن أسفل الوادى من جهة المغرب ، وهم قريش ومعهم أحابيشهم وحلفاؤهم .

وقوله : { وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار } معطوف على ما قبله ، داخل معه فى حيز التذكير .

أى : واذكروا وقت أن زاغت أبصاركم ، ومالت عن كل شئ حولها ، وصارت لا تنظر إلا إلى أولئك الأعداء . يقال زاغ البصر يزيغ زيغا وزيغانا إذا مال وانحرف . ويقال - أيضا : زاغ البصر ، إذا مل وتعب بسبب استدامة شخوصه من شدة الهول .

وقوله { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } بيان آخر لما أصاب المسلمين من بلاء بسبب إحاطة جيوش الأحزاب بهم .

والحناجر : جمع حنجرة ، وهى جوف الحلقوم ، والمراد أن قلوبكم فزعت فزعا شديدا ، حتى لكأنها قد انتقلت من أماكنها إلى أعلى ، حتى قاربت أن تخرج من أفواهكم .

فالآية تصور ما أصاب المسلمين من فزع وكرب فى غزوة الأحزاب ، وتصيرا بديعا مؤثرا ، يرسم حركات القلوب ، وملامح الوجوه ، وخلجات النفوس .

وقوله - سبحانه - { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } بيان لما دار فى عقولهم من أفكار ، حين رأوا الأحزاب وقد أحاطوا بالمدينة .

والظنون جمع الظن . وهو مصدر يطلق على القليل والكثير منه . وجاء بصيغة الجمع لتعدد أنواعه ، واختلافه باختلاف قوة الإِيمان وضعفه .

أى : وتظنون - أيها المؤمنون - بالله - تعالى - الظنون المختلفة ، فمنكم من ازداد يقينا على يقينه ، وازداد ثقة بوعد الله - تعالى - وبنصره ، ومنكم من كان أقل من ذلك فى ثباته ويقينه ، ومنكم من كان يظهر أمامكم الإِيمان والاسلام ، ويخفى الكفر والعصيان ، وهم المنافقون وهؤلاء ظنوا الظنون السيئة ، بأن اعتقدوا بأن الدائرة ستدور عليكم .

قال ابن كثير : قوله { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } قال الحسن : ظنون مختلفة ، ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون ، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق ، وأنه - سبحانه - سيظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون .

" عن أبى سعيد قال : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله ، هل من شئ نقول ، فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نعم : قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا " .

قال : فضرب الله - تعالى - وجوه أعدائه بالريح فهزمهم .