معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (39)

قوله تعالى : { فنادته الملائكة } . قرأ حمزة والكسائي : " فناداه " بالياء ، والآخرون بالتاء لتأنيث لفظ الملائكة وللجمع ، مع أن الذكور إذا تقدم فعلهم وهم جماعة كان التأنيث فيها أحسن كقوله تعالى : ( قالت الأعراب ) . وعن إبراهيم قال : كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما يذكر الملائكة في القرآن ، قال أبو عبيدة : إنما نرى عبد الله اختار ذلك خلافاً للمشركين في قولهم الملائكة بنات الله تعالى ، وروى الشعبي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إذا اختلفتم في التاء والياء فاجعلوها ياء وذكروا القرآن ، وأراد بالملائكة ها هنا جبريل عليه السلام وحده كقوله تعالى في سورة النحل ( ينزل الملائكة ) يعني جبريل بالروح والوحي ، ويجوز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع كقولهم : سمعت هذا الخبر من الناس ، وإنما سمع من واحد ، نظيره قوله تعالى ( الذين قال لهم الناس ) يعني نعيم بن مسعود ( أن الناس ) يعني أبا سفيان بن حرب . وقال المفضل بن سلمة : إذا كان القاتل رئيساً يجوز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه ، وكان جبريل عليه السلام رئيس الملائكة ، وقلما يبعث إلا ومعه جمع فجرى على ذلك .

قوله تعالى : { وهو قائم يصلي في المحراب } أي في المسجد وذلك أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان فيفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول ، فبينما هو قائم يصلي في المحراب ، يعني في المسجد عند المذبح يصلي والناس ينتظرون أن يأذن لهم في الدخول فإذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض تلمع ففزع منه فناداه وهو جبريل عليه السلام ، يا زكريا :

قوله تعالى : { إن الله يبشرك } . قرأ ابن عامر وحمزة " إن الله " بكسر الألف على إضمار القول تقديره : فنادته الملائكة فقالت إن الله ، وقرأ الآخرون بالفتح بإيقاع النداء عليه ، كأنه قال : فنادته الملائكة بأن الله يبشرك : قرأ حمزة : يبشرك ، وبابه بالتخفيف كل القرآن إلا قوله ( فبم تبشرون ) فإنهم اتفقوا على تشديدها ووافقه الكسائي هاهنا في الموضعين وفي سبحان ، والكهف ، وحم عسق ، ووافق ابن كثير وأبو عمرو في " حم عسق " والباقون بالتشديد ، فمن قرأ بالتشديد فهو من بشر يبشر تبشيراً وهو أعرب اللغات وأفصحها : دليل التشديد قوله تعالى ( فبشر عبادي ) ( وبشرناه بإسحاق ) ( قالوا بشرناك بالحق ) وغيرها من الآيات ، ومن خفف فهو من بشر يبشر وهي لغة تهامة ، وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه .

قوله تعالى : { بيحيى } هو الاسم لا يجر لمعرفته وللزائد في أوله ومثل يزيد ويعمر ، وجمعه يحيون مثل موسون ، وعيسون ، واختلفوا في أنه لم سمي يحيى ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما : لأن الله أحيا به عقر أمه .

قال قتادة :لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان ، وقيل : سمي يحيى لأنه استشهد والشهداء أحياء ، وقيل :معناه يموت ، وقيل : لأن الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية .

قوله تعالى : { مصدقاً } نصب على الحال .

قوله تعالى : { بكلمة من الله } يعني عيسى عليه السلام ، سمي عيسى كلمة الله لأن الله تعالى قال له : كن من غير أب فكان ، فوقع عليه اسم الكلمة . وقيل سمي كلمة لأنه يهتدي به بكلام الله تعالى ، وقيل : هي بشارة الله تعالى لمريم بعيسى عليه السلام بكلامه على لسان جبريل عليه السلام ، وقيل : لأن الله تعالى أخبر الأنبياء بكلامه في كتبه أنه يخلق نبياً بلا أب فمساه كلمة لحصوله بذلك الوعد ، وكان يحيى عليه السلام أول من آمن بعيسى عليه السلام وصدقه ، وكان يحيى عليه السلام اكبر من عيسى بستة أشهر ، وكانا ابني خالة ، ثم قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليه السلام ، وقال أبو عبيدة : ( بكلمة من الله ) أي بكتاب من الله وآياته ، تقول العرب : أنشدني كلمة فلان أي قصيدته .

قوله تعالى : { وسيداً } هو فعيل ، من ساد يسود وهو الرئيس الذي يتبع وينتهي إلى قوله .

قال المفضل : أراد سيداً في الدين ، قال الضحاك : السيد الحسن الخلق ، قال سعيد بن جبير : السيد الذي يطيع ربه عز وجل ، وقال سعيد بن المسيب : السيد الفقية العالم .

وقال قتادة : سيد في العلم والعبادة والورع ، وقيل : الحليم الذي لا يغضبه شيء ، قال مجاهد : الكريم على الله تعالى ، وقيل : السيد التقي ، قاله الضحاك : قال سفيان الثوري : الذي لا يحسد . وقيل : الذي يفوق قومه في جميع خصال الخير . وقيل : هو القانع بما قسم الله له . وقيل : هو السخي . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سيدكم يا بني سلمة ؟ قالوا : جد بن قيس على أنا نبخله قال : وأي داء أدوأ من البخل ؟ لكن سيدكم عمرو بن الجموح " .

قوله تعالى : { وحصوراً ونبياً من الصالحين } . والحصور أصله من الحصر وهو الحبس ، والحصور في قول ابن مسعود رضي الله عنه وابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة رضي الله عنهم وعطاء والحسن : الذي لا يأتي النساء ، ولا يقربهن ، وهو على هذا القول فعول بمعنى فاعل ؛ يعني انه يحصر نفسه عن الشهوات ، وقال سعيد بن المسيب : هو العنين الذي لاماء له ، فيكون الحصور بمعنى المحصور يعني الممنوع من النساء . قال سعيد بن المسيب : كان له مثل هدبة الثوب ، وقد تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره وفيه قول آخر ، إن الحصور هو الممتنع من الوطء مع القدرة عليه ، واختار قوم هذا القول لوجهين :أحدهما ، لأن الكلام خرج مخرج الثناء وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء . والثاني :أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (39)

لقد كانت نتيجته الإجابة من الله - تعالى - لعبده زكريا ، فقد قال - تعالى - { فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى } .

أى : فنادت الملائكة زكريا - عليه السلام - وهو قائم يصلي في المحراب ، يناجى ربه ويسبح بحمده بأن الله قد استجاب دعاءك ويبشرك بغلام اسمه يحيى ، لكى تقر به عينك ويسر به قلبك .

والتعبير بالفاء في قوله { فَنَادَتْهُ } يشعر بأن الله - تعالى - فضلا منه وكرما قد استجاب لزكريا دعاءه بعد فترة قليلة من ذا الدعاء الخاشع ، إذ الفاء تفيد التعقيب .

ويرى فريق من المفسرين أن الذي ناداه هو جبريل وحده ، ومن الجائز فى العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع .

قال ابن جرير : كما يقال في الكلام : خرج فلان على بغال البريد وإنما ركب بغلا واحداً وركب السفن وإنما ركب سفينة واحدة وكما يقال : ممن سمعت هذا ؟ فيقال : من الناس ، وإنما سمعه من رجل واحد ، وقد قيل : إن منه قوله - تعالى - { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } والقائل كان فيما ذكر واحد . ويرى فريق آخر منهم أن الذى نادى زكريا وبشره بمولوده يحيى ، جمع من الملائكة لأن الآية صريحة فى أن هذا النداء قد صدر من جمع لا من واحد ، ولأن صدوره من جمع يناسب هذه البشارة العظيمة ، فقد جرت العادة في أمثال هذه البشارات العظيمة أن يقوم بها جمع لا واحد ، ولا شك أن حالة زكريا وحالة زوجه تستدعيان عددا من المبشرين لإدخال السرور على هذين الشخصين اللذين كادا يفقدان الأمل في إنجاب الذرية .

وقد رجح هذا الاتجاه ابن جرير فقال " وأما الصواب من القول في تأويله فأن يقال : إن الله - جل ثناؤه - أخبر أن الملائكة نادته ، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الملائكة دون الواحد ، جبريل واحد فلا يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب دون الأقل ما وجدنا إلى ذلك سبيلا ، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفي من الكلام والمعاني " .

وقوله { وَهُوَ قَائِمٌ } جملة حالية من مفعول النداء ، و " يصلى " حال من الضمير المستكن فى قائم أو حال أخرى من مفعول النداء على القول بجواز تعدد الحال ، وقوله { فِي المحراب } متعلق بيصلى . والمراد بالمحراب هنا المسجد ، أو المكان الذى يقف فيه الإمام في مقدمة المسجد .

وقرأ جمهور القراء : { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } بفتح همزة أن - على أنه في محل جر بباء محذوفه . أى : نادته الملائكة بأن الله يبشرك بيحيى .

وقرأ ابن عامر وحمزة : { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } - بكسر الهمزة - على تضمين النداء معنى القول ، أى : قالت له الملائكة إن الله يبشرك بيحيى .

وقوله : { بيحيى } متعلق بيبشرك ، وفي الكلام مضاف أى يبشرك بولادة يحيى ، لأن الذوات ليست متعلقا للبشارة .

وفى اقتران التبشير بالتسمية بيحيى ، إشعار بأن ذلك المولود سيحيا اسمه وذكره بعد موته ، وبذلك تتحقق الإجابة لدعاء زكريا تحققا تاما ، فقد حكى القرآن عنه في سورة مريم أنه قال : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً } قال الجمل : و " يحيى ، فيه قولان :

أحدهما : وهو المشهور عند أهل التفسير أنه منقول من الفعل المضارع ، وقد سموا بالأفعال كثيراً نحو يعيش ويعمر . . وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعملية ووزن الفعل ، نحو يزيد ويشكر وتغلب .

والثاني : أنه أعجمي لا اشتقاق له ، وهذا هو الظاهر ، فامتناعه من الصرف للعلمية والعجمة " .

ثم وصف الله - تعالى - يحيى - عليه السلام - بأربع صفات كريمة فقال : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } .

فالصفة الأولى : من صفات يحيى - عليه السلام - أنه كان { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله } وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان :

أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه - وهم جمهور العلماء - أن المراد بكلمة الله هو عيسى - عليه السلام - لأنه كان يسمى بذلك أى أن يحيى كان مصدقا بعيسى ومؤمنا بأنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .

وقد كان يحيى معاصرا لعيسى . وكانت بينهما قرابة قوية إذ أن والدة يحيى كانت أختا لأم مريم وقيل إن أم يحيى كانت أختا لمريم .

وأما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه أن المراد بكلمة الله كتابه ، أى أن يحيى من صفاته الطيبة أنه كان مصدقا بكتاب الله وبكلامه ، وذلك لأن الكلمة قد تطلق ويراد منها الكلام ، والعرب تقول أنشد فلان كلمة أى قصيدة ، وقال كلمة أى خطبة .

ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب ، لأن القرآن قد وصف عيسى بأنه كلمة الله في أكثر من موضع فيه ومن ذلك قوله - تعالى -

{ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } وقوله تعالى - { يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ } ولأن فى التعبير عن عيسى الذى صدقه يحيى - بأنه كلمة من الله ، إشعاراً بأن ولادتهما متقاربة من حيث الزمن ، وإيماء إلى أن زكريا - عليه السلام - قد أوتى علماً بأن المسيح عهده قريب ، وأن يحيى - عليه السلام - سيعيش حتى يدرك عيسى .

وقوله { مُصَدِّقاً } منصوب على الحال المقدرة من يحيى ، أى على الحال التي سيكون عليها في المستقبل ، والمراد بهذا التصديق الإيمان بعيسى - كما سبق أن أشرنا - قيل : هو أول من آمن بعيسى وصدق أنه كلمة الله وروح منه .

و " من " في قوله { مِّنَ الله } للابتداء . والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة ، أى مصدقاً بكلمة كائنة من الله - تعالى - .

والصفة الثانية : من صفات يحيى عبر عنها القرآن بقوله " وسيدا " والسيد - كما يقول القرطبي - الذى يسود قومه وينتهى إلى قوله . وأصله سيود يقال : فلان أسود من فلان على وزن أفعل من السيادة ، ففيه دلالة على تسمية الإنسان سيدا . وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبني قريظة عندما دخل سعد بن معاذ - " قوموا إلى سيدكم " وفى الصحيحين أنه قال فى الحسن " إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " .

والمراد أن يحيى - عليه السلام - من صفاته أنه سيكون سيدا ، أى يفوق غيره في الشرف والتقوى وعفة النفس ، بأن يكون مالكا لزمامها ، ومسيطرا على أهوائها .

والصفة الثالثة : من صفاته عبر عنها القرآن بقوله : { وَحَصُوراً } وأصل الحصر : المنع والحبس .

يقال حصرني الشيء وأحصرني إذا حبسني .

والمراد أن يحيى - عليه السلام - من صفاته أنه سيكون حابسا نفسه عن الشهوات ، حتى لقد قيل عنه إنه امتنع عن الوزاج وهو قادر على ذلك - زهادة منه واستعفافا ، وليس صحيحا ما قيل من أنه كان لا يأتى النساء لعدم قدرته على ذلك .

قال ابن كثير : وقد قال القاضى عياض في كتابه الشفاء : اعلم أن ثناء الله على يحيى بأنه كان { وَحَصُوراً } معناه أنه معصوم من الذنوب ، أى لا يأتيها كأنه حصور عنها . وقيل : مانعا نفسه من الهشوات ، وقيل ليست له شهوة في النساء وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله - تعالى - كيحيى - عليه السلام - ثم هى في حق من قدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه : درجة عليا وهى درجة درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذى لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وهدايته لهن . . . والمقصود أن مدح يحيى بأنه حصور ليس معناه أنه لا يأتى النساء ، بل معناه أنه معصوم من الفواحش والقاذورات ، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال : { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً } كأنه قال ولداً له ذرية ونسل وعقب .

أما الوصف الرابع : من أوصاف يحيى - عليه السلام - فهو قوله - تعالى - { وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } وفى هذا الوصف بشارة ثانية لزكريا بأن ابنه سيكون من الأنبياء الذى اصطفاهم الله لتبليغ دعوته إلى الناس ، وهذه البشارة أسمى وأعلى من الأولى التى أخبره الله فيها بولادة يحيى ، لأن النبوة منزلة لا تعدلها منزلة في الشرف والفضل .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (39)

33

فما الذي كان من هذا الدعاء الخاشع الحار المنيب ؟

كانت الاستجابة التي لا تتقيد بسن ، ولا تتقيد بمألوف الناس ؛ لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد :

( فنادته الملائكة - وهو قائم يصلي في المحراب - أن الله يبشرك بيحيى ، مصدقا بكلمة من الله . وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ) . .

لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر ، الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء ؛ ويملك الإجابة حين يشاء . وبشرت الملائكة زكريا بمولود ذكر ، اسمه معروف قبل مولده ؛ " يحيى " ؛ وصفته معروفة كذلك : سيدا كريما ، وحصورا يحصر نفسه عن الشهوات ، ويملك زمام نزعاته من الانفلات . ومؤمنا مصدقا بكلمة تأتيه من الله . ونبيا صالحا في موكب الصالحين .

لقد استجيبت الدعوة ، ولم يحل دونها مألوف البشر الذي يحسبونه قانونا . ثم يحسبون أن مشيئة الله - سبحانه - مقيدة بهذا القانون ! وكل ما يراه الإنسان ويحسبه قانونا لا يخرج عن أن يكون أمرا نسبيا - لا مطلقا ولا نهائيا - فما يملك الإنسان وهو محدود العمر والمعرفة ، وما يملك العقل وهو محكوم بطبيعة الإنسان هذه ، أن يصل إلى قانون نهائي ولا أن يدرك حقيقة مطلقة . . فما أجدر الإنسان أن يتأدب في جناب الله . وما أجدره أن يلتزم حدود طبيعته وحدود مجاله ، فلا يخبط في التيه بلا دليل ، وهو يتحدث عن الممكن والمستحيل ، وهو يضع لمشيئة الله المطلقة إطارا من تجاربه هو ومن مقرراته هو ومن علمه القليل !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (39)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي الْمِحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ اللّهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ }

اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة : { فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ } على التأنيث بالتاء ، يراد بها : جمع الملائكة ، وكذلك تفعل العرب في جماعة الذكور إذا تقدمت أفعالها أنثت أفعالها ولاسيما الأسماء التي في ألفاظها التأنيث كقولهم : جاءت الطلحات .

وقد قرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بالياء ، بمعنى : فناداه جبريل فذكروه للتأويل ، كما قد ذكرنا آنفا أنهم يؤنثون فعل الذكر للفظ ، فكذلك يذكّرون فعل المؤنث أيضا للفظ . واعتبروا ذلك فيما أرى بقراءة يذكر أنها قراءة عبد الله بن مسعود ، وهو ما :

حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد أن قراءة ابن مسعود : «فناداه جبريل وهو قائم يصلي في المحراب » .

وكذلك تأوّل قوله : { فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ } جَماعة مِنْ أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ } وهو جبريل أو : قالت الملائكة ، وهو جبريل { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } .

فإن قال قائل : وكيف جاز أن يقال على هذا التأويل : { فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ } والملائكة جمع لا واحد ؟ قيل : ذلك جائز في كلام العرب بأن تخبر عن الواحد بمذهب الجمع ، كما يقال في الكلام : خرج فلان على بغال البرد ، وإنما ركب بغلاً واحدا ، وركب السفن ، وإنما ركب سفينة واحدة ، وكما يقال : ممن سمعت هذا الخبر ؟ فيقال : من الناس ، وإنما سمعه من رجل واحد¹ وقد قيل : إن منه قوله : { الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } ، والقائل كان فيما ذكر واحدا ، وقوله : { وَإذَا مَسّ النّاسَ ضُرّ } ، والناس بمعنى واحد ، وذلك جائز عندهم فيما لم يقصد فيه قصد واحد .

وإنما الصواب من القول عندي في قراءة ذلك أنهما قراءتان معروفتان ، أعني التاء والياء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، وذلك أنه لا اختلاف في معنى ذلك باختلاف القرائين ، وهما جميعا فصيحتان عند العرب ، وذلك أن الملائكة إن كان مرادا بها جبريل كما روي عن عبد الله فإن التأنيث في فعلها فصيح في كلام العرب للفظها إن تقدمها الفعل ، وجائز فيه التذكير لمعناها . وإن كان مرادا بها جمع الملائكة فجائز في فعلها التأنيث ، وهو من قبلها للفظها ، وذلك أن العرب إذا قدمت على الكثير من الجماعة فعلها أنثته ، فقالت : قالت النساء ، وجائز التذكير في فعلها بناء على الواحد إذا تقدم فعله ، فيقال : قال الرجال .

وأما الصواب من القول في تأويله ، فأن يقال : إن الله جلّ ثناؤه ، أخبر أن الملائكة نادته ، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الملائكة دون الواحد وجبريل واحد ، فلن يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب ، دون الأقلّ ما وجد إلى ذلك سبيل ، ولم يضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد ، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفيّ من الكلام والمعاني .

وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم ، منهم قتادة والربيع بن أنس وعكرمة ومجاهد وجماعة غيرهم . وقد ذكرنا ما قالوا من ذلك فيما مضى .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ قائمٌ يُصَلّي فِي المِحْرَابِ أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } .

وتأويل قوله { وَهُوَ قائِمٌ } : فنادته الملائكة في حال قيامه مصليا . فقوله : { وَهُوَ قَائِمٌ } خبر عن وقت نداء الملائكة زكريا¹ وقوله : { يُصَلّي } في موضع نصب على الحال من القيام ، وهو رفع بالياء . وأما المحراب : فقد بينا معناه ، وأنه مقدم المسجد .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ } ، فقرأته عامّة القرّاء : { أنّ اللّهَ } بفتح الألف من «أن » بوقوع النداء عليها بمعنى فنادته الملائكة بذلك . وقرأه بعض قرّاء أهل الكوفة : «إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ » بكسر الألف بمعنى : قالت الملائكة : إن الله يبشرك ، لأن النداء قول¹ وذكروا أنها في قراءة عبد الله : «فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب يا زكريا إن الله يبشرك »¹ قالوا : إذا بطل النداء أن يكون عاملاً في قوله : «يا زكريا » ، فباطل أيضا أن يكون عاملاً في «إن » .

والصواب من القراءة في ذلك عندنا : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ } بفتح أن بوقوع النداء عليه ، بمعنى : فنادته الملائكة بذلك ، وليست العلة التي اعتلّ بها القارئون بكسر إن ، من أن عبد الله كان يقرؤها كذلك ، وذلك أن عبد الله إن كان قرأ ذلك كذلك ، فإنما قرأها بزعمهم . وقد اعترض ب«يا زكريا » بين «إن » وبين قوله : «فنادته » ، وإذا اعترض به بينهما ، فإن العرب تعمل حينئذ النداء في «أنّ » ، وتبطله عنها . أما الإبطال ، فإنه بطل عن العمل في المنادى قبله ، فأسلكوا الذي بعده مسلكه في بطول عمله . وأما الإعمال ، فلأن النداء فعل واقع كسائر الأفعال . وأما قراءتنا فليس نداء زكريا ب«يا زكريا » ، معترضا به بين «أن » وبين قوله : «فنادته » ، وإذا لم يكن ذلك بينهما ، فالكلام الفصيح من كلام العرب إذ نصبت بقول : ناديت اسم المنادى ، وأوقعوه عليه أن يوقعوه كذلك على «أنّ » بعده وإن كان جائزا إبطال عمله ، فقوله : «نادته » ، قد وقع على مكنيّ زكريا¹ فكذلك الصواب أن يكون واقعا على «أنّ » وعاملاً فيها ، مع أن ذلك هو القراءة المستفيضة في قراءة أمصار الإسلام ، ولا يعترض بالشاذّ على الجماعة التي تجيء مجيء الحجة .

وما قوله : { يُبَشّرُكَ } فإن القرّاء اختلفت في قراءته ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ } بتشديد الشين وضمّ الياء على وجه تبشير الله زكريا بالولد ، من قول الناس : بشّرت فلانا البشرى بكذا وكذا ، أي أتته بشارات البشرى بذلك .

وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفة وغيرهم : «أنّ اللّهَ يَبْشُرُكَ » بفتح الياء وضمّ الشين وتخفيفها ، بمعنى : أن الله يسرّك بولد يهبه لك ، من قول الشاعر :

بَشَرْتُ عِيالي إذْ رأيْتُ صَحِيفَةً *** أتَتْكَ مِنَ الحَجّاجِ يُتْلَى كِتابُها

وقد قيل : إن «بَشَرت » لغة أهل تهامة من كنانة وغيرهم من قريش ، وأنهم يقولون : بَشَرت فلانا بكذا فأنا أَبْشُرُه بَشْرا ، وهل أنت باشرٌ بكذا ؟ وينشد لهم البيت في ذلك :

وإذَا رأيْتُ الباهِشِينَ إلى العُلا *** غُبْرا أكُفّهُمْ بقاعٍ مُمْحِلِ

فأعِنْهُمُ وَابْشَرْ بِمَا بَشِرُوا بِهِ *** وَإذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فانْزِلِ

فإذا صاروا إلى الأمر ، فالكلام الصحيح من كلامهم بلا ألف ، فيقال : ابْشَرْ فلانا بكذا ، ولا يكادون يقولون : بشّره بكذا ، ولا أبْشِرْه .

وقد رُوي عن حميد بن قيس أنه كان يقرأ : «يُبْشِركَ » بضم الياء وكسر الشين وتخفيفها . وقد :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن معاد الكوفي ، قال : من قرأ «يبشّرهم » مثقلة ، فإنه من البشارة ، ومن قرأ «يَبْشُرُهم » مخففة بنصب الياء ، فإنه من السرور ، يسرّهم .

والقراءة التي هي القراءة عندنا في ذلك ضم الياء وتشديد الشين ، بمعنى التبشير ، لأن ذلك هي اللغة السائرة ، والكلام المستفيض المعروف في الناس ، مع أن جميع قرّاء الأمصار مجمعون في قراءة : { فبم تبشّرون } على التشديد . والصواب في سائر ما في القرآن من نظائره أن يكون مثله في التشديد وضم الياء .

وأما ما رُوي عن معاذ الكوفي من الفرق بين معنى التخفيف والتشديد في ذلك ، فلم نجد أهل العلم بكلام العرب يعرفونه من وجه صحيح ، فلا معنى لما حكي من ذلك عنه ، وقد قال جرير بن عطية :

يا بِشْرُ حُقّ لِبشْرِكَ التّبْشِيرُ *** هَلاّ غَضِبتَ لَنا وأنْتَ أمِيرُ

فقد علم أنه أراد بقوله «التبشير » : الجمال والنضارة والسرور ، فقال «التبشير » ولم يقل «البشر » ، فقد بين ذلك أن معنى التخفيف والتثقيل في ذلك واحد .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } قال : بشرته الملائكة بذلك .

( وأما قوله : { بِيَحْيَى } فإنه اسم أصله يَفْعَل ، من قول القائل : حي فلان فهو يحيا ، وذلك إذا عاش فيحيى «يَفْعَل » من قولهم «حيي » . وقيل : إن الله جلّ ثناؤه سماه بذلك لأنه يتأوّل اسمه أحياه بالإيمان . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } يقول : عبد أحياه الله بالإيمان .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة قوله : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } قال : إنّمَا سمي يحيى ، لأن الله أحياه بالإيمان .

القول في تأويل قوله تعالى : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : إن الله يبشرك يا زكريا بيحيى ابنا لك ، { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ الله } يعني بعيسى ابن مريم . ونصب قوله

«مصدّقا » على القطع من يحيى ، لأن «مصدقا » نعت له وهو نكرة ، و«يحيى » غير نكرة .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، قال : حدثنا النضر بن عربيّ ، عن مجاهد قال : قالت امرأة زكريا لمريم : إني أجد الذي في بطني يتحرّك للذي في بطنك ، قال : فوضعت امرأة زكريا يحيى ، ومريم عيسى . ولذا قال : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال يحيى : مصدّق بعيسى .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن الرقاشي في قول الله : { يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : مصدّقا بعيسى ابن مريم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا قتادة في قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : مصدّقا بعيسى .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } يقول : مصدّق بعيسى ابن مريم ، وعلى سننه ومنهاجه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } يعني عيسى ابن مريم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } يقول : مصدّقا بعيسى ابن مريم ، يقول : على سننه ومنهاجه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : كان أوّل رجل صدّق عيسى وهو كلمة من الله وروح .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } يصدّق بعيسى .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } فإن يحيى أوّل من صدّق بعيسى ، وشهد أنه كلمة من الله ، وكان يحيى ابن خالة عيسى ، وكان أكبر من عيسى .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال عيسى ابن مريم : هو الكلمة من الله اسمه المسيح .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : أخبرني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : كان عيسى ويحيى ابني خالة ، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك ، فذلك تصديقه بعيسى ، سجوده في بطن أمه ، وهو أوّل من صدّق بعيسى وكلمة عيسى ، ويحيى أكبر من عيسى .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : الكلمة التي صدّق بها عيسى .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لقيَتْ أمّ يحيى أمّ عيسى ، وهذه حامل بيحيى وهذه حامل بعيسى ، فقالت امرأة زكريا : يا مريم استشعرت أني حبلى ، قالت مريم : استشعرت أني أيضا حبلى . قالت امرأة زكريا : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك . فذلك قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } .

حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قول الله : { إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : مصدّقا بعيسى ابن مريم .

وقد زعم بعض أهل العلم بلغات العرب من أهل البصرة أن معنى قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } بكتاب من الله ، من قول العرب : أنشدني فلان كلمة كذا ، يراد به قصيدة كذا . جهلاً منه بتأويل الكلمة ، واجتراءً على ترجمة القرآن برأيه .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَسَيّدا } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَسَيّدا } : وشريفا في العلم والعبادة ، ونصب «السيد » عطفا على قوله «مصدّقا » .

وتأويل الكلام : إن الله يبشرك بيحيى مصدّقا بهذا وسيدا ، والسيد : الفَيْعِل ، من قول القائل : ساد يسود . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَسَيّدا } : إي والله ، لسيد في العبادة والحلم والعلم والورع .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا قتادة في قوله : { وَسَيّدا } قال : السيد لا أعلمه إلا قال في العلم والعبادة .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال : السيد : الحليم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : { وَسَيّدا } قال : الحليم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : { وَسَيّدا } قال : السيد : التقيّ .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ { وَسَيّدا } قال : السيد : الكريم على الله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، قال : زعم الرقاشي أن السيد : الكريم على الله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قول الله عزّ وجلّ : { وَسَيّدا } قال : السيد : الحليم التقيّ .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَسَيّدا } قال : يقول : تقيا حليما .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان في قوله : { وَسَيدا } قال : حليما تقيا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد في قوله : { وَسَيّدا } قال : السيد : الشريف .

حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن عبد الملك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في قول الله عزّ وجلّ : { وَسَيّدا } قال : السيد : الفقيه العالم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَسَيّدا } قال : يقول : حليما تقيا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة : { وَسَيّدا } قال : السيد الذي لا يغلبه الغضب .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَحَصُورا وَنَبِيّا مِنَ الصّالِحِينَ } .

يعني بذلك : ممتنعا من جماع النساء من قول القائل : حصرت من كذا أحصر : إذا امتنع منه¹ ومنه قولهم : حصر فلان في قراءته : إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها ، وكذلك حصر العدوّ : حبسهم الناس ومنعهم إياهم التصرّف ، ولذلك قيل للذي لا يُخرِج مع ندمائه شيئا : حصور ، كما قال الأخطل :

وَشارِبٍ مُرْبِحٍ بالكأْسِ نادَمَنِي *** لا بالحَصُورِ ولا فِيها بسَوّارِ

ويروى «بسّار » . ويقال أيضا للذي لا يخرج سرّه ويكتله حصور ، لأنه يمنع سرّه أن يظهر ، كما قال جرير :

وَلَقَدْ تَسَقّطَنِي الوُشاةُ فصادَفُوا *** حَصِرا بِسِرّكِ يا أُمَيْمَ ضَنِينا

وأصل جميع ذلك واحد ، وهو المنع والحبس .

وبمثل الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن خلف ، قال : حدثنا حماد بن شعيب ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن عبد الله في قوله : { وَسَيّدا وَحَصُورا } قال : الحصور : الذي لا يأتي النساء .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أنه قال ثني ابن العاص ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «كُلّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ ، إلاّ ما كانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيّا » ، قال : ثم دلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الأرض ، فأخذ عويدا صغيرا ، ثم قال : «وَذَلكَ أنّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ما للرّجالِ إلاّ مِثْلَ هَذَا العودِ ، وبذلك سماه الله سيدا وحصورا » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا أنس بن عياض ، عن يحيى بن سعيد ، قال : سمعت سعيد بن المسيب ، يقول : ليس أحد إلا يلقى الله يوم القيامة ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا ، كان حصورا ، معه مثل الهدبة .

حدثنا أحمد بن الوليد القرشي ، قال : حدثنا عمر بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال ابن العاص إما عبد الله ، وإما أبوه : ما أحد يلقى الله إلا وهو ذو ذنب ، إلا يحيى بن زكريا . قال : وقال سعيد بن المسيب : { وَسَيّدا وَحَصُورا } قال : الحصور : الذي لا يغشى النساء ، ولم يكن ما معه إلا مثل هدبة الثوب .

حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن عبد الملك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في قوله : { وَحَصُورا } قال : الحصور¹ الذي لا يشتهي النساء ، ثم ضرب بيده إلا الأرض فأخذه نواة فقال : ما كان معه إلا مثل هذه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : الحصور : الذي لا يأتي النساء .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد ، مثله .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد ، مثله .

حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، قال : حدثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد : { وَحَصُورا } قال : الذي لا يأتي النساء .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الحصور : لا يقرب النساء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، قال : زعم الرقاشي : الحصور : الذي لا يقرب النساء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : الحصور : الذي لا يولد له ، وليس له ماء .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله :

{ وَحَصُورا } قال : هو الذي لا ماء له .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا سويد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَحَصُورا } كنا نحدّث أن الحصور الذي لا يقرب النساء .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا قتادة في قوله : { وَسَيّدا وَحَصُورا } قال : الحصور : الذي لا يأتي النساء .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : الحصور : الذي لا ينزل الماء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد : { وَحَصُورا } قال : الحصور : الذي لا يأتي النساء .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَحَصُورا } قال : الحصور : الذي لا يريد النساء .

حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : { وَحَصُورا } قال : لا يقرب النساء .

وأما قوله : { وَنَبِيّا مِنَ الصالِحِينَ } فإنه يعني : رسولاً لربه إلى قومه ، ينبئهم عنه بأمره ونهيه ، وحلاله وحرامه ، ويبلغهم عنه ما أرسله به إليهم . ويعني بقوله : { مِنَ الصّالِحِينَ } من أنبيائه الصالحين . وقد دللنا فيما مضى على معنى النبوّة وما أصلها بشواهد ذلك ، والأدلة الدالة على الصحيح من القول فيه بما أغنى عن إعادته .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (39)

{ فنادته الملائكة } أي من جنسهم كقولهم زيد يركب الخيل . فإن المنادي كان جبريل وحده . وقرأ حمزة والكسائي " فناداه " بالإمالة والتذكير . { وهو قائم يصلي في المحراب } أي قائما في الصلاة ، و{ يصلي } صفة قائم أو خبر أو حال آخر أو حال من الضمير في قائم . { أن الله يبشرك بيحيى } أي بأن الله . وقرأ نافع وابن عامر بالكسر على إرادة القول ، أو لأن النداء نوع منه . وقرأ حمزة والكسائي ( يبشرك ) ، و{ يحيى } اسم أعجمي وإن جعل عربيا فمنع صرفه للتعريف ووزن الفعل . { مصدقا بكلمة من الله } أي بعيسى عليه السلام ، سمي بذلك لأنه وجد بأمره تعالى دون أب فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر ، أو بكتاب الله ، سمي كلمة كما قيل كلمة الحويدرة لقصيدته . { وسيدا } يسود قومه ويفوقهم وكان فائقا للناس كلهم في أنه ما هم بمعصية قط . { وحصورا } مبالغا في حبس النفس عن الشهوات والملاهي . روي أنه مر في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال ما للعب خلقت . { ونبيا من الصالحين } ناشئا منهم أو كائنا من عداد من لم يأت كبيرة ولا صغيرة .