معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (19)

قوله تعالى : { أو كصيب } . أي كأصحاب صيب ، وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى للمنافقين بمعنى إن شئت مثلهم بالمستوقد وإن شئت بأهل الصيب وقيل " أو " بمعنى الواو ، يريد وكصيب كقوله تعالى : ( أو يزيدون ) بمعنى ويزيدون والصيب المطر وكل ما نزل من الأعلى إلى الأسفل فهو صيب فيعل من صاب يصوب أي نزل .

قوله تعالى : { من السماء } . أي من السحاب وقيل هي السماء بعينها ، والسماء كل ما علاك فأظلك ، وهي من أسماء الأجناس يكون واحداً وجمعاً .

قوله تعالى : { فيه } . أي في الصيب ، وقيل في السماء أي في السحاب ولذلك ذكره . وقيل السماء يذكر ويؤنث قال الله تعالى : ( السماء منفطر به ) وقال ( إذا السماء انفطرت ) .

قوله تعالى : { ظلمات } . جمع ظلمة .

قوله تعالى : { ورعد } . هو الصوت الذي يسمع من السحاب .

قوله تعالى : { وبرق } وهو النار التي تخرج منه . قال علي وابن عباس وأكثر المفسرين : الرعد اسم ملك يسوق السحاب ، والبرق لمعان سوط من نور يزجر به الملك السحاب . وقيل الصوت زجر السحاب وقيل تسبيح الملك . وقيل الرعد نطق الملك والبرق ضحكه . وقال مجاهد الرعد اسم الملك ويقال لصوته أيضاً رعد والبرق اسم ملك يسوق السحاب . وقال شهر بن حوشب : الرعد ملك يزجر السحاب فإذا تبددت ضمها فإذا اشتد غضبه طارت من فيه النار فهي الصواعق . وقيل الرعد صوت انحراف الريح بين السحاب ، والأول أصح .

قوله تعالى : { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق } . جمع صاعقة وهي الصيحة التي يموت من يسمعها أو يغشى عليه . ويقال لكل عذاب مهلك : صاعقة ، وقيل الصاعقة قطعة عذاب ينزلها الله تعالى على من يشاء . روى عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال : اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك .

قوله تعالى : { حذر الموت } . أي مخافة الهلاك .

قوله تعالى : { والله محيط بالكافرين } . أي عالم بهم . وقيل جامعهم . قال مجاهد : يجمعهم فيعذبهم . وقيل : مهلكهم ، دليله قوله تعالى : ( إلا أن يحاط بكم ) أي تهلكوا جميعاً . ويميل أبو عمرو والكسائي ( الكافرين ) في محل النصب أو الخفض ولا يميلان : ( أول كافر به ) .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (19)

ثم ساق-سبحانه-المثل الثاني فقال : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } .

" أو " للتسوية بين الشيئين وهي مفيدة أن التمثيل بأيهما أو بمجموعهما يؤدى إلى المقصود ، فهي مانعة خلو مجوزة للجمع بينهما .

و ( الصيب ) - كسيد - المطر ، من الصوب وهو النزول . يقال : صاب صوباً ، إذا نزل أو انحدر ، سمى به المطر لنزوله ، وفي الجملة الكريمة إيجاز بحذف ما دل عليه المقام دلالة واضحة .

والتقدير : أو كمثل ذوي صيب . والمعنى أن قصة هؤلاء المنافقين مشبهة بقصة الذي استوقد ناراً ، أو بقصة ذوي صيب .

والسماء : كل ما علاك من سقف ونحوه ، والمراد بها السحاب .

والرعد : الصوت الذي يسمع بسبب اصطدام سحابتين محملتين بشحنتين كهربيتين أحداهما موجبة والأخرى سالبة .

والبرق : هو الضوء الذي يحدث بسبب الاصطدام ذاته .

وإيراد هذه الألفاز بصفة التنكير للتهويل ، ويكون المعنى : أو أن مثل هؤلاء المنافقين كمثل قوم نزل بهم المطر من السماء تصحبه ظلمات كأنها سواد الليل ، ورعد بصم الآذان ، وبرق يخطف الأبصار ؛ وصواعق تحرق ما تصيبه .

ثم قال - تعالى - : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت } .

ِالصواعق : جمع صاعقة من الصعق وهو شدة الصوت الذي يصحبه - غالباً - قطعة من نار لا تأتي على شيء إلا أهلكته .

( ومن ) في قوله - تعالى - : { مِّنَ الصواعق } للعليل . وإنما كانت الصواعق داعية إلى سدهم آذانهم بأصابعهم ، من جهة أنها قد تفضى بصوتها لهائل إلى الموت ، وجاء هذا مصرحا به في قوله - تعالى - { حَذَرَ الموت } يدل على أنهم لم يموتوا من تلك المفزعات وهذه المروعات . إمدادا في عذابهم . ومطاولة في نكالهم .

وقوله - تعالى - : { والله مُحِيطٌ بالكافرين } جملة معترضة في أثناء ضرب المثل بذوي الصيب . وإحاطته - سبحانه - بالكافرين على معنى أنهم لا مهرب لهم منه ، فهو محيط بهم إحاطة تامة وهو قادر على النكال بهم متى شاء وكيف شاء . ولم يقل محيط بهم مع تقدم مرجع الضمير وهو أصحاب الصيب ، إيذاناً بأنهم إنما استحقوا ذلك العذاب بكفرهم .

/خ20

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (19)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيَ آذَانِهِم مّنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ }

قال أبو جعفر : والصيّب الفيعل ، من قولك : صاب المطر يصوب صَوْبا : إذا انحدر ونزل ، كما قال الشاعر :

فَلَسْتَ لانْسِيَ وَلَكِنْ لملأك ٍتَنَزّلَ مِنْ جَوّ السمّاءِ يَصُوبُ

وكما قال علقمة بن عبدة :

كأنّهُمُ صَابَتْ عَلَيْهمْ سَحَابَةٌ *** صَوَاعِقُها لِطَيْرِهِنّ دَبِيبُ

فَلا تَعْدِلي بَيْنِي وَبَيْنَ معمر ِسُقِيتِ رَوَايا المُزْنِ حِينَ تَصُوبُ

يعني : حين تنحدر . وهو في الأصل : صيوب ، ولكن الواو لما سبقتها ياء ساكنة صيرتا جميعا ياء مشددة ، كما قيل : سيد من ساد يسود ، وجيد من جاد يجود . وكذلك تفعل العرب بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة تصيرهما جميعا ياء مشددة . وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التأويل .

حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : أو كَصَيّبٍ مِنَ السّمَاءِ قال : القطر .

وحدثني عباس بن محمد ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال لي عطاء : الصيب : المطر .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ عن ابن عباس ، قال : الصيب : المطر .

وحدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : الصيب : المطر .

وحدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي سعد ، قال : حدثني عمي الحسين ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس مثله .

وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : أو كصيب قال : المطر .

وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن قتادة مثله .

وحدثني محمد بن عمرو الباهلي ، وعمرو بن علي ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الصيب : المطر .

وحدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الصيب : المطر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : الصيب : المطر .

وحدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : الصيب : المطر .

وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السمّاءِ قال : أو كغيث من السماء .

وحدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : قال سفيان : الصيب : الذي فيه المطر .

حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا معاوية ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء في قوله : أو كصيب من السماء قال : المطر .

قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : مثل استضاءة المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام مع استسرارهم الكفر ، مثل إضاءة موقد النار بضوء ناره على ما وصف جل ثناؤه من صفته ، أو كمثل مطر مظلم وَدْقُه تحدّر من السماء تحمله مزنة ظلماء في ليلة مظلمة ، وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه .

فإن قال لنا قائل : أخبرنا عن هذين المثلين ، أهما مثلان للمنافقين أو أحدهما ؟ فإن يكونا مثلين للمنافقين فكيف قيل : أوْ كَصَيّبٍ ، و«أو » تأتي بمعنى الشك في الكلام ، ولم يقل : وكصيب ، بالواو التي تلحق المثل الثاني بالمثل الأول ؟ أو يكون مثل القوم أحدهما ، فما وجه ذكر الاَخر ب«أو » ، وقد علمت أن «أو » إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشك من المخبر فيما أخبر عنه ، كقول القائل : لقيني أخوك أو أبوك ، وإنما لقيه أحدهما ، ولكنه جهل عين الذي لقيه منهما ، مع علمه أن أحدهما قد لقيه وغير جائز في الله جل ثناؤه أن يضاف إليه الشك في شيء أو عزوب علم شيء عنه فيما أخبر أو ترك الخبر عنه . قيل له : إن الأمر في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه ، و«أو » وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشك ، فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدلّ عليه الواو إما بسابق من الكلام قبلها ، وإما بما يأتي بعدها كقول توبة بن الحُمَيّر :

وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بأنَى فاجِر ٌلِنَفْسِي تُقاها أوْ عَلَيْهَا فُجُورُها

ومعلوم أن ذلك من توبة على غير وجه الشك فيما قال . ولكن لما كانت «أو » في هذا الموضع دالة على مثل الذي كانت تدل عليه الواو لو كانت مكانها ، وَضَعَها موضعها . وكذلك قول جرير :

جاءَ الخِلاَفَةَ أوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرا *** كما أتى رَبّهُ مُوسَى على قَدَرِ

وكما قال الآخر

فَلَوْ كانَ البُكاءُ يَرُدّ شَيْئا *** بَكَيْتُ على جُبَيرٍ أوْ عَناقِ

عَلى المَرأيْنِ إذْ مَضَيا جَمِيعا *** لِشأْنِهِما بِحُزْنٍ وَاشْتِياقِ

فقد دل بقوله على المرأين إذ مضيا جميعا أن بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يرد أن يقصد به أحدهما دون الآخر بل أراد أن يبكيهما جميعا ، فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه : أوْ كَصَيّبٍ منَ السمّاءِ لما كان معلوما أن «أو » دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه الواو ، ولو كانت مكانها كان سواء نطق فيه ب«أو » أو بالواو . وكذلك وجه حذف المثل من قوله : أوْ كَصَيّبٍ لما كان قوله : كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا دالاّ على أن معناه : كمثل صيب ، حذف المثل واكتفى بدلالة ما مضى من الكلام في قوله : كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا على أن معناه : أو كمثل صيب ، من إعادة ذكر المثل طلب الإيجاز والاختصار .

القول في تأويل قوله تعالى : { فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بالكافِرينَ يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ كلّما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } .

قال أبو جعفر : فأما الظلمات فجمع ، واحدها ظلمة وأما الرعد فإن أهل العلم اختلفوا فيه فقال بعضهم : هو ملك يزجر السحاب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : الرعد ملك يزجر السحاب بصوته .

وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة عن الحكم عن مجاهد مثله .

وحدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن ليث ، عن مجاهد مثله .

وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم قال : أنبأنا إسماعيل بن سالم عن أبي صالح ، قال : الرعد ملك من الملائكة يسبح .

وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا محمد بن يعلى ، عن أبي الخطاب البصري ، عن شهر بن حوشب قال : الرعد : ملك موكل بالسحاب ، يسوقه كما يسوق الحادي الإبل ، يسبح كلما خالفت سحابة سحابة صاح بها ، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه ، فهي الصواعق التي رأيتم .

وحدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الرعد : ملك من الملائكة اسمه الرعد ، وهو الذي تسمعون صوته .

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبد الملك بن حسين عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس ، قال : الرعد : ملك يزجر السحاب بالتسبيح والتكبير .

وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عليّ بن عاصم ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : الرعد : اسم ملك ، وصوته هذا تسبيحه ، فإذا اشتدّ زجره السحاب اضطرب السحاب واحتك فتخرج الصواعق من بينه .

حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن موسى البزار ، عن شهر بن حوشب عن ابن عباس ، قال : الرعد : ملك يسوق السحاب بالتسبيح ، كما يسوق الحادي الإبل بحدائه .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يحيى بن عباد وشبابة قالا : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : الرعد : ملك يزجر السحاب .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا عتاب بن زياد ، عن عكرمة ، قال : الرعد : ملك في السحاب يجمع السحاب كما يجمع الراعي الإبل .

وحدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الرعد : خَلْقٌ من خَلْقِ الله جل وعز سامع مطيع لله جل وعز .

حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : إن الرعد ملك يؤمر بازجاء السحاب فيؤلف بينه ، فذلك الصوت تسبيحه .

وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاح ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : الرعد : ملك .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن المغيرة بن سالم ، عن أبيه أو غيره ، أن علي بن أبي طالب قال : الرعد : ملك .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم مولى ابن عباس ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجَلَد يسأله عن الرعد ؟ فقال : الرعد : ملك .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا عمر بن الوليد السني ، عن عكرمة ، قال : الرعد : ملك يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل .

حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، قال : كان ابن عباس إذا سمع الرعد ، قال : سبحان الذي سبحت له ، قال : وكان يقول : إن الرعد : ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه .

وقال آخرون : إن الرعد : ريح تختنق تحت السحاب ، فتصاعد فيكون منه ذلك الصوت ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا بشر بن إسماعيل ، عن أبي كثير ، قال : كنت عند أبي الخلد ، إذ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه ، فكتب إليه : كتبت تسألني عن الرعد ، فالرعد : الريح .

حدثني إبراهيم بن عبد الله ، قال : حدثنا عمران بن ميسرة ، قال : حدثنا ابن إدريس عن الحسن بن الفرات ، عن أبيه ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الخلد يسأله عن الرعد ، فقال : الرعد : ريح .

قال أبو جعفر : فإن كان الرعد ما ذكره ابن عباس ومجاهد ، فمعنى الآية : أو كصيب من السماء فيه ظلمات وصوت رعد لأن الرعد إنْ كان ملكا يسوق السحاب ، فغير كائن في الصيب لأن الصّيب إنما هو ما تحدّر من صوب السحاب والرعد : إنما هو في جوّ السماء يسوق السحاب ، على أنه لو كان فيه يمر لم يكن له صوت مسموع ، فلم يكن هنالك رعب يرعب به أحد لأنه قد قيل : إن مع كل قطرة من قطر المطر ملكا ، فلا يعدو الملك الذي اسمه الرعد لو كان مع الصيب إذا لم يكن مسموعا صوته أن يكون كبعض تلك الملائكة التي تنزل مع القطر إلى الأرض في أن لا رعب على أحد بكونه فيه . فقد عُلم إذْ كان الأمر على ما وصفنا من قول ابن عباس إن معنى الآية : أو كمثل غيث تحدر من السماء فيه ظلمات وصوت رعد إن كان الرعد هو ما قاله ابن عباس ، وأنه استغنى بدلالة ذكر الرعد باسمه على المراد في الكلام من ذكر صوته . وإن كان الرعد ما قاله أبو الخلد فلا شيء في قوله : «فيه ظلمات ورعد » متروك ، لأن معنى الكلام حينئذٍ : فيه ظلمات ورعد الذي هو وما وصفنا صفته .

وأما البرق ، فإن أهل العلم اختلفوا فيه فقال بعضهم بما :

حدثنا مطر بن محمد الضبي ، قال : حدثنا أبو عاصم ح وحدثني محمد بن بشار قال : حدثني عبد الرحمن بن مهدي وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قالوا جميعا : حدثنا سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن سعيد بن أشوع ، عن ربيعة بن الأبيض ، عن عليّ قال : البرق : مخاريق الملائكة .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا عبد الملك بن الحسين ، عن السدي عن أبي مالك ، عن ابن عباس : البرق مخاريق بأيدي الملائكة يزجرون بها السحاب .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن المغيرة بن سالم ، عن أبيه أو غيره أن عليّ بن أبي طالب قال : الرعد : الملك ، والبرق : ضربه السحاب بمخراق من حديد .

وقال آخرون : هو سوط من نور يزجر به الملك السحاب .

حدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس بذلك .

وقال آخرون : هو ماء . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا بشر بن إسماعيل ، عن أبي كثير ، قال : كنت عند أبي الخلد إذ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه ، فكتب إليه : تسألني عن البرق ، فالبرق : الماء .

حدثنا إبراهيم بن عبد الله ، قال : حدثنا عمران بن ميسرة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن الفرات ، عن أبيه ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الخلد يسأله عن البرق ، فقال : البرق : ماء .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن رجل من أهل البصرة من قرائهم ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الخلد رجل من أهل هجر يسأله عن البرق ، فكتب إليه : كتبت إليّ تسألني عن البرق : وإنه من الماء .

وقال آخرون : هو مَصْعُ مَلَكٍ .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، قال : البرق : مَصْع مَلَك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن محمد بن مسلم الطائفي ، قال : بلغني أن البرق ملك له أربعة أوجه : وجه إنسان ، ووجه ثور ، ووجه نسر ، ووجه أسد ، فإذا مصع بأجنحته فذلك البرق .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي ، قال : في كتاب الله الملائكة حملة العرش ، لكل ملك منهم وجه إنسان ، وثور ، وأسد ، فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق . وقال أمية بن أبي الصلت :

رَجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ *** والنّسْرُ للاخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصِدُ

حدثنا الحسين بن محمد ، قال : حدثنا عليّ بن عاصم ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : البرق : ملك .

وقد حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : الصواعق ملك يضرب السحاب بالمخاريق يصيب منه من يشاء .

قال أبو جعفر : وقد يحتمل أن يكون ما قاله عليّ بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد بمعنى واحد وذلك أن تكون المخاريق التي ذكر عليّ رضي الله عنه أنها هي البرق هي السياط التي هي من نور التي يزجي بها الملك السحاب ، كما قال ابن عباس . ويكون إزجاء الملك السحاب : مَصْعَهُ إياه بها ، وذاك أن المِصَاعَ عند العرب أصله المجالدة بالسيوف ، ثم تستعمله في كل شيء جُولد به في حرب وغير حرب ، كما قال أعشى بني ثعلبة وهو يصف جواري يلعبن بحليهن ويجالدن به .

إذَا هُنّ نازَلْنَ أقْرَانَهُن *** وكانَ المِصَاعُ بِمَا في الجُوَنْ

يقال منه : ماصعه مِصَاعا . وكأن مجاهدا إنما قال : «مصع ملك » ، إذ كان السحاب لا يماصع الملك ، وإنما الرعد هو المماصع له ، فجعله مصدرا من مصعه يَمْصَعُه مصعا ، وقد ذكرنا ما في معنى الصاعقة ما قال شهر بن حوشب فيما مضى .

وأما تأويل الآية ، فإن أهل التأويل مختلفون فيه . فرُوي عن ابن عباس في ذلك أقوال أحدها ما :

حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السمّاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ أي هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل على الذي هم عليه من الخلاف ، والتخوّف منكم على مثل ما وصف من الذي هو في ظلمة الصيب ، فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حذر الموت يَكادَ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ أي لشدة ضوء الحق ، كُلّما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإذَا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا أي يعرفون الحق ويتكلمون به ، فهم من قولهم به على استقامة ، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين . والاَخر ما :

حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السمّاءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ إلى : إِنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ : أما الصيب والمطر . كانا رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد وصواعق وبرق ، فجعلا كلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما من الفَرَق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما ، وإذ لمع البرق مشيا في ضوئه ، وإذا لم يلمع لم يبصرا وقاما مكانهما لا يمشيان ، فجعلا يقولان : ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يده فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما . فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلاً للمنافقين الذين بالمدينة . وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، جعلوا أصابعهم في آذانهم فَرَقا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكروا بشيء فيقتلوا ، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما ، وإذا أضاء لهم مشوا فيه . فإذا كثرت أموالهم وولد لهم الغلمان وأصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيه ، وقالوا : إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دين صدق فاستقاموا عليه ، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا . فكانوا إذا هلكت أموالهم ، وولد لهم الجواري ، وأصابهم البلاء قالوا : هذا من أجل دين محمد ، فارتدّوا كفارا كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما . والثالث ما :

حدثني به محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السمّاءِ كمطر فيه ظلمات ورعد وبرق إلى آخر الآية ، هو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل ، مراءاةً للناس ، فإذا خلا وحده عمل بغيره . فهو في ظلمة ما أقام على ذلك . وأما الظلمات فالضلالة ، وأما البرق فالإيمان ، وهم أهل الكتاب . وإذا أظلم عليهم ، فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه . والرابع ما :

حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أوْ كَصَيّبٍ منَ السمّاءِ وهو المطر ، ضرب مثله في القرآن يقول : «فيه ظلمات » ، يقول : ابتلاء . «ورعد » يقول : فيه تخويف ، وبرق يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ يقول : يكاد محكم القرآن يدلّ على عورات المنافقين ، كُلّما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ يقول : كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزّا اطمأنوا ، وإن أصابوا الإسلام نكبة ، قالوا : ارجعوا إلى الكفر . يقول : وَإذَا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا كقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ على حَرْفٍ فإنْ أصَابَهُ خَيْرٌ اطْمأنّ بِهِ وَإِنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ إلى آخر الآية .

ثم اختلف سائر أهل التأويل بعد ذلك في نظير ما رُوي عن ابن عباس من الاختلاف .

فحدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : إضاءة البرق وإظلامه على نحو ذلك المثل .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .

وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زُريع ، عن سعيد ، عن قتادة في قول الله : فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ إلى قوله : وَإذَا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا ، فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاء أو طمأنينة أو سلوة من عيش ، قال : أنا معكم وأنا منكم وإذا أصابته شدة حقحق والله عندها فانقُطع به فلم يصبر على بلائها ، ولم يحتسب أجرها ، ولم يَرْجُ عاقبتها .

وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يقول : أخبر عن قوم لا يسمعون شيئا إلا ظنوا أنهم هالكون فيه حذرا من الموت ، والله محيط بالكافرين . ثم ضرب لهم مثلاً آخر فقال : يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ كُلّما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ يقول : هذا المنافق ، إذا كثر ماله وكثرت ماشيته وأصابته عافية قال : لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلاّ خير ، وَإِذَا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا يقول : إذا ذهبت أموالهم وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء قاموا متحيرين .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ قال : مثلهم كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة ولها مطر ورعد وبرق على جادة ، فلما أبرقت أبصروا الجادّة فمضوا فيها ، وإذا ذهب البرق تحيروا . وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له ، فإذا شك تحير ووقع في الظلمة ، فكذلك قوله : كُلّما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوا فِيهِ وَإذَا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ثم قال : في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمَعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ قال أبو جعفر :

وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو نُميلة ، عن عبيد بن سليمان الباهلي ، عن الضحاك بن مزاحم : فِيهِ ظُلُماتٌ قال : أما الظلمات فالضلالة ، والبرق : الإيمان .

وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله : فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ فقرأ حتى بلغ : إِنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِير قال : هذا أيضا مثل ضربه الله للمنافقين ، كانوا قد استناروا بالإسلام كما استنار هذا بنور هذا البرق .

وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : ليس شيءٌ في الأرض سمعه المنافق إلا ظنّ أنه يراد به وأنه الموت كراهية له ، والمنافق أكره خلق الله للموت ، كما إذا كانوا بالبَراز في المطر فرّوا من الصواعق .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء في قوله : أوْ كَصَيبٍ مِنَ السمّاءِ فِيهِ ظُلُمات وَرَعْد وَبَرْق قال : مثل ضُرِبَ للكفار .

وهذه الأقوال التي ذكرنا عمن رويناها عنه ، فإنها وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها متقاربات المعاني لأنها جميعا تنبىء عن أن الله ضرب الصيب لظاهر إيمان المنافق مثلاً ، ومثّل ما فيه من ظلمات بضلالته ، وما فيه من ضياء برق بنور إيمانه ، واتقاءه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه بضعف جنانه ونَخْبِ فؤاده من حلول عقوبة الله بساحته ، ومشيه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه ، وقيامه في الظلام بحيرته في ضلالته وارتكاسه في عمهه .

فتأويل الآية إذا إذا كان الأمر على ما وصفنا : أَوَ مَثَلُ ما استضاء به المنافقون من قيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم : آمنا بالله وباليوم الاَخر وبمحمد وما جاء به ، حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكام المؤمنين ، وهم مع إظهارهم بألسنتهم ما يظهرون بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من عند الله وباليوم الاَخر ، مكذّبون ، ولخلاف ما يظهرون بالألسن في قلوبهم معتقدون ، على عَمًى منهم وجهالة بما هم عليه من الضلالة لا يدرون أيّ الأمرين اللذين قد شرعا لهم فيه الهداية : في الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدا صلى الله عليه وسلم بما أرسله به إليهم ، أم في الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم ؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وَجِلُون ، وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا . كمثل غيث سرى ليلاً في مزنة ظلماء وليلة مظلمة يحدوها رعد ويستطير في حافاتها برق شديد لمعانه كثير خَطَرانه ، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ، ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه وينهبط منها نارات صواعق تكاد تدع النفوس من شدة أهوالها زواهق . فالصيب مثلٌ لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق ، والظلمات التي هي فيه لظلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب .

وأما الرعد والصواعق فلما هم عليه من الوجل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في آي كتابه ، إما في العاجل وإما في الاَجل ، أي يحل بهم مع شكهم في ذلك : هل هو كائن ، أم غير كائن ، وهل له حقيقة أم ذلك كذب وباطل ؟ مَثَلٌ . فهم من وجلهم أن يكون ذلك حقا يتقونه بالإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم مخافة على أنفسهم من الهلاك ونزول النقمات . وذلك تأويل قوله جل ثناؤه : يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ يعني بذلك يتقون وعيد الله الذي أنزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار ، كما يتقي الخائف أصوات الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها حذرا على نفسه منها .

وقد ذكرنا الخبر الذي رُوي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان : إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم في آذانهم فَرَقا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء ، أو يُذكروا بشيء فيقتلوا . فإن كان ذلك صحيحا ، ولست أعلمه صحيحا ، إذ كنت بإسناده مرتابا فإن القول الذي روي عنهما هو القول . وإن يكن غير صحيح ، فأولى بتأويل الآية ما قلنا لأن الله إنما قص علينا من خبرهم في أول مبتدأ قصصهم أنهم يخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم آمنا بالله وباليوم الاَخر ، مع شك قلوبهم ومرض أفئدتهم في حقيقة ما زعموا أنهم به مؤمنون مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم ، وبذلك وصفهم في جميع آي القرآن التي ذكر فيها صفتهم . فكذلك ذلك في هذه الآية .

وإنما جعل الله إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلاً لاتقائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يتقونهم به كما يتقي سامع صوت الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه . وذلك من المَثَلِ نظير تمثيل الله جل ثناؤه ما أنزل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق ، وكذلك قوله : حَذَرَ المَوْت جعله جل ثناؤه مثلاً لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلك الذي توعده بساحتهم ، كما يجعل سامع أصوات الصواعق أصابعه في أذنيه حذر العطب والموت على نفسه أن تزهق من شدتها . وإنما نصب قوله : حذر الموت على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك : زرتَكَ تكرمَةَ لك ، تريد بذلك : من أجل تكرمتك ، وكما قال جل ثناؤه : وَيَدْعُونَنَا رَغَبا وَرَهَبا على التفسير للفعل . وقد رُوي عن قتادة أنه كان يتأوّل قوله : حَذَرَ المَوْت : حذرا من الموت .

حدثنا بذلك الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر عنه .

وذلك مذهب من التأويل ضعيف ، لأن القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حذرا من الموت فيكون معناه ما قال إنه مراد به حذرا من الموت ، وإنما جعلوها من حذار الموت في آذانهم .

وكان قتادة وابن جريج يتأوّلان قوله : يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ في آذَانهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ أن ذلك من الله جل ثناؤه صفةٌ للمنافقين بالهلع . وضعف القلوب ، وكراهة الموت ، ويتأوّلان في ذلك قوله : يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ . وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالا . وذلك أنه قد كان فيهم من لا تنكر شجاعته ولا تدفع بسالته كقزمان الذي لم يقم مقامه أحد من المؤمنين باحُد أو دونه . وإنما كانت كراهتهم شُهود المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركهم معاونته على أعدائه لأنهم لم يكونوا في أديانهم مستبصرين ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقين ، فكانوا للحضور معه مشاهده كارهين ، إلا بالتخذيل عنه . ولكن ذلك وصف من الله جل ثنائهم لهم بالإشفاق من حلول عقوبة الله بهم على نفاقهم ، إما عاجلاً ، وإما آجلاً .

ثم أخبر جل ثناؤه أن المنافقين الذين نعتهم النعت الذي ذكر وضرب لهم الأمثال التي وصف وإن اتقوا عقابه وأشفقوا عذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حذار حلول الوعيد الذي توعدهم به في آي كتابه ، غير منجيهم ذلك من نزوله بعَقْوَتهم وحلوله بساحتهم ، إما عاجلاً في الدنيا ، وإما آجلاً في الاَخرة ، للذي في قلوبهم من مرضها والشك في اعتقادها ، فقال : وَاللّهُ مُحِيطٌ بالكافِرِينَ بمعنى جامعهم فمحلّ بهم عقوبته .

وكان مجاهد يتأوّل ذلك كما :

حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى بن ميمون ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَاللّهُ مُحِيطٌ بالكافِرِينَ قال : جامعهم في جهنم .

وأما ابن عباس فروي عنه في ذلك ما :

حدثني به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَاللّهُ مُحِيطٌ بالكافِرِينَ يقول : الله منزل ذلك بهم من النقمة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : وَاللّهُ مُحِيطٌ بالكافِرِينَ قال : جامعهم .

ثم عاد جل ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم ، والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم ، وإتمام المثل الذي ابتدأ ضربه لهم ولشكهم ومرض قلوبهم ، فقال : يَكَادُ البَرْقُ يعني بالبرق : الإقرار الذي أظهروه بألسنتهم بالله وبرسوله وما جاء به من عند ربهم ، فجعل البرق له مثلاً على ما قدمنا صفته . يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ يعني : يذهب بها ويستلبها ويلتمعها من شدة ضيائه ونور شعاعه . كما :

حدثت عن المنجاب بن الحرث ، قال : حدثنا بشر بن عمار ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : يَكَادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ قال : يلتمع أبصارَهم ولمّا يفعل .

قال أبو جعفر : والخطف : السلب ، ومنه الخبر الذي رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن الخطفة » يعني بها النّهْبَة ومنه قيل للخُطاف الذي يخرج به الدلو من البئر خُطّاف لاختطافه واستلابه ما علق به . ومنه قول نابغة بني ذبيان :

خطَاطِيفُ حُجْنٌ فِي حبالٍ مَتِينَةٍ *** تَمُدّ بِها أيْدٍ إلَيْكَ نَوَازِعُ

فجعل ضوء البرق وشدة شعاع نوره كضوء إقرارهم بألسنتهم وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله واليوم الاَخر وشعاع نوره ، مثلاً .

ثم قال تعالى ذكره : كُلّما أضَاءَ لَهُمْ يعني أن البرق كلما أضاء لهم ، وجعل البرق لإيمانهم مثلاً . وإنما أراد بذلك أنهم كلما أضاء لهم الإيمان وإضاءتهم لهم أن يروا فيه ما يعجبهم في عاجل دنياهم من النصرة على الأعداء ، وإصابة الغنائم في المغازي ، وكثرة الفتوح ، ومنافعها ، والثراء في الأموال ، والسلامة في الأبدان والأهل والأولاد ، فذلك إضاءته لهم لأنهم إنما يظهرون بألسنتهم ما يظهرونه من الإقرار ابتغاء ذلك ، ومدافعة عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم ، وهم كما وصفهم الله جل ثناؤه بقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ على حَرْفٍ فَانْ أصَابَهُ خَيْرٌ اطْمأنّ وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ على وَجْهِهِ .

ويعني بقوله : مَشَوْا فِيهِ مشوا في ضوء البرق . وإنما ذلك مثل لإقرارهم على ما وصفنا . فمعناه : كلما رأوا في الإيمان ما يعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا ، ثبتوا عليه وأقاموا فيه ، كما يمشي السائر في ظلمة الليل وظلمة الصيب الذي وصفه جل ثناؤه ، إذا برقت فيها بارقة أبصر طريقه فيها وَإِذَا أظْلَمَ يعني ذهب ضوء البرق عنهم . ويعني بقوله : «عليهم » : على السائرين في الصيب الذي وصف جل ذكره ، وذلك للمنافقين مثل . ومعنى إظلام ذلك : أن المنافقين كلما لم يروا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم عند ابتلاء الله مؤمني عباده بالضرّاء وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء من إخفاقهم في مغزاهم وإنالة عدوّهم منهم ، أو إدبار من دنياهم عنهم أقاموا على نفاقهم وثبتوا على ضلالتهم كما قام السائر في الصيب الذي وصف جل ذكره إذا أظلم وخفت ضوء البرق ، فحار في طريقه فلم يعرف منهجه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (19)

{ أو كصيب من السماء } عطف على الذي استوقد أي : كمثل ذوي صيب لقوله : { يجعلون أصابعهم في آذانهم } و{ أو } في الأصل للتساوي في الشك ، ثم اتسع فيها فأطلقت للتساوي من غير شك مثل : جالس الحسن أو ابن سيرين ، وقوله تعالى : { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } . فإنها تفيد التساوي في حسن المجالسة ووجوب العصيان ومن ذلك قوله : { أو كصيب } ومعناه أن قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين ، وأنهما سواء في صحة التشبيه بهما ، وأنت مخير في التمثيل بهما أو بأيهما شئت . والصيب : فيعل من الصوب ، وهو النزول ، يقال للمطر وللسحاب . قال الشماخ :

وأسحم دان صادق الرعد صيب *** . . .

وفي الآية يحتملهما ، وتنكيره لأنه أريد به نوع من المطر شديد . وتعريف السماء للدلالة على أن الغمام مطبق آخذ بآفاق السماء كلها فإن كل أفق منها يسمى سماء كما أن كل طبقة منها سماء ، وقال :

ومن بعد أرض بيننا وسماء *** . . .

أمد به ما في الصيب من المبالغة من جهة الأصل والبناء والتنكير ، وقيل المراد بالسماء السحاب فاللام لتعريف الماهية .

{ فيه ظلمات ورعد وبرق } إن أريد بالصيب المطر ، فظلماته ظلمة تكاثفه بتتابع القطر ، وظلمة غمامه مع ظلمة الليل وجعله مكانا للرعد والبرق لأنهما في أعلاه ومنحدره ملتبسين به . وإن أريد به السحاب ، فظلماته سحمته وتطبيقه مع ظلمة الليل . وارتفاعها بالظرف وفاقا لأنه معتمد على موصوف . والرعد : صوت يسمع من السحاب . والمشهور أن سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا حدتها الريح من الارتعاد . والبرق ما يلمع من السحاب ، من برق الشيء بريقا ، وكلاهما مصدر في الأصل ولذلك لم يجمعا .

{ يجعلون أصابعهم في آذانهم } الضمير لأصحاب الصيب وهو وإن حذف لفظه وأقيم الصيب مقامه لكن معناه باق ، فيجوز أن يعول عليه كما عول حسان في قوله :

يسقون من ورد البريص عليهم *** بردى يصفق بالرحيق السلسل

حيث ذكر الضمير لأن المعنى ماء بردى ، والجملة استئناف فكأنه لما ذكر ما يؤذن بالشدة والهول قيل فكيف حالهم مع مثل ذلك ؟ فأجيب بها ، وإنما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة .

{ من الصواعق } متعلق بيجعلون أي من أجلها يجعلون ، كقولهم سقاه من العيمة . والصاعقة قصفة رعد هائل معها نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه ، من الصعق وهو شدة الصوت ، وقد تطلق على كل هائل مسموع أو مشاهد ، يقال صعقته الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو شدة الصوت ، وقرئ من " الصواقع " وهو ليس بقلب من الصواعق لاستواء كلا البناءين في التصرف يقال صقع الديك ، وخطيب مصقع ، وصقعته الصاقعة ، وهي في الأصل إما صفة لقصفة الرعد ، أو للرعد . والتاء للمبالغة كما في الرواية أو مصدر كالعافية والكاذبة . { حذر الموت } نصب على العلة كقوله :

وأغفر عوراء الكريم ادخاره *** وأصفح عن شتم اللئيم تكرما

والموت : زوال الحياة ، وقيل عرض يضادها لقوله : { خلق الموت والحياة } ، ورد بأن الخلق بمعنى التقدير ، والإعدام مقدرة .

{ والله محيط بالكافرين } لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط ، لا يخلصهم الخداع والحيل ، والجملة اعتراضية لا محل لها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (19)

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( 19 )

{ أو } للتخيير ( {[301]} ) ، معناه مثلوهم بهذا أو بهذا ، لا على الاقتصار( {[302]} ) على أحد الأمرين ، وقوله : { أو كصيّب } معطوف على { كمثل الذي } . وقال الطبري : { أو } بمعنى( {[303]} ) الواو .

قال القاضي أبو محمد وهذه عجمة ، والصيب المطر من صاب يصوب إذا انحط من علو إلى سفل ، ومنه قول علقمة بن عبدة( {[304]} ) : [ الطويل ]

كأنهمُ : صابتْ عليهمْ سحابةٌ . . . صواعقها لطيرِهِنَّ دبيبُ

وقول الآخر( {[305]} ) : [ الطويل ]

فلستِ لإنسيٍّ ولكن لملأكٍ . . . تنّزلَ من جوِّ السماءِ يصوبُ( {[306]} )

وأصل صيّب صَيْوب اجتمع الواو والياء وسبقت إحدهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ، كما فعل في سَيّد ومَيّت .

وقال بعض الكوفيين : أصل صيّب صَوِيب على مثال فعيل وكان يلزمه أن لا يعل كما لم يعل طويل( {[307]} ) ، فبهذا يضعف هذا القول .

وقوله تعالى : { ظلمات } بالجمع ، إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن( {[308]} ) ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت ، وكون الدجن مظلماً هول وغم للنفس ، بخلاف السحاب والمطر إذا انجلى دجنه ، فإنه سارٌّ جميل ، ومنه قول قيس بن الخطيم : [ المتقارب ]

فما رَوْضةٌ من رياضِ القطا *** كأَنَّ الْمَصَابِيحَ حوذانها

بأحسنَ مِنْها ولا مَزنةٌ *** دلوحٌ تَكشّفُ أدجانُها( {[309]} )

واختلف العلماء في الرعد : فقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب وغيرهم : هو ملك يزجر السحاب بهذا الصوت المسموع كلما خالفت سحابة صاح بها ، فإذا اشتد غضبه طار النار من فيه ، فهي { الصواعق } ، واسم هذا الملك الرعد ، وقيل الرعد ملك ، وهذا الصوت تسبيحه ، وقيل الرعد اسم الصوت المسموع ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهذا هو المعلوم في لغة العرب ، وقد قال لبيد في جاهليته : [ المنسرح ]

فجعني الرعدُ والصواعقُ بال . . . فارسِ يومَ الكريهةِ النجدِ( {[310]} )

وروي عن ابن عباس أنه قال : «الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت » . وقيل : «الرعد اصطكاك أجرام السحاب »( {[311]} ) . وأكثر العلماء على أن الرعد ملك ، وذلك صوته يسبح ويزجر السحاب . ( {[312]} )

واختلفوا في البرق :

فقال علي بن أبي طالب : «هو مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب » .

وقال ابن عباس : «هو سوط نور بيد الملك يزجي به السحاب » .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن البرق يتراءى ، وقال قوم : «البرق ماء » ، وهذا قول ضعيف .

والصاعقة : قال الخليل : «هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد يكون معها أحياناً نار ، يقال إنها من المخراق الذي بيد الملك ، وقيل في قطعة النار إنها ماء يخرج من فم الملك عند غضبه » .

وحكى الخليل عن قوم من العرب «الساعقة » بالسين .

وقال النقاش : «يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد » .

وقرأ الحسن بن أبي الحسن «من الصواقع » بتقديم القاف . قال أبو عمرو : «وهي لغة تميم » .

وقرأ الضحاك بن مزاحم «حذار الموت » بكسر الحاء وبألف . واختلف المتأولون في المقصد بهذا المثل وكيف تترتب أحوال المنافقين الموازنة لما في المثل من الظلمات والرعد والبرق والصواعق .

فقال جمهور المفسرين : «مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم . والعمى : هو الظلمات ، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد ، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أن تبهرهم هو البرق وتخوفهم وروعهم وحذرهم هو جعل أصابعهم في آذانهم ، وفضح نفاقهم ، واشتهار كفرهم ، وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوه هي الصواعق » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا كله صحيح بين .

وروي عن ابن مسعود أنه قال : «إن رجلين من المنافقين هربا من النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله وأيقنا بالهلاك ، فقالا : ليتنا أصبحنا فنأتي محمداً ونضع أيدينا في يده ، فأصبحا وأتياه وحسن إسلامهما ، فضرب الله ما نزل بهما مثلاً للمنافقين »( {[313]} ) .

وقال أيضاً ابن مسعود : «إن المنافقين في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعون القرآن ، فضرب الله المثل لهم » .

قال القاضي أبو محمد : وهذا وفاق لقول الجمهور الذي ذكرناه .

وقل قوم : «الرعد والبرق هما بمثابة زجر القرآن ، ووعيده » .

و { محيط بالكافرين } معناه بعقابه وأخذه( {[314]} ) ، يقال أحاط السلطان بفلان إذا أخذه حاصراً من كل جهة ، ومنه قوله تعالى : { وأحيط بثمره }( {[315]} ) [ الكهف : 42 ] ففي الكلام حذف مضاف .


[301]:- قال أبو (ح) رحمه الله: المعنى الظاهر هنا لـ(أو) – هو التفصيل نظرا لأحوال المنافقين، فمنهم من يشبه بحال المستوقد، ومنهم من يشبه بحال الصيب – ولا ضرورة تدعو إلى كون أو للتخيير، وإن المعنى أيهما شئت مثلهم به – ولا إلى كونها بمعنى الواو كما ذهب إليه الكوفيون هنا – لأن التخيير إنما يكون في الأمر أو ما في معناه، والجملة هنا خبرية صرفة – ولأن (أو) بمعنى الواو لم يثبت عند البصريين، واستدل به مثبت ذلك مؤول.
[302]:- ومعناه أن المَثَلَين سواء في استقلال كل واحد منهما بوجه التمثيل، فبأيهما مثلث فأنت مصيب، وإن مثلت بهما جميعا فكذلك.
[303]:- ذهب ابن جرير رحمه الله إلى أن المثل الناري والمثل المائي كلاهما مضروب لصنف واحد من المنافقين، ولذلك جعل (أو) بمعنى (الواو) مع أن المنافقين أصناف، ولهم أحوال كما ذكر الله ذلك في سورة براءة: ومنهم، ومنهم، ومنهم، يذكر أحوالهم وأوصافهم فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم، ولذلك وصف ابن عطية رحمه الله كلام (ط) بالعجمة وعدم الظهور.
[304]:- علقمة بن عبدة: هو المعروف بالفحل، وبعد البيت: فلا تعدلي بيني وبين مُغمر سقتك روايا المُزْن حيث تصوب
[305]:- اختلفوا في نسبة هذا البيت، فمنهم من نسبه إلى علقمة بن عبدة، ومنهم من نسبه إلى رجل من عبد القيس يمدح به النعمان بن الحرث بن المنذر، وقيل: هو لأبي وجزة يمدح به عبد الله بن الزبير، وقبل البيت: تعاليت أن تُعزى إلى الإنس جِلَّة وللأنس من يعزْوك فهو كذوب
[306]:- أي يقصد إلى الأرض، هذا هو الصواب في تفسيره كما لابن هشام في شرح بانت سعاد.
[307]:- مع أنه قد أعل ودخله الإدغام، وهذا هو وجه ضعف هذا القول.
[308]:- يقال: دجن اليوم يدجن دجنا ودجونا كان فيه دجن. والدجن السحاب والغيم والمطر الكثير والدائم، جمعه أدجان كما في البيت الثاني من بيتي قيس بن الخطيم.
[309]:- وقبل البيتين: أجد بعــمــرة غـــــنـيــانها فتهجر أم شأننا شأنها؟ فإن تمس شطب بها دارها وباح لك اليوم هجرانها وبعدهما: وعمرة من سروات النسا ء، تنفح بالمسك إردانها أجد: استمرن وغنيانها استغناؤهان أم شأننا شأنها: أي أم هي على ما نحب؟ وشطت بعدت، ورياض القطا اسم موضع فيه نبت وماء مستدير، وقوله: كأن المصابيح إلخ... فيه قلب. والأصل: كأن حوذانها المصابيح، والعرب تفعل ذلك، والحوذان نبت طيب يرتفع قدر الذراع وله زهرة حمراء في أصلها صفرة، والدَّلوح: السحابة الكثيرة الماء، والأردان ما يلي الذراعين من الكمين.
[310]:- قال لبيد هذا البيت وهو يرثي أخاه (إربد)- وكان قد اخترق بصاعقة.
[311]:- هو التحاكك والاصطدام فيتولد عنه ذلك الصوت القوي المزعج، وهذا من رأي الفلاسفة.
[312]:- يشهد له حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي خرجه الترمذي في جامعه قال: (أقبلت يهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله. قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال زجرة بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمره. قالوا: صدقت).
[313]:- رواه ابن جرير في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[314]:- الأولى: بعقابهم وأخذهم. وهو ما في (خ).
[315]:-م من الآية 41 من سورة الكهف.