فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (19)

{ أو كصيب من السماء } أو : حرف الشك لقصد التخيير بين المثلين أي مثلوهم بهذا ، وهي وإن كانت في الأصل للشك فقد توسع فيها حتى صارت لمجرد التساوي من غير شك ، وقال الفراء وغيره أنها بمعنى الواو ، والصيب المطر واشتقاقه من صاب يصوب إذا نزل ، وكل ما نزل من الأعلى إلى الأسفل فهو صيب ، والسماء في الأصل كل ما علاك فأظلمك ، ومنه قيل لسقف البيت سماء ، والسماء أيضا المطر سمي بها لنزوله منها ، وإطلاق السماء على المطر واقع كثير في كلام العرب ، وقيل من السماء بعينها ، وإنما ذكر الله تعالى من السماء وإن كان المطر لا ينزل إلا منها ليرد على زعم أن المطر ينعقد من أبخرة الأرض فأبطل مذهب الحكماء بقوله { من السماء } ليعلن أن المطر منها لا كما هو زعمهم الباطل .

{ فيه ظلمات } أي في الصيب ، وبه قال جمهور المفسرين ، وقال السيوطي في السحاب وهو خلاف ظاهر نظم الآية ، وقيل { في } بمعنى مع ، وإنما جمع الظلمات إشارة إلى أنه انظم إلى ظلمة الليل ، ظلمة الغيم والمطر { ورعد } اسم لصوت الملك الذي يزجر السحاب ، وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال : سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو ؟ ، قال ( ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث يشاء الله ) قالوا فما هذا الصوت الذي يسمع ؟ قال زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر ، قالت صدقت ، الحديث بطوله وفي إسناده مقال ، وعلى هذا التفسير أكثر العلماء ، وقيل هو اضطراب أجرام السحاب عند نزول المطر منها وإلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعا للفلاسفة وجهلة المتكلمين ، وقيل غير ذلك ، قال ابن عباس : الرعد اسم ملك يسوق السحاب ، والبرق لمعان سوطه من نور يزجر به السحاب ، وقيل الرعد اسم ملك يزجر السحاب{[80]} إذا تبددت جمعها وضمها فإذا اشتد غضبه يخرج من فيه النار فهي البرق { وبرق } النار التي تخرج منه ، أي مخراق بيد الملك الذي يسوق السحاب ، وإليه ذهب كثير من الصحابة وجمهور علماء الشريعة للحديث السابق ، وقال بعض المفسرين تبعا للفلاسفة أن البرق ما ينقدح من اصطكاك أجرام السحاب المتراكمة من الأبخرة المتصعدة المشتملة على جزء ناري يلهب عند الاصطكاك .

{ يجعلون } أي أصحاب الصيب { أصابعهم في آذانهم من الصواعق } إطلاق الأصابع على بعضها مجاز مشهور ، والعلاقة الجزئية والكلية لأن الذي يجعل في الأذان إنما هو رأس الأصبع لا كلها ، والصواعق ، ويقال الصواعق هي قطعة نار تنفصل من مخراق الملك الذي يزمجر السحاب عند غضبه وشدة ضربه لها ، ويدل على ذلك حديث ابن عباس المذكور قريبا ، وبه قال كثير من علماء الشريعة ، ومنهم من قال إنها نار تخرج من فم الملك ، وقال الخليل هي الوقعة الشديدة من صوت الرعد يكون معها أحيانا قطعة نار تحرق ما أتت عليه ، وقال أبو زيد الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد ، وقال بعض المفسرين تبعا للفلاسفة ومن قال بقولهن إنها نار لطيفة تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامها ، وسيأتي في سورة الرعد إن شاء الله تعالى في تفسير الرعد والبرق والصواعق ما له مزيد فائدة وإيضاح ، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال : ( اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك ) ، أخرجه الترمذي وقال حديث غريب { حذر الموت } أي مخافة الهلاك ، والموت ضد الحياة { والله محيط بالكافرين } أي عالم بحالهم وقيل يجمعهم ويعذبهم والإحاطة الأخذ من جميع الجهات حتى لا يفوت المحاط به بوجه من الوجوه .


[80]:فقد روى أحمد في مسنده (2483) والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح غريب وفي حديث طويل أجابه به صلى الله عليه وسلم اليهود.