{ أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء فِيهِ ظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } ثنى الله سبحانه وتعالى في شأنهم بتمثيل آخر لزيادة الكشف والإيضاح . وشبه المنافق في التمثيل الأول بالمستوقد ناراً وإظهاره الإيمان بالإضاءة وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار ، وهنا شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ، وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات ، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيبهم من الأفزاع والبلايا من جهة أهل الإسلام بالصواعق . والمعنى أو كمثل ذوي صيب فحذف «مثل » لدلالة العطف عليه «وذوي » لدلالة «يجعلون » عليه . والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء بهذه الصفة فلقوا منها ما لقوا ، فهذا تشبيه أشياء بأشياء إلا أنه لم يصرح بذكر المشبهات كما صرح في قوله : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسيء } [ غافر : 58 ] ، وقول امرىء القيس :
كأن قلوب الطير رطباً ويابسا*** لدى وكرها العناب والحشف البالي
بل جاء به مطوياً ذكره على سنن الاستعارة . والصحيح أن التمثيلين من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به .
بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولاً بعضها من بعض لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها كما فعل امرؤ القيس ، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئاً واحداً بأخرى مثلها كقوله تعالى : { مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } [ الجمعة : 5 ] الآية . فالمراد تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوارة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة ، وتساوي الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار لا يشعر من ذلك إلا بما يمر بدفيه من الكد والتعب . وكقوله : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَاء أنزلناه مِنَ السماء } [ الكهف : 45 ] ، فالمراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر فهو تشبيه كيفية بكيفة ، فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئاً واحداً فلا . فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة ، شبهت حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد أيقادها في ظلمة الليل ، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق ، والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر ولذا أخر ، وهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ . وعطف أحد التمثيلين على الآخر ب «أو » لأنها في أصلها لتساوي شيئين فصاعداً في الشك عند البعض ، ثم استعيرت لمجرد التساوي كقولك «جالس الحسن أو ابن سيرين » تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا ، وقوله تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الدهر : 24 ] ، أي الآثم والكفور سيان في وجوب العصيان فكذا هنا معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتي هاتين القصتين وأن الكيفيتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل ، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب ، وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك . والصيب : المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع يقال للسحاب صيب أيضاً . وتنكير «صيب » لأنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول ، والسماء هذه المظلة . وعن الحسن أنها موج مكفوف . والفائدة في ذكر السماء . والصيب لا يكون إلا من السماء أنه جاء بالسماء معرفة فأفاد أنه غمام أخذ بآفاق السماء ونفى أن يكون من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق ، لأن كل أفق من آفاقها سماء ، ففي التعريف مبالغة كما في تنكير صيب وتركيبه وبنائه ، وفيه دليل على أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه ، وقيل : إنه يأخذ من البحر ويرتفع .
«ظلمات » مرفوع بالجار والمجرور لأنه قد قوي لكونه صفة لصيب بخلاف ما لو قلت ابتداء «فيه ظلمات » ففيه خلاف بين الأخفش وسيبويه .
والرعد : الصوت الذي يسمع من السحاب لاصطكاك أجرامه ، أو ملك يسوق السحاب . والبرق الذي يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً إذا لمع ، والضمير في «فيه » يعود إلى الصيب فقد جعل الصيب مكاناً للظلمات ، فإن أريد به السحاب فظلماته إذا كان أسحم مطبقاً ، ظلمتا سحمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل . وأما ظلمات المطر فظلمة تكاثفه بتتابع القطر وظلمة أظلال غمامه مع ظلمة الليل . وجعل الصيب مكاناً للرعد والبرق على إرادة السحاب به ظاهر ، وكذا إن أريد به المطر لأنهما ملتبسان به في الجملة . ولم يجمع الرعد والبرق لأنهما مصدران في الأصل ، يقال رعدت السماء رعداً وبرقت برقاً فروعي حكم الأصل بأن ترك جمعهما . ونكرت هذه الأشياء لأن المراد أنواع منها كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف . { يَجْعَلُونَ أصابعهم فِي ءَاذَانِهِم } الضمير لأصحاب الصيب وإن كان محذوفاً كما في قوله : { أو هُمْ قَائِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] لأن المحذوف باقٍ معناه وإن سقط لفظه . ولا محل ل «يجعلون » لكونه مستأنفاً لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلاً قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد ؟ فقيل : يجعلون أصابعهم في آذانهم . ثم قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق ؟ فقال : يكاد البرق يخطف أبصارهم . وإنما ذكر الأصابع ولم يذكر الأنامل ورؤوس الأصابع هي التي تجعل في الأذان اتساعاً كقوله : { فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] والمراد إلى الرسغ ، ولأن في ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل . وإنما لم يذكر الأصبع الخاص الذي تسدّ به الأذن لأن السبابة فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن ، ولم يذكر المسبحة لأنها مستحدثة غير مشهورة . { مّنَ الصواعق } متعلق ب «يجعلون » أي من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم . والصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار . قالوا : تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلاَّ أتت عليه ، إلاَّ أنها مع حدتها سريعة الخمود . يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو نصفها ثم طفئت . ويقال : صعقته الصاعقة إذا أهلكته فصعق أي : مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق { حَذَرَ الموت } مفعول له ، والموت فساد بنية الحيوان أو عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة { والله مُحِيطٌ بالكافرين } يعني : أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط فهو مجاز وهذه الجملة اعتراض لا محل لها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.