الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد : فهذا تفسير تحليلي لسورة ( الأنبياء ) وأسأل الله –تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده وشفيعا لنا يوم نلقاه . ( يوم لا ينفع مال ولا بنون . إلا من أتى الله بقلب سليم ) .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
1- سورة الأنبياء ، من السور المكية . وعدد آياتها اثنتا عشرة ومائة عند الكوفيين .
وعند غيرهم إحدى إحدى عشرة آية ومائة . وكان نزولها بعد سورة إبراهيم .
قال الآلوسي : وهي سورة عظيمة ، فيها موعظة فخيمة ، فقد أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية ، وابن عساكر ، عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرمه عامر ، وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال : إني استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم واديا ما في العرب واد أفضل منه . وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك .
فقال عامر : لا حاجة لي في ذلك ، فقد نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا .
ثم قرأ : [ اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . . ]( {[1]} ) .
2- وعندما نقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، نراها في مطلعها تسوق لنا ما يهز القلوب ، ويحملها على الاستعداد لاستقبال يوم القيامة بالإيمان والعمل الصالح ، ويزجرها عن الغفلة والإعراض .
قال –تعالى- : [ اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون . . ] .
3- ثم تحكي السورة بعد ذلك ألوانا من الشبهات التي أثارها المشركون حول الرسول صلى الله عليه وسلم وحول دعوته ، وردت عليهم بما يبطل شبهاتهم وأقوالهم ، فقال –تعالى- : [ بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه ، بل هو شاعر ، فليأتنا بآية كما أرسل الأولون* ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون* وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون* وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ] .
4- ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك أدلة متعددة على وحدانية الله –تعالى- وعلى شمول قدرته . منها قوله –عز وجل- : [ أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون* لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون* لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ] .
وقوله –سبحانه- : [ أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ، وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون* وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم* وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون* وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون ] .
5- وبعد أن ذكرت السورة ألوانا من نعم الله على خلقه ، وحكت جانبا من تصرفات المشركين السيئة مع النبي صلى الله عليه وسلم أتبعت ذلك بتسليته صلى الله عليه وسلم عما قالوه في شأنه .
قال –تعالى- : [ ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ] .
6- ثم عرضت السورة الكريمة جانبا من قصص بعض الأنبياء ، تارة على سبيل الإجمال ، وتارة بشيء من التفصيل ، فتحدثت عن موسى وهارون ، وعن إبراهيم ولوط ، وعن إسحاق ويعقوب ، وعن نوح وأيوب ، وعن داود وسليمان ، وعن إسماعيل وإدريس ، وعن يونس وزكريا .
وفي نهاية حديثها عنهم –صلوات الله وسلامه عليهم- عقبت بالمقصود الأساسي من رسالتهم ، وهو دعوة الناس جميعا إلى إخلاص العبادة لله –تعالى- ، وأنهم جميعا قد جاءوا برسالة واحدة في جوهرها ، فقال –تعالى- : [ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ] .
7- ثم تحدثت في أواخرها عن أشراط الساعة ، وعن أهوالها ، وعن أحوال الناس فيها .
قال –تعالى- : [ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون* واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ، يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين ] .
8- ثم ختم –سبحانه- سورة الأنبياء بالحديث عن سنة من سننه التي لا تتخلف ، وعن رسالة نبيه صلى الله عليه وسلم وعن موقفه من أعدائه ، فقال –تعالى- :
[ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون* إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين* وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين* قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون* فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء ، وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون* إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون* وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين* قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون ] .
وبعد : فهذا عرض إجمالي لسورة الأنبياء ، ومنه نرى أنها قد أقامت ألوانا من الأدلة على وحدانية الله –تعالى- ، وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن يوم القيامة حق . . .
كما حكت شبهات المشركين وردت عليها بما يبطلها ، كما ساقت نماذج متعددة من قصص الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام .
ونسأل الله –تعالى- أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
قوله - سبحانه - : { اقترب } من القرب الذى هو ضد البعد .
والمعنى : قرب الزمن الذى يحاسب فيه الناس على أعمالهم فى الدنيا ، والحال أن الكافرين منهم فى غفلة تامة عن هذا الحساب ، وفى إعراض مستمر عن الاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح .
قال الإمام ابن كثير : هذا تنبيه من الله - عز وجل - على اقتراب الساعة ودنوها ، وأن الناس فى غفلة عنها ، أى لا يعملون لها ، ولا يستعدون من أجلها .
قال - تعالى - : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . . . } وقال : { اقتربت الساعة وانشق القمر وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } وعبر سبحانه - بالقرب مع أنه قد مضى على نزول هذه الآية وأمثالها أكثر من أربعة عشر قرنا ، لأن كل آت وإن طالت أوقات استقباله وترقبه ، قريب الوقوع ، ولأن ذلك الوقت وإن كان كبيرا فى عرف الناس ، إلا أنه عند الله - تعالى - قليل ، كما قال - سبحانه - : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } وقال - تعالى - : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً } وقال - تعالى - : { اقترب لِلنَّاسِ . . . } بلفظ العموم ، مع أن ما بعده من ألفاظ الغفلة والإعراض يشعر بأن المراد بهم الكافرون ، للتنبيه على أن الحساب سيشمل الجميع ، إلا أنه بالنسبة للكافرين سيكون حسابا عسيرا .
قال صاحب الكشاف : وصفهم بالغفلة مع الإعراض ، على معنى : أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون فى عاقبتهم ، ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم ، مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء للمحسن والمسىء . وإذا قرعت لهم العصا ، ونبهوا عن سنة الغفلة ، وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر ، أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا .
وفى التعبير عن اقتراب يوم القيامة باقتراب الحساب ، زيادة فى الترهيب والتخويف ، وفى الحض على الاستعداد لهذا اليوم ، لأنه يوم يحاسب فيه الناس على أعمالهم فى الدنيا حسابا دقيقا ، ولن تملك فيه نفس لنفس شيئا ، وإنما يجازى فيه كل إنسان بحسب عمله .
بِسمِ اللّهِ الرحمَن الرّحِيمِ
القول في تأويل قوله تعالى : { اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مّعْرِضُونَ } .
يقول تعالى ذكره : دنا حساب الناس على أعمالهم التي عملوها في دنياهم ونعمهم التي أنعمها عليهم فيها في أبدانهم ، أجسامهم ، ومطاعمهم ، ومشاربهم ، وملابسهم وغير ذلك من نعمه عندهم ، ومسئلته إياهم ماذا عملوا فيها وهل أطاعوه فيها ، فانتهوا إلى أمره ونهيه في جميعها ، أم عصوه فخالفوا أمره فيها ؟ وَهُمْ في غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ يقول : وهم في الدنيا عما الله فاعل بهم من ذلك يوم القيامة ، وعن دنوّ محاسبته إياهم منهم ، واقترابه لهم في سهو وغفلة ، وقد أعرضوا عن ذلك ، فتركوا الفكر فيه والاستعداد له والتأهب ، جهلاً منهم بما هم لاقوه عند ذلك من عظيم البلاء وشديد الأهوال .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ قال أهل التأويل ، وجاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : ثني أبو معاوية ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ قال : «في الدنيا »
{ بسم الله الرحمن الرحيم } { اقترب للناس حسابهم } بالإضافة إلى ما مضى أو ما عند الله لقوله تعالى { إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا } وقوله { ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } أو لأن كل ما هو آت قريب وإنما البعيد ما انقرض ومضى ، واللام صلة ل { اقترب } أو تأكيد للإضافة وأصله اقترب حساب الناس ثم اقترب للناس الحساب ثم اقترب للناس حسابهم ، وخص الناس بالكفار لتقييدهم بقوله : { وهم في غفلة } أي في غفلة عن الحساب . { معرضون } عن التفكر فيه وهما خبران للضمير ، ويجوز أن يكون الظرف حالا من المستكن في { معرضون } .