إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ مُّعۡرِضُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأنبياء مكية وهي مائة واثنتا عشرة آية .

{ اقترب لِلنَّاسِ حسابهم } مناسبةُ هذه الفاتحةِ الكريمة لما قبلها من الخاتمة الشريفة غنيةٌ عن البيان . قال ابن عباس رضي الله عنهما : المرادُ بالناس المشركون وهو الذي يُفصح عنه ما بعده ، والمرادُ باقتراب حسابِهم اقترابُه في ضمن اقترابِ الساعةِ ، وإسنادُ الاقترابِ إليه لا إلى الساعة مع استتباعها له ولسائر ما فيها من الأحوال والأهوالِ الفظيعة لانسياق الكلامِ إلى بيان غفلتِهم عنه وإعراضِهم عما يذكّرهم ذلك ، واللامُ متعلقةٌ بالفعل ، وتقديمُها على الفاعل للمسارعة إلى إدخال الروعةِ فإن نسبةَ الاقتراب إليهم من أول الأمر مما يسوؤهم ويُورثهم رَهبةً وانزعاجاً من المقترِب ، كما أن تقديمَ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريحِ في قوله تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض } لتعجيل المسرّة لما أن بيان كونِ الخلق لأجل المخاطَبين مما يسرّهم ويزيدهم رغبةً فيما خُلق لهم وشوقاً إليه ، وجعلها تأكيداً للإضافة على أن الأصلَ المتعارفَ فيما بين الأوساط اقترب حسابُ الناس ثم اقترب للناس الحسابُ ثم اقترب للناس حسابُهم مع أنه تعسفٌ تامٌّ بمعزل عما يقتضيه المقامُ وإنما الذي يستدعيه حسنُ النظام ما قدمناه والمعنى دنا منهم حسابُ أعمالِهم السيئةِ الموجبة للعقاب ، وفي إسناد الاقترابِ المنبئ عن التوجه نحوَهم إلى الحساب مع إمكان العكس بأن يُعتبرَ التوجّهُ والإقبالُ من جهتهم نحوه من تفخيم شأنِه وتهويلِ أمره ما لا يخفى لما فيه من تصويره بصورة شيءٍ مقبلٍ عليهم لا يزال يطلُبهم ويصيبهم لا محالة ، ومعنى اقترابِه لهم تقارُبُه ودُنوُّه منهم بعدَ بُعدِه عنهم فإنه في كل ساعة من ساعات الزمان أقربُ إليهم منه في الساعة السابقة .

هذا وأما الاعتذارُ بأن قربَه بالإضافة إلى ما مضى من الزمان أو بالنسبة إلى الله عز وجل أو باعتبار أن كلَّ آتٍ قريبٌ فلا تعلُّقَ له بما نحن فيه من الاقتراب المستفادِ من صيغة الماضي ولا حاجة إليه في تحقيق أصلِ معناه ، نعم قد يفهم منه عُرفاً كونُه قريباً في نفسه أيضاً فيصار حينئذ إلى التوجيه بالوجه الأولِ دون الأخيرين ، أما الثاني فلا سبيلَ إلى اعتباره هاهنا لأن قربَه بالنسبة إليه تعالى مما لا يُتصوّر فيه التجددُ والتفاوتُ حتماً ، وإنما اعتبارُه في قوله تعالى : { لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } ونظائرِه مما لا دَلالةَ فيه على الحدوث ، وأما الثالثُ فلا دِلالةَ فيه على القرب حقيقةً ولو بالنسبة إلى شيء آخر .

{ وَهُمْ في غَفْلَةٍ } أي في غفلة تامةٍ منه ساهون عنه بالمرة لا أنهم غيرُ مبالين به مع اعترافهم بإتيانه ، بل منكرون له كافرون به مع اقتضاء عقولِهم أن الأعمالَ لا بد لها من الجزاء { مُّعْرِضُونَ } أي عن الآيات والنذرُ المنبّهة لهم عن سِنَة الغفلة ، وهما خبران للضمير وحيث كانت الغفلةُ أمراً جِبِلّياً لهم جُعل الخبرُ الأول ظرفاً منبئاً عن الاستقرار بخلاف الإعراض ، والجملةُ حالٌ من الناس ، وقد جُوّز كونُ الظرف حالاً من المستكن في معرضون .