قوله تعالى : { لقد كان في قصصهم } أي : في خبر يوسف وإخوته ، { عبرة } عظة { لأولي الألباب ما كان } يعني : القرآن { حديثاً يفترى } أي : يختلق ، { ولكن تصديق الذي } أي : ولكن كان تصديق الذي { بين يديه } ، من التوراة والإنجيل ، { وتفصيل كل شيء } ، مما يحتاج العباد إليه من الحلال والحرام والأمر والنهي ، { وهدىً ورحمةً } ، بيانا ونعمة { لقوم يؤمنون } .
ثم ختم - سبحانه - هذه السورة الكريمة بقوله : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب } أى : لقد كان في قصص أولئك الأنبياء الكرام وما جرى لهم من أقوامهم ، عبرة وعظة لأصحاب العقول السليمة ، والأفكار القويمة ، بسبب ما اشتمل عليه هذا القصص من حكم وأحكام ، وآداب وهدايات .
و { مَا كَانَ } هذا المقصوص في كتاب الله - تعالى - { حَدِيثاً يفترى } أى يختلق .
{ ولكن } كان { تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب السابقة عليه ، كالتوراة والإِنجيل والزبور ، فهو المهيمن على هذه الكتب ، والمؤيد لما فيها من أخبار صحيحة ، والمبين لما وقع فيها من تحريف وتغيير ، والحاكم عليها بالنسخ أو بالتقرير .
{ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } أى : وكان في هذا الكتاب - أيضاً - تفصيل وتوضيح كل شئ من الشرائع المجملة التي تحتاج إلى ذلك .
{ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أى : وكان هداية تامة ، ورحمة شاملة ، لقوم يؤمنون به ، ويعملون بما فيه من أمر ونهى ، وينتفعون بما اشتمل عليه من وجوه العبر والعظات .
وبعد : فهذا تفسير لسورة يوسف - عليه السلام - تلك السورة الزاخرة بالحكم والأحكام ، وبالآداب والأخلاق ، وبالمحاورات والمجادلات ، وبأحوال النفوس البشرية في حبها وبغضها ، وعسرها ويسرها ، وخيرها وشرها . وعطائها ومنعها وسرها وعلانيتها ، ورضاها وغضبها ، وحزنها وسرورها .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىَ وَلََكِن تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : لقد كان في قصص يوسف وإخوته عِبرة لأهل الحِجا والعقول ، يعتبرون بها وموعظة يتعظون بها وذلك أن الله جلّ ثناؤه بعد أن ألقي يوسف في الجبّ ليهلك ، ثم بِيع بيع العبيد بالخسيس من الثمن ، وبعد الإسار والحبس الطويل ملّكه مصر ومكّن له في الأرض وأعلاه على من بغاه سوءا من إخوته ، وجمع بينه وبين والديه وإخوته بقدرته بعد المدّة الطويلة ، وجاء بهم إليه من الشّقّة النائية البعيدة . فقال جلّ ثناؤه للمشركين من قريش من قوم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لقد كان لكم أيّها القوم في قَصَصهم عبرة لو اعتبرتم به ، أن الذي فعل ذلك بيوسف وإخوته لا يتعذّر عليه أن يفعل مثله بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فيخرجه من بين أظهركم ثم يظهره عليكم ويمكن له في البلاد ويؤيده بالجند والرجال من الأتباع والأصحاب ، وإن مرّت به شدائد وأتت دونه الأيام والليالي والدهور والأزمان .
وكان مجاهد يقول : معنى ذلك : لقد كان في قصصهم عبرة ليوسف وإخوته . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لَقَدْ كانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ليوسف وإخوته .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : عبرة ليوسف وإخوته .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولى الألْباب قال : يوسف وإخوته .
وهذا القول الذي قاله مجاهد وإن كان له وجه يحتمله التأويل ، فإن الذي قلنا في ذلك أولى به لأن ذلك عقيب الخبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم وعن قومه من المشركين ، وعقيب تهديدهم ووعيدهم على الكفر بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ومنقطع عن خبر يوسف وإخوته ، ومع ذلك أنه خبر عامّ عن جميع ذوي الألباب ، أن قصصهم لهم عبرة ، وغير مخصوص بعض به دون بعض . فإذا كان الأمر على ما وصفت في ذلك ، فهو بأن يكون خبرا عن أنه عبرة لغيرهم أشبه ، والرواية التي ذكرناها عن مجاهد من رواية ابن جريج أشبه به أن تكون من قوله لأن ذلك موافق القول الذي قلناه في ذلك .
وقوله : ما كانَ حَديثا يُفْتَرَى يقول تعالى ذكره : ما كان هذا القول حديثا يُختلَق ويُتَكَذّب ويتخرّص . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ما كانَ حَدِيثا يُفْتَرَى والفِرية : الكذب .
ولكِنْ تَصْدِيقَ الّذِي بينَ يَدَيْه يقول : ولكنه تصديق الذي بين يديه من كتب الله التي أنزلها قبله على أنبيائه ، كالتوراة والإنجيل والزبور ، ويصدّق ذلك كله ويشهد عليه أن جميعه حقّ من عند الله . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الّذي بينَ يَدَيْهِ والفرقان تصديق الكتب التي قبله ، ويشهد عليها .
وقوله : وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيْءٍ يقول تعالى ذكره : وهو أيضا تفصيل كلّ ما بالعباد إليه حاجة من بيان أمر الله ونهيه وحلاله وحرامه وطاعته ومعصيته .
وقوله : وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يقول تعالى ذكره : وهو بيان أمره ، ورشاد من جَهِلَ سبيل الحقّ فعمِي عنه إذا تبعه فاهتدى به من ضلالته ورحمة لمن آمن به وعمل بما فيه ، ينقذه من سخط الله وأليم عذابه ، ويورثه في الاَخرة جنانه والخلود في النعيم المقيم . لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يقول : لقوم يصدّقون بالقرآن وبما فيه من وعد الله ووعيده وأمره ونهيه ، فيعملون بما فيه من أمره وينتهون عما فيه من نهيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.