التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِۗ مَا كَانَ حَدِيثٗا يُفۡتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (111)

قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } هذه الآية خير ختام وتعقيب تفضي إليهما هذه السورة الجليلة ، وهي آية مميزة في روعة مبناها وعجيب ألفاظها المصطفاة ، فضلا عما يتزاحم فيها من معان عظام مبدوءة بالإخبار ، ثم بالنفي ، ثم بالاستدراك ، ثم العطف .

وذلك كله في إحكام مترابط منسجم موصول يضم خلاله أكرم المعاني والعبر . وذلك في آية واحدة قصيرة لا يتلوها قارئ متدبر حتى تبادره حلاوة الألفاظ والمعاني ، ويسري في شغافه وخياله جمال الأسلوب المحبوب ، وسحر الإيقاع النافذ إلى عميق النفس . وهذه الخصيصة في روعة الختام والتعقيب إنما تتجلى في القرآن الكريم وحده من بين سائر الكلم ! أما تأويل الآية فهو أنه كان في أخبار النبيين والمرسلين وأممهم ، وكذلك ما حوته قصة يوسف من حقائق وأنباء تذهل –في ذلك كله { عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } أي ذكرى وموعظة لأولى النهي والأفهام من الناس .

إن ما حواه القرآن من أخبار الأولين وقصصهم وما لقيه النبيون والمرسلون من صنوف البلاء والتعذيب من أممهم الفاسق أكثرها لهم خير تذكير وعظة للمتدبرين أولي الأبصار .

وفي جملة ذلك كله قصة يوسف وما حوته من وقائع وأحداث تثير الحيرة والدهش وتستنفر الألم والأسى وتعتصر القلوب لتفيض مضاضة وحزنا ! ويأتي في مقدمة هذه الوقائع المذهلة مثلبة الحسد البغيض الذي يستولي على المرء شر استيلاء ليسول له قتل أخيه ، لا في الدين فحسب بل في الذين والنسب . لا جرم أن الحسد يسري في دم ابن آدم سريان الماء في عروق الأرض ، وأنه يطغى على القلب والأعصاب والجهاز النفسي كله في الغالب فينجح بصاحبه لفعل الفظائع من المنكرات إلا أن يتذكر المرء مخافة الله في قلبه فيرعوى ليفيء إلى الصواب كلما ذكر الله في نفسه فاتقاه وازدجر .

قوله : { مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } ما كان هذا القرآن حديثا مختلقا اختلاقا كما زعم الجاهدون السفهاء { وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } { تصديق } ، منصوب ؛ لأنه خبر كان . وتقديره : ولكن كان ذلك تصديق الذي بين يديه{[2307]} ؛ أي كان هذا القرآن تصديقا لما قبله من التوراة والإنجيل وسائر كتب الله . فالقرآن مصدق لما في الكتب المنزلة من السماء ؛ فهو يصدق الصحيح منها ، وينفي ما وقع فيها من تغيير وتبديل { وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ } آيات القرآن جاءت لتفصل ما يحتاج إليه الناس من أحكام الحلال والحرام بما في ذلك من بيان للواجبات والمستحبات والمحرمات والمكروهات . وكذلك الإخبار عن أسماء الله وصفاته وما يليق بجنابه وما لا يليق مما هو عنه منزه . وكذلك أنباء الأولين من الغابرين والدارسين مما فيه موعظة وذكرى للمتدبرين المتقين { وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } { وَهُدًى وَرَحْمَةً } ، منصوبان على العطف على قوله : { تصديق } ؛ أي إن القرآن نور تستضيء به البشرية لتهتدي في طريقها وحياتها فلا تضل أو تتعثر ، وهو كذلك بما تضمنه من أحكام وشرائع ومبادئ وقيم ؛ رحمة مهداة من الله للناس كيما يسعدوا بع في حياتهم هذه ، ويوم القيامة يكونون من الآمنين الناجين في مقعد صدق وعليين . جعلنا الله في زمرة السعداء الآمنين الناجين في الدنيا والآخرة .


[2307]:البيان لابن الأنباري جـ 2 ص 46.