البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِۗ مَا كَانَ حَدِيثٗا يُفۡتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (111)

الضمير في قصصهم عائد على الرسل ، أو على يوسف وأبويه وإخوته ، أو عليهم وعلى الرسل ثلاثة أقوال .

الأول : اختاره الزمخشري قال : وينصره قراءة من قرأ قصصهم بكسر القاف انتهى .

ولا ينصره إذ قصص يوسف وأبيه وأخوته مشتمل على قصص كثيرة وأنباء مختلفة .

والذي قرأ بكسر القاف هو أحمد بن جبير الانطاكي عن الكسائي ، والقصبي عن عبد الوارث عن أبي عمر وجمع قصة .

واختار ابن عطية الثالث ، بل لم يذكره غيره .

والعبرة الدلالة التي يعبر بها عن العلم .

وإذا عاد الضمير على يوسف عليه السلام وأبويه وإخوته ، فالاعتبار بقصصهم من وجوه إعزاز يوسف عليه السلام بعد إلقائه في الجب ، وإعلاؤه بعد حبسه في السجن ، وتملكه مصر بعد استعباده ، واجتماعه مع والديه وإخوته على ما أحب بعد الفرقة الطويلة .

والإخبار بهذا القصص إخباراً عن الغيب ، والإعلام بالله تعالى من العلم والقدرة والتصرف في الأشياء على ما لا يخطر على بال ولا يجول في فكر .

وإنما خص أولو الألباب لأنهم هم الذين ينتفعون بالعبر ، ومن له لب وأجاد النظر ، ورأى ما فيها من امتحان ولطف وإحسان ، علم أنه أمر من الله تعالى ، ومن عنده تعالى .

والظاهر أنّ اسم كان مضمر يعود على القصص أي : ما كان القصص حديثاً مختلفاً ، بل هو حديث صدق ناطق بالحق جاء به من لم يقرأ الكتب ، ولا تتلمذ لأحد ، ولا خالط العلماء ، فمحال أن يفتري هذه القصة بحيث تطابق ما ورد في التوراة من غير تفاوت .

وقيل : يعود على القرآن أي : ما كان القرآن الذي تضمن قصص يوسف عليه السلام وغيره حديثاً يختلق ، ولكن كان تصديق الكتب المتقدمة الإلهية ، وتفصيل كل شيء واقع ليوسف مع أبويه وإخوته إن كان الضمير عائداً على قصص يوسف ، أو كل شيء مما حتاج إلى تفصيله في الشريعة إن عاد على القرآن .

وقرأ حمران بن أعين ، وعيسى الكوفي فيما ذكر صاحب اللوامح ، وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية : تصديق وتفصيل وهدى ورحمة برفع الأربعة أي : ولكن هو تصديق ، والجمهور بالنصب على إضمار كان أي : ولكن تصديق أي : كان هو ، أي الحديث ذا تصديق الذي بين يديه .

وينشد قول ذي الرمة :

وما كان مالي من تراب ورثته *** ولا دية كانت ولا كسب ماثم

ولكن عطاء الله من كل رحلة *** إلى كل محجوب السوارق خضرم

بالرفع في عطاء ونصبه أي : ولكن هو عطاء الله ، أو ولكن كان عطاء الله .

ومثله قول لوط بن عبيد العائي اللص :

وإني بحمد الله لا مال مسلم *** أخذت ولا معطي اليمين محالف

ولكن عطاء الله من مال فاجر *** قصى المحل معور للمقارف

وهدى أي سبب هداية في الدنيا ، ورحمة أي : سبب لحصول الرحمة في الآخرة .

وخص المؤمنون بذلك لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك كما قال تعالى : { هدى للمتقين } وتقدم أول السورة قوله تعالى : { إنا أنزلناه قرآناً عربياً } وقوله تعالى : { نحن نقص عليك أحسن القصص } وفي آخرها : ما كان حديثاً يفترى إلى آخره ، فلذلك احتمل أن يعود الضمير على القرآن ، وأن يعود على القصص والله تعالى أعلم .