معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَلَمَّا سَمِعَتۡ بِمَكۡرِهِنَّ أَرۡسَلَتۡ إِلَيۡهِنَّ وَأَعۡتَدَتۡ لَهُنَّ مُتَّكَـٔٗا وَءَاتَتۡ كُلَّ وَٰحِدَةٖ مِّنۡهُنَّ سِكِّينٗا وَقَالَتِ ٱخۡرُجۡ عَلَيۡهِنَّۖ فَلَمَّا رَأَيۡنَهُۥٓ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ وَقُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا مَلَكٞ كَرِيمٞ} (31)

قوله تعالى : { فلما سمعت } ، راعيل ، { بمكرهن } ، بقولهن وحديثهن ، قاله قتادة والسدي . قال ابن إسحاق إنما قلن ذلك مكرا بها لتريهن يوسف ، وكان يوصف لهن حسنه وجماله . وقيل : إنها أفشت إليهن سرها واستكتمتهن فأفشين ذلك ، فلذلك سماه مكرا . { أرسلت إليهن } ، قال وهب : اتخذت مأدبة ، ودعت أربعين امرأة ، منهم هؤلاء اللاتي عيرنها . { وأعتدت } ، أي : أعدت ، { لهن متكئا } ، أي : ما يتكأ عليه . وقال ابن عباس و سعيد بن جبير والحسن وقتادة ومجاهد : متكأ أي : طعاما ، سماه متكأ لأن أهل الطعام إذا جلسوا يتكؤون على الوسائد ، فسمى الطعام متكأ على الاستعارة . يقال : اتكأنا عند فلان أي : طعمنا . ويقال : المتكأ ما اتكأت عليه لشرب أو لحديث أو لطعام ، ويقرأ في الشواذ متكأ بسكون التاء . واختلفوا في معناه : فقال ابن عباس : هو الأترج . ويروى عن مجاهد مثله . وقيل هو الأترج بالحبشة . وقال الضحاك : هو الربا ورد . وقال عكرمة : هو كل شيء يقطع بالسكين . وقال أبو زيد الأنصاري : كل ما يجز بالسكين فهو عند العرب متك ، والمتك والبتك بالميم والباء : القطع ، فزينت المأدبة بألوان الفواكه والأطعمة ، ووضعت الوسائد ودعت النسوة . { وآتت } : أعطت ، { كل واحدة منهن سكينا } ، فكن يأكلن اللحم حزا بالسكين . { وقالت } ، ليوسف ، { اخرج عليهن } ، وذلك أنها كانت أجلسته في مجلس آخر ، فخرج عليهن يوسف . قال عكرمة : كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم . وروي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت ليلة أسري بي إلى السماء يوسف كالقمر ليلة البدر " . قال إسحاق بن أبي فروة : كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألأ وجهه على الجدران . { فلما رأينه أكبرنه } ، أعظمنه ، قال أبو العالية : هالهن أمره وبهتن . وقيل : أكبرنه أي : حضن لأجله من جماله . ولا يصح . { وقطعن } ، أي : حززن بالسكاكين التي معهن ، { أيديهن } ، وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج ، ولم يجدن الألم لشغل قلوبهن بيوسف . قال مجاهد : فما أحسسن إلا بالدم . وقال قتادة أبن أيديهن حتى ألقينها . والأصح كان قطعا بلا إبانة . وقال وهب : ماتت جماعة منهن . { وقلن حاش لله ما هذا بشراً } ، أي : معاذ الله أن يكون هذا بشرا . قرأ أبو عمرو : حاشى لله ، بإثبات الياء في الوصل ، على الأصل . وقرأ الآخرون بحذف الياء لكثرة ورودها على الألسن ، واتباع الكتاب . وقوله : { ما هذا بشراً } نصبت بنزع حرف الصفة ، أي : ببشر ، { إن هذا } ، أي : ما هذا ، { إلا ملك } ، من الملائكة ، { كريم } ، على الله .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَلَمَّا سَمِعَتۡ بِمَكۡرِهِنَّ أَرۡسَلَتۡ إِلَيۡهِنَّ وَأَعۡتَدَتۡ لَهُنَّ مُتَّكَـٔٗا وَءَاتَتۡ كُلَّ وَٰحِدَةٖ مِّنۡهُنَّ سِكِّينٗا وَقَالَتِ ٱخۡرُجۡ عَلَيۡهِنَّۖ فَلَمَّا رَأَيۡنَهُۥٓ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ وَقُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا مَلَكٞ كَرِيمٞ} (31)

وهنا تحكى السورة الكريمة كيف قابلت تلك المرأة الداهية الجريئة ، مكر بنات جنسها وطبقتها بمكر أشد من مكرهن بها فقال - تعالى - :

{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } أى : فاغتيابهن لها . وسوء مقالتهن فيها ، وسمى ذلك مكرا لشبهه به في الإِخفاء والخداع .

أو قصدن بما قلنه - كما سبق أن أشرنا - إثارتها ، لكى تطلعهن على فتاها الذي راودته عن نفسه ، ليعرفن السر في هذه المراودة ، وعلى هذا يكون المكر على حقيقته . ومثل هذا المكر ليس غريبا على النساء في مثل هذه الأحوال .

وقوله : { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ . . } الخ بيان لما فعلته معهن .

أى : أرسلت إلى النسوة اللائى وصفنها بأنها في ضلال مبين ، ودعتهن إلى الحضور إليها في دراها لتناول الطعام .

{ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } أى : وهيأت لهن في مجلس طعامها ، ما يتكئن عليه من الوسائد والنمارق وما يشبه ذلك .

فالمتكأ : اسم مفعول من الإتكاء ، وهو الميل إلى أحد الجانبين في الجلوس كما جرت بذلك عادة المترفين عند تناول الطعام ، وعندما يريدون إطالة المكث مع انتصاب قليل في النصف الأعلى من الجسم والاستراحة بعد الأكل .

أخرج ابن شيبة عن جابر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يأكل الرجل بشماله ، وأن يأكل متكئا .

{ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } أى : وأعطت كل واحدة من هؤلاء النسوة سكينا ليقطعن به ما يأكلن من لحم وفاكهة .

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الحضارة المادية في مصر في ذلك الوقت كانت قد بلغت شأوا بعيدا ، وأن الترف في القصور كان عظيما ، فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلاف من السنين له قيمته في تصوير الترف والحضارة المادية .

وهنا نجد المرأة الجريئة الماكرة ، تقول ليوسف - عليه السلام - كما حكى القرآن عنها : { اخرج عَلَيْهِنَّ } أى ابرز لهن ، وادخل عليهن ، وهن على تلك الحالة من الأكل والاتكاء وتقطيع ما يحتاج إلى تقطيع الطعام . .

وهى ترمى من وراء خروجه عليهن إلى إطلاعهن عليه حتى يعذرنها في حبها له وقد كان لهذه المفاجأة من يوسف لهن وهن مشغولات بما يقطعنه ويأكلنه ، أثرها الشديد في نفوسهن ، وهذا ما حكاه القرآن الكريم في قوله : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } .

والجملة الكريمة معطوفة على كلام محذوف دل عليه السياق ، والتقدير : قالت امرأة العزيز ليوسف اخرج عليهن ، فخرج عليهن وهن على تلك الحالة فلما رأينه أكبرنه ، أى : أعظمنه ، ودهشن لهيئته ، وجمال طلعته وحسن شمائله .

{ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أى : جرحن أيديهن وخدشنها بالسكاكين التي في أيديهن دون أن يشعرن بذلك ، لشدة دهشتهن المفاجئة بهيئة يوسف . .

{ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً } وحاش فعل ماض ، واللام في " لله " للتعليل ، والمراد بهذه الجملة الكريمة التعبير عن عجيب صنع الله في خلقه أى : وقلن عندما فوجئن بخروج يوسف عليهن : تنزه الله - تعالى - تنزيها كبيرا عن صفات العجز ، ونتعجب تعجبا شديدا من قدرته - سبحانه - على خلق هذا الجمال البديع ، وما هذا الذي نراه أمامنا بشرا كسائر البشر ، لتفرقه في الحسن عنهم ، وإنما هو ملك كريم من الملائكة المقربين تمثل في هذه الصورة البديعة التي تخلب الألباب .

ووصفوه بذلك بناء على ما ركز في الطباع من تشبيه ما هو مفرط في الجمال والعفة بالملك وتشبيه ما هو شديد القبح والسوء بالشيطان .