قوله تعالى : { أم حسب } بل حسب ، { الذين اجترحوا السيئات } اكتسبوا المعاصي والكفر { أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } نزلت في نفر من مشركي مكة ، قالوا للمؤمنين : لئن كان ما تقولون حقا لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا . { سواءً محياهم } قرأ حمزة والكسائي وحفص ويعقوب : " سواء " بالنصب ، أي : نجعلهم سواء ، يعني : أحسبوا أن حياة الكافرين { ومماتهم } كحياة المؤمنين وموتهم سواءً كلا ، وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء والخبر أي : محياهم ومماتهم سواء فالضمير فيهما يرجع إلى المؤمنين والكافرين جميعاً ، معناه : المؤمن مؤمن محياه ومماته أي في الدنيا والآخرة ، والكافر كافر محياه ومماته ، في الدنيا والآخرة ، { ساء ما يحكمون } بئس ما يقضون ، قال مسروق : قال لي رجل من أهل مكة : هذا مقام أخيك تميم الداري ، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح ، يقرأ آيةً من كتاب الله يرددها يركع بها ويسجد ويبكي . { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية .
{ أم حسب الذين اجترحوا السيئات } اكتسبوا الكفر والمعاصي { أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم } مستويا حياتهم وموتهم ، أي المؤمن مؤمن حيا وميتا والكافر كافر حيا وميتا فلا يستويان { ساء ما يحكمون } بئس ما يقضون إذ حسبوا أنهم كالمؤمنين . نزلت هذه الآية حين قال المشركون لئن كان ما تقولون حقا لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا .
قوله تعالى : " أم حسب الذين اجترحوا السيئات " أي اكتسبوها . والاجتراح : الاكتساب ، ومنه الجوارح ، وقد تقدم في " المائدة " {[13787]} . " أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات " قال الكلبي : " الذين اجترحوا " عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة . و " الذين آمنوا " علي وحمزة وعبيدة بن الحارث - رضي الله عنهم - حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم . وقيل : نزلت في قوم من المشركين قالوا : إنهم يعطون في الآخرة خيرا مما يعطاه المؤمن ، كما أخبر الرب عنهم في قوله : " ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى " {[13788]} [ فصلت : 50 ] . وقوله : " أم حسب " استفهام معطوف معناه الإنكار . وأهل العربية يجوزون ذلك من غير عطف إذا كان متوسطا للخطاب . وقوم يقولون : فيه إضمار ، أي والله ولي المتقين أفيعلم المشركون ذلك أم حسبوا أنا نسوي بينهم . وقيل : هي أم المنقطعة ، ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان . وقراءة العامة " سواء " بالرفع على أنه خبر ابتداء مقدم ، أي محياهم ومماتهم سواء . والضمير في " محياهم ومماتهم " يعود على الكفار ، أي محياهم محيا سوء ومماتهم كذلك . وقرأ حمزة والكسائي والأعمش بالنصب ، واختاره أبو عبيد قال : معناه نجعلهم سواء . وقرأ الأعمش أيضا وعيسى بن عمر " ومماتهم " بالنصب ، على معنى سواء في محياهم ومماتهم ، فلما أسقط الخافض انتصب . ويجوز أن يكون بدلا من الهاء والميم في نجعلهم . المعنى : أن نجعل محياهم ومماتهم سواء كمحيا الذين آمنوا ومماتهم . ويجوز أن يكون الضمير في " محياهم ومماتهم " للكفار والمؤمنين جميعا . قال مجاهد : المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا ، والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا . وذكر ابن المبارك أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحا عن مسروق قال : قال رجل من أهل مكة : هذا مقام تميم الداري ، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ويركع ويسجد ويبكي " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات " الآية كلها . وقال بشير : بت عند الربيع بن خيثم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية فمكث ليله حتى أصبح لم يعْدُهَا ببكاء شديد . وقال إبراهيم بن الأشعث : كثيرا ما رأيت الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها ، ثم يقول : ليت ، شعري ! من أي الفريقين أنت ؟ وكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين ؛ لأنها محكمة .
ولما كان{[58118]} التقدير بعد هذا البيان الذي لم يدع لبساً في أمر الحساب بما حده من الملك الذي يوجب ما له-{[58119]} من العظمة والحكمة أن يحاسب عبيده لثواب المحسن وعقاب المسيء ، أعلم{[58120]} هؤلاء المخاطبون - لأنهم لا يعدون أن يكونوا من الناس أو من الذين يوقنون بهذه البصائر لما لهم من حسن الغرائز المعلية{[58121]} لهم عن حضيض الحيوان إلى أوج الإنسان أنا نفرق{[58122]} بين{[58123]} المسيئين الذين بعضهم أولياء بعض وبين المحسنين الذين نحن أولياؤهم ، عطف عليه سبحانه وتعالى قوله : { أم } قال الأصبهاني : قال الإمام : كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على آخر سواء كان المعطوف مذكوراً أو مضمراً - انتهى . وكان الأصل : حسبوا{[58124]} ، ولكنه عدل-{[58125]} عنه {[58126]}للتنبيه على أن ارتكاب{[58127]} السوء معم للبصيرة مضعف للعقل كما أفاده التعبير بالحسبان كما تقدم بيانه في البقرة فقال : { حسب الذين اجترحوا } أي فعلوا{[58128]} بغاية جهدهم ونزوع{[58129]} شهواتهم { السيئات أن نجعلهم } مع ما لنا من العظمة المانعة من الظلم المقتضية للحكمة { كالذين آمنوا وعملوا } تصديقاً لإقرارهم {[58130]}ظاهراً وباطناً وسراً وعلانية{[58131]} { الصالحات } بأن نتركهم بلا حساب للفصل بين المحسن والمسيء .
ولما كانت المماثلة مجملة ، بينها استئنافاً بقوله {[58132]}مقدماً ما{[58133]} هو عين المقصود من الجملة الأولى : { سواء } أي مستو استواء عظيماً { محياهم ومماتهم } أي حياتهم وموتهم وزمان ذلك ومكانه في الارتفاع والسفول واللذة والكدر وغير ذلك من الأعيان والمعاني{[58134]} . ولما كان هذا مما لا يرضاه أحد لمن تحت يده ولا لغيره ، قال معبراً بمجمع الذم : { ساء ما يحكمون * } أي بلغ حكمهم هذا في نفسه ولا سيما وهم بإصرارهم عليه في تجديد له-{[58135]} كل ساعة أقصى نهايات السوء ، فهو مما يتعجب منه ، لأنه لا يدري الحامل عليه ، وذلك أنهم نسبوا الحكيم الذي لا حكيم في الحقيقة غيره إلى ما لا يفعله أقل الناس فيمن تحت يده .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.