تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} (21)

الآية 21 وقوله تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } قال بعض أهل التأويل : نفر من الكفرة قالوا ، والله أعلم : إن كان كل ما يقوله محمد من الثواب والنعيم في الجنة حقا ، فنحن أولى بذلك منهم كما كنّا في نعيم الدنيا ولذّاتها أولى منهم ، أو لنُعطَينّ أفضل مما يُعطَون ، ولنُفضَّلن عليهم كما فُضّلنا في الدنيا . فأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية .

لكن هذا التأويل ضعيف ؛ لأن هذا لا يصلح أن يكون جوابا للنازلة التي ذكرها أهل التأويل ؛ لأن أولئك قالوا : نحن أولى بما يكون في الآخرة من النعيم واللذات منهم كما كنا في الدنيا أولى ، وكما فُضّلنا في الدنيا نُفضَّل في الآخرة ، فلا يكون قوله تعالى : { أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء } جوابا لما قالوا ، وهم إنما قالوا : نحن أولى بذلك ، ونحن نفضَّل فيها كما فُضّلنا في الدنيا .

فإذا كانوا حسبوا هم أنهم مفضّلون على المؤمنين في الآخرة دون المساواة ، كيف يُخبر عنهم أنهم حسبوا التساوي ، ولا خلاف في خبر الله عز وجل ؟ والله أعلم .

لكن الآية عندنا إنما كانت في منكري البعث وجاحديه ؛ يقول ، والله أعلم : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء } الآية أي لو كان الأمر على ما ظن أولئك بأن لا بعث ولا نشور كان في ذلك جعل الذين اجترحوا السيّئات أي الشرك كالذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ؛ { سواء محياهم ومماتهم } لأنهم جميعا قد استووا في هذه الدنيا في لذّاتها ونعيمها وشدائدها وآلامها .

وفي الحكمة والعقل التفريق بينهما والتمييز وإنزال كل واحد منهما منزلته وما يستحقه : المسيء [ من ]{[19218]} العقوبة وجزاء الإساءة ، والمُحسن [ من ]{[19219]} الإحسان والإفضال وجزاء إحسانه .

فإذا جُمع بينهما في هذه الدنيا على ما ذكرنا دلّ أن هناك دارا أخرى فيها يُفرَّق ، ويميّز بينهما في حق الثواب والعقاب ، والله أعلم .

وهو كقوله تعالى : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا } [ ص : 27 ] لو كان كما ظن أولئك الكفرة أن لا بعث ، ولا نشور ، كان خلق ما ذكر من السماوات والأرض وما بينهما باطلا عن ظنهم .

فلذلك قوله تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا تُرجعون } [ المؤمنون : 115 ] صيّر خلق السماوات والأرض إذا لم يكن هنالك رجوع إليه عبثا باطلا .

فهذا أولى وأحق أن تُصرف إليه الآية . وعلى ذلك ما ذكر في قوله عز وجل : { قل هل يستوي الأعمى والبصير } الآية [ الأنعام : 50 والرعد : 16 ] وقوله تعالى : { مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا } [ هود : 24 ] أي لا يستويان .

ولو كان الأمر على ما ظن أولئك أن لا بعث ، ولا نشور ، ولا حياة ، كما في ذلك استواء بين من ذكر ، وقد سوّى بينهم في الدنيا ، وفي الحكمة والعقل التفريق بينهما والتمييز ؛ إذ لا تجوز التسوية بين الوليّ والعدو ، وقد سوّى بينهما [ في الدنيا ]{[19220]} فعُلم أن المراد به نفي الاستواء بينهما في دار أخرى ، والله الموفّق .

ثم اختلف أهل الكلام في ما يُعطى الوليّ والعدوّ في هذه الدنيا من الصحة والسلامة على قول أكثر المعتزلة : إن الله لا يعطي أحدا في الدنيا من كافر أو مؤمن شيئا إلا وهو أصلح له في الدين .

ثم على قولهم : لا يظهر عفو الله تعالى في الآخرة ؛ لأنهم يقولون : إنما يستوجبون الثواب والجنة بأعمالهم لا برحمة الله تعالى . فإذا عفا عن المسيء فلا يُعلم أنه كان مستحقا [ لذلك ، أو كان العفوُ ]{[19221]} منه فضلا .

وعندنا أن ما أعطاهم إنما يُعطيهم إفضالا منه ورحمة ، فيعرفون فضله وإحسانه وعفوه .

وأكثر أصحابنا يقولون : إن جميع ما أعطى الكافر في الدنيا فهو شر له كقوله تعالى : { ولا يحسَبنّ الذين كفروا أنما نُملي لهم خير لأنفسهم إنما نُملي لهم ليزدادوا إثما } [ آل عمران : 178 ] وقوله عز وجل : { أيحسبون أنما نُمدّهم به من مال وبنين } { نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } [ المؤمنون : 55 و56 ] ونحو ذلك ما يخبر أن ما يعطي إياهم يكون ذلك شرا لهم ، وما أعطى [ المؤمنين ]{[19222]} يكون خيرا لهم .

ولكن عندنا ليس هذا على الإطلاق والإرسال . ولكن ما كان توفيقا منه على الخيرات في نفسها فهو خير له{[19223]} /507-أ/ وما كان خذلانا فهو شر له ، وليس على الله حفظ الأصلح لهم على ما يقوله المعتزلة ، ولكنه يفعل بهم ما هو حكمة وعدل كما يفعل ما هو إحسان وفضل ، والله الموفّق .

قال القُتبيّ : { اجترحوا السيئات } أي اكتسبوها ، ومنه قيل لكلاب الصيد جوارح .


[19218]:ساقطة من الأصل وم.
[19219]:ساقطة من الأصل وم.
[19220]:من م، ساقطة من الأصل.
[19221]:في الأصل وم: كذلك أو يعفو.
[19222]:ساقطة من الأصل وم.
[19223]:أدرجت بعدها العبارة التالية في الأصل وم: أن ما يعطي إياهم يكون ذلك شرا لهم وما أعطى يكون خيرا لهم، ولعل ذلك سهو من الناسخ.