مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} (21)

ولما بين الله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه الذي تقدم ، بين الفرق بينهما من وجه آخر ، فقال : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } وفيه مباحث :

البحث الأول : { أم } كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفا على شيء آخر ، سواء كان ذلك المعطوف مذكورا أو مضمرا ، والتقدير هاهنا : أفيعلم المشركون هذا ، أم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين ؟

البحث الثاني : الاجتراح : الاكتساب ، ومنه الجوارح ، وفلان جارحة أهله ، أي كاسبهم ، قال تعالى : { ويعلم ما جرحتم بالنهار } .

البحث الثالث : قال الكلبي : نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم ، وفي ثلاثة من المشركين : عتبة وشيبة والوليد بن عتبة ، قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ، ولو كان ما تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة ، كما أنا أفضل حالا منكم في الدنيا ، فأنكر الله عليهم هذا الكلام ، وبين أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع مساويا لحال الكافر العاصي في درجات الثواب ، ومنازل السعادات .

واعلم أن لفظ { حسب } يستدعي مفعولين ( أحدهما ) الضمير المذكور في قوله { أن نجعلهم } ( والثاني ) الكاف في قوله { كالذين ءامنوا } والمعنى أحسب هؤلاء المجترحين أن نجعلهم أمثال الذين آمنوا ؟ ونظيره قوله تعالى : { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } وقوله { إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار } وقوله تعالى : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون } وقوله { أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } .

ثم قال تعالى : { سواء محياهم ومماتهم } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم { سواء } بالنصب ، والباقون بالرفع ، واختيار أبي عبيد النصب ، أما وجه القراءة بالرفع ، فهو أن قوله { محياهم ومماتهم } مبتدأ والجملة في حكم المفرد في محل النصب على البدل من المفعول الثاني لقوله { أم نجعل } وهو الكاف في قوله { كالذين ءامنوا } ونظيره قوله : ظننت زيدا أبوه منطلق ، وأما وجه القراءة بالنصب فقال صاحب «الكشاف » أجرى سواء مجرى مستويا ، فارتفع محياهم ومماتهم على الفاعلية وكان مفردا غير جملة ، ومن قرأ { ومماتهم } بالنصب جعل { محياهم ومماتهم } ظرفين كمقدم الحاج ، وخفوق النجم ، أي سواء في محياهم وفي مماتهم ، قال أبو علي من نصب سواء جعل المحيا والممات بدلا من الضمير المنصوب في نجعلهم فيصير التقدير أن نجعل محياهم ومماتهم سواء ، قال ويجوز أن نجعله حالا ويكون المفعول الثاني هو الكاف في قوله { كالذين } .

المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بقوله { محياهم ومماتهم } قال مجاهد عن ابن عباس يعني أحسبوا أن حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم ، كلا فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين ، وذلك لأن المؤمن ما دام يكون في الدنيا فإنه يكون وليه هو الله وأنصاره المؤمنون وحجة الله معه ، والكافر بالضد منه ، كما ذكره في قوله { وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض } وعند القرب إلى الموت ، فإن حال المؤمن ما ذكره في قوله تعالى : { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة } وحال الكافر ما ذكره في قوله : { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } وأما في القيامة فقال تعالى : { وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة } فهذا هو الإشارة إلى بيان وقوع التفاوت بين الحالتين ( والوجه الثاني ) في تأويل الآية أن يكون المعنى إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة ، وذلك لأن المؤمن والكافر قد يستوي محياهم في الصحة والرزق والكفاية بل قد يكون الكافر أرجح حالا من المؤمن ، وإنما يظهر الفرق بينهما في الممات ، ( والوجه الثالث ) في التأويل أن قوله { سواء محياهم ومماتهم } مستأنف على معنى أن محيا المسيئين ومماتهم سوء فكذلك محيا المحسنين ومماتهم ، أي كل يموت على حسب ما عاش عليه ، ثم إنه تعالى صرح بإنكار تلك التسوية فقال : { ساء ما يحكمون } وهو ظاهر .