ولما بين الله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه الذي تقدم ، بين الفرق بينهما من وجه آخر ، فقال : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } وفيه مباحث :
البحث الأول : { أم } كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفا على شيء آخر ، سواء كان ذلك المعطوف مذكورا أو مضمرا ، والتقدير هاهنا : أفيعلم المشركون هذا ، أم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين ؟
البحث الثاني : الاجتراح : الاكتساب ، ومنه الجوارح ، وفلان جارحة أهله ، أي كاسبهم ، قال تعالى : { ويعلم ما جرحتم بالنهار } .
البحث الثالث : قال الكلبي : نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم ، وفي ثلاثة من المشركين : عتبة وشيبة والوليد بن عتبة ، قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ، ولو كان ما تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة ، كما أنا أفضل حالا منكم في الدنيا ، فأنكر الله عليهم هذا الكلام ، وبين أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع مساويا لحال الكافر العاصي في درجات الثواب ، ومنازل السعادات .
واعلم أن لفظ { حسب } يستدعي مفعولين ( أحدهما ) الضمير المذكور في قوله { أن نجعلهم } ( والثاني ) الكاف في قوله { كالذين ءامنوا } والمعنى أحسب هؤلاء المجترحين أن نجعلهم أمثال الذين آمنوا ؟ ونظيره قوله تعالى : { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } وقوله { إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار } وقوله تعالى : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون } وقوله { أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } .
ثم قال تعالى : { سواء محياهم ومماتهم } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم { سواء } بالنصب ، والباقون بالرفع ، واختيار أبي عبيد النصب ، أما وجه القراءة بالرفع ، فهو أن قوله { محياهم ومماتهم } مبتدأ والجملة في حكم المفرد في محل النصب على البدل من المفعول الثاني لقوله { أم نجعل } وهو الكاف في قوله { كالذين ءامنوا } ونظيره قوله : ظننت زيدا أبوه منطلق ، وأما وجه القراءة بالنصب فقال صاحب «الكشاف » أجرى سواء مجرى مستويا ، فارتفع محياهم ومماتهم على الفاعلية وكان مفردا غير جملة ، ومن قرأ { ومماتهم } بالنصب جعل { محياهم ومماتهم } ظرفين كمقدم الحاج ، وخفوق النجم ، أي سواء في محياهم وفي مماتهم ، قال أبو علي من نصب سواء جعل المحيا والممات بدلا من الضمير المنصوب في نجعلهم فيصير التقدير أن نجعل محياهم ومماتهم سواء ، قال ويجوز أن نجعله حالا ويكون المفعول الثاني هو الكاف في قوله { كالذين } .
المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بقوله { محياهم ومماتهم } قال مجاهد عن ابن عباس يعني أحسبوا أن حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم ، كلا فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين ، وذلك لأن المؤمن ما دام يكون في الدنيا فإنه يكون وليه هو الله وأنصاره المؤمنون وحجة الله معه ، والكافر بالضد منه ، كما ذكره في قوله { وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض } وعند القرب إلى الموت ، فإن حال المؤمن ما ذكره في قوله تعالى : { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة } وحال الكافر ما ذكره في قوله : { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } وأما في القيامة فقال تعالى : { وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة } فهذا هو الإشارة إلى بيان وقوع التفاوت بين الحالتين ( والوجه الثاني ) في تأويل الآية أن يكون المعنى إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة ، وذلك لأن المؤمن والكافر قد يستوي محياهم في الصحة والرزق والكفاية بل قد يكون الكافر أرجح حالا من المؤمن ، وإنما يظهر الفرق بينهما في الممات ، ( والوجه الثالث ) في التأويل أن قوله { سواء محياهم ومماتهم } مستأنف على معنى أن محيا المسيئين ومماتهم سوء فكذلك محيا المحسنين ومماتهم ، أي كل يموت على حسب ما عاش عليه ، ثم إنه تعالى صرح بإنكار تلك التسوية فقال : { ساء ما يحكمون } وهو ظاهر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.