إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} (21)

{ أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات } استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ تباينِ حالَيْ المسيئينَ والمحسنين إثرَ تباينِ حالَيْ الظالمينَ والمتقينَ . وأَمْ منقطعةٌ وما فيها مِنْ مَعْنى بَلْ للانتقالِ من البيانِ الأولِ إلى الثَّانِي . والهمزةُ لإنكارِ الحُسبانِ لكنْ لا بطريقِ إنكارِ الوقوعِ ونفيهِ كَما في قولِه تعالَى : { أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار }[ سورة ص ، الآية 28 ] بل بطريقِ إنكارِ الواقعِ واستقباحِه والتوبيخِ عليه ، والاجتراحُ الاكتسابُ { أَن نجْعَلَهُمْ } أي نُصيَّرهُم في الحُكمِ والاعتبارِ وهُم على ما هُم عليهِ منْ مَسَاوِي الأحوالِ .

{ كالذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات } وهُم فيمَا هُم فيهِ من محاسنِ الأعمالِ ونعاملُهُم معاملتهم في الكرامةِ ورفعِ الدرجةِ . وقولُه تعالَى : { سَوَاء محياهم ومماتهم } أيْ محيَا الفريقينِ جميعاً ومماتُهم . حالٌ من الضميرِ في الظرفِ والموصولِ معاً لاشتمالِه على ضميريِهما على أنَّ السواءَ بمَعْنى المُستوي ، ومحياهُم ومماتُهم مرتفعانِ بهِ على الفاعليةِ . والمعَنْى أمْ حسبُوا أنْ نجعلَهم كائنينَ مثلَهمُ حالَ كونِ الكُلِّ مستوياً محياهُم ومماتُهم ، كلاَّ لا يستوونَ في شيءٍ منهُمَا ، فإنَّ هؤلاءِ في عزِّ الإيمانِ والطاعةِ وشرفِهما في المَحيا وفي رحمةِ الله تعالَى ورضوانِه في المماتِ ، وأولئكَ في ذُلِّ الكُفرِ والمَعَاصِي وهوانِهما في المَحيا وفي لعنةِ الله والعذابِ الخالدِ في المماتِ ، شتانَ بينهما . وقد قيلَ : المراد إنكارُ أنْ يستووا في المماتِ كما استَووا في الحياةِ ؛ لأن المسيئينَ والمحسنينَ مستوٍ محياهُم في الرزقِ والصحةِ وإنما يفترقونَ في المماتِ . وَقُرِئ محياهم ومماتَهم بالنصبِ على أنَّهما ظرفانِ كمقْدَمِ الحاجِّ ، وسواءً حالٌ على حالِه أي حالَ كونِهم مستوينَ في محياهُم ومماتِهم . وقد ذُكرَ في الآيةِ الكريمةِ وجوُهٌ أُخرُ من الإعرابِ والذي يليقُ بجزالةِ التنزيلِ هُو الأولُ فتدبرْ . وقُرِئ سواءٌ بالرفعِ على أنَّه خبرٌ ومحياهُم مبتدأٌ فقيلَ الجملةُ بدل من الكافِ وقيل : حالٌ وأيَّا ما كانَ فنسبةُ حسبانِ التَّساوي إليهم في ضمنِ الإنكارِ التوبيخيِّ مع أنَّهم بمعزلٍ منه جازمونَ بفضلِهم على المؤمنينَ للبمالغةِ في الإنكارِ والتشديدِ في التوبيخِ ، فإنَّ إنكارَ حسبانِ التَّساوِي والتوبيخِ عليه إنكارٌ لحسبانِ الجزمِ بالفضلِ وتوبيخٌ عليهِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه . { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } أي ساءَ حكمُهم هَذا أو بئسَ شيئاً حكموا به ذلكَ .