قوله : «أَمْ حَسِبَ » أم منقطعة فتقدر ببل والهمزة أو ببل وحدها ، أو بالهمزة وَحْدَها{[50649]} وتقدم تحقيق هذا .
قوله : «كَالَّذِينَ آمَنُوا » هو المفعول الثاني للجَعْل ، أي أن نَجْعَلَهُمْ كائنين كالذين آمنوا أي لا يحسبون ذلك{[50650]} . وَقَدْ تقدم في سورة الحج{[50651]} أنَّ الأخَوَيْنِ وحفصاً قرأوا هنا : سَوَاءً بالنصب والباقون بالرفع{[50652]} . وتقدم الوعد عليه بالكلام هنا فنقول : أما قراءة النصب ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن ينتصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهما : «كَالَّذِينَ آمَنُوا » ويكون المفعول الثاني للجعل «كالذين آمنوا » أي أحسبوا أنْ نَجْعَلَهُم مثلهم في حال استواء مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ ؟ ليس الأمر كذلك{[50653]} .
الثاني : أن يكون «سواءً » هو المفعول للجَعْل . و «كَالَّذِينَ » في محل نصب على الحال ، أي أن نجعلهم حال كونهم مِثْلَهم سواءً . وليس معناه بذاك{[50654]} .
الثالث : أن يكون «سواه » مفعولاً ثانياً «لحسب » . وهذا الوجه نحا إليه أبو البقاء{[50655]} .
قال شهاب الدين : وأظنه غلطاً ؛ لما سيظهر لك ، فإنه قال : ويقرأ بالنصب وفيه وجهان :
أحدهما : هو حال من الضمير في «الكاف » أي نجعلهم مثل المؤمنين في هذه الحال{[50656]} .
الثاني : أن يكون مفعولاً ثانياً لحسب والكاف حال ، وقد دخل استواء محياهم ومماتهم في الحِسْبان وعلى هذا الوجه { مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } مرفوعان ( بسواء } لأنه قد قَوِيَ{[50657]} باعتماده انتهى{[50658]} .
فقد صرح بأنه مفعول ثان للحسبان ، وهذا لا يصح ألبتّة ، لأن «حسب » وأخواتها إذا وقع بعدها «أَنَّ : المشددة و «أَنْ » المخففة أو الناصبة سَدَّت مسدَّ المفعولين ، وهنا قد وقع بعد الحسبان «أَنْ » الناصبة ، فهي سادّة مسدَّ المفعولين فمِنْ أين يكون «سواءَ » مفعولاً ثانياً لحسب ؟ !
فإن قلت : هذا الذي قلته رأي الجمهور ، سيبويه وغيره ، وأما غيرهم كالأخفش فيدَّعي أنها تسد مسدّ واحدٍ{[50659]} . وإذا تقرر هذا فقد يجوز أن أبا البقاء ذهب المذهب فأَعْرَبَ «أنْ نَجْعَلَهُمْ » مفعولاً أول ( ل «حَسِبَ{[50660]} » ) و«سَوَاءً » مفعولاً ثانياً .
فالجواب : أن الأخفش صرح بأن المفعول الثاني حينئذ يكون محذوفاً ، ولئن سلمنا أنه لا يحذف امتنع من وجه آخر وهو أنه قد رفع به ( مُحياهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ) لأنه بمعنى مستو كما تقدم ، ولا ضمير يرجع من مرفوعه إلى المفعول الأول بل رفع أجنبيًّا من المفعول الأول وهو نظير : حَسِبْتُ قِيَامَكَ مُسْتَوِياً ذهابك وعدمه{[50661]} .
ومن قرأ بالرفع فيحتمل قراءته وجهين :
أحدهما : أن يكون «سواء » خبراً{[50662]} مقدماً ، و «مَحْيَاهُم » مبتدأ مؤخراً{[50663]} ، ويكون «سواء » مبتدأ و «محياهم » خبره كذا أعربوه{[50664]} . وفيه نظر تقدم في سورة الحج{[50665]} ، وهو أنه نكرة لا مسوغ فيها وأنه متى اجتمع معرفة ونكرة جعلت النكرة خبراً لا مبتدأ{[50666]} .
أحدها : أنها استئنافية{[50667]} . والثاني : أنها تبدل من الكاف الواقعة مفعولاً ثانياً{[50668]} . قال الزمخشري : لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً فكانت في حكم المفرد ، ألا تراك لو قلت : أن نجعلهم سواءً محياهم ومماتهم كان سديداً ، كما تقول : ظَنَنْتُ زَيْداً أبوه مُنْطَلِق{[50669]} .
قال أبو حيان : وهذا أعني إبدال الجملة من المفرد أجازه ابن جني{[50670]} وابن مالك{[50671]} ومنعه ابن العِلْجِ{[50672]} ، ثم ذكر عنه كلاماً كثيراً في تقريره ذلك . ثم قال : «والذي يظهر أنه لا يجوز يعني ما جوزه الزمخشري قال : لأنها بمعنى التَّصْيِير ، ولا يجوز : صَيَّرْتُ زيداً أبوه قائمٌ ؛ لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات أو من وصف في الذات إلى وصفٍ فيها ، وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول صيرت المقدرة مفعولاً ثانياً ليس فيها انتقال مما ذكر فلا يجوز .
قال شهاب الدين : ولقائل أن يقول : بل فيها انتقال من وصف في الذات إلى وصف فيها ، لأن النحاة نصوا على جواز وقوع الحمل صفة وحالاً ، نحو : مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أبُوهُ قائِمٌ ، وجاء زيد أبو قائمٌ ، فالذي حكموا عليه بالوصفية والحالية يجوز أن يقع في حيِّز التصيير ؛ إذ لا فرق بين صفة وصفة من هذه الحيثية{[50673]} .
الثالث : أن تكون الجملة حالاً ( و ) التقدير : أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء مَحْيَاهُمْ وَمَماتِهِم ؟ ! ليسوا كذلك بل هم مقترفون{[50674]} . وهذا هو الظاهر عند أبي حيان . وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة داخلة في حيِّز الحسبان ، وإلى ذلك نحا ابن{[50675]} عطية فإنه قال : مقتضى هذا الكلام أن لفظ الآية خبر ، ويظهر أن قوله : سواء محياهم ومماتهم داخل في الحسبة المنكرة السيئة ، وهذا احتمال حسن ، والأول جيِّد انتهى{[50676]} . ولم يبين كيفية دخوله في الحسبان وكيفية أحد الوجهين الأخيرين إما البدل وإما الحالية كما عرفته . وقرأ الأعمش «سواءً » نصباً محياهُمْ ومَمَاتَهُمْ{[50677]} .
بالنصب أيضاً ، فأما سواء فمفعول ثان ، أو حال كما تقدم . وأما نصب محياهم ومماتهم ففيه وجهان :
أحدهما : أن يكونا ظرفي زمان ، وانتصبا على البدل من مفعول ( نجعلهم ) بدل اشتمال ويكون سواء على هذا هو المفعول الثاني ، والتقدير : أنْ نَجْعَلَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ ( سَوَاءً{[50678]} ) .
والثاني : أن ينتصبا على الظرف الزماني ، والعامل إما الجعل أو سواء ، والتقدير أن نجعلهم في هذين الوقتين سواء أو نجعلهم مُسْتَويَيْنِ في هذين الوقتين{[50679]} .
قال الزمخشري مُقرراً لهذه الوجه : ومن قرأ بالنصب جعل «مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ » ظرفين كمقدم الحاجِّ وخُفُوقَ النَّجم{[50680]} . قال أبو حيان : وتمثيله بخفوق النجم ليس بجيد ، لأن خفوق مصدر ليس على مَفْعَل فهو في الحقيقة على حذف مضاف أي وقت خُفُوقِ ( النَّجْم ) بخلاف ( محيا ) و ( ممات ) و ( مقدم ) فإنها موضوعة على الاشتراك بين ثلاثة معان المصدرية والزمانية والمكانية ، فإذا استعملت مصدراً كان ذلك بطريق الوضع ، لا على حذف مضاف كخُفُوق ، فإنه لا بد من حذف مضاف ، لكونه موضوعاً للمصدرية{[50681]} وهذا أمر قريب ، لأنه إنما أراد أنه وقع هذا اللفظ مراداً به الزمان . أما كونه بطريق الأصالة أو الفرعية فلا يضر ذلك . والضمير في «محياهم ومماتهم » يجوز أن يعود على القبيلين بمعنى أن مَحْيَا المؤمنين ومماتهم سواء عند الله في الكرامة ، ومحيا المجترحين ومماتهم سواء في الإهانة عنده{[50682]} . فَلَفَّ الكلام اتكالاً على ذهن السامع وفهمه . ويجوز أن يعود على المجترحين فقط أخبر أن حالهم في الزمانين سواء{[50683]} . وقال أبو البقاء : ويقرأ مَمَاتَهُمْ بالنصب أي محياهم ومماتهم . والعامل : نجعل أو سواء . وقيل : هو{[50684]} ظرف . قال شهاب الدين : هو القول الأول بعينه{[50685]} .
لما بين الله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه المتقدم بين الفرق بينهما من وجه آخر فقال : { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } ( و{[50686]} ) كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على شيء آخر سواء كان ذلك المعطوف مذكوراً أو مضمراً . والتقدير هنا : أفيعلم المشركون هنا أم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين . والاجتراح : الاكتساب أي اكتسبوا المعاصي والكفر ، ومنه الجوارح ، وفلان جارحة أهله ، أي كاسبهم . قال تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } [ الأنعام : 60 ] . وقال الكلبي : نزلت هذه الآية في عليِّ وحمزة ، وأبي عُبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنهم وفي ثلاثة من المشركين عُتْبَة ، وشيبةً ، والوليد بْنِ عُتْبَة قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء فلو كان ما تقولونه حقًّا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما كنا أفضل حالا منكم في الدنيا . فأنكر الله عليهم هذا الكلام ، وبين أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع مساوياً لحال الكافر العاصي في درجات الثواب ومنازل السَّعَادات{[50687]} . ثم قال : { سواءً محياهم ومماتُهُمْ } . قال مجاهد عن ابن عباس : معناه أحسبوا أن حياتَهُم ومماتهم كحياة المؤمنين ؟ ! كلا فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين ، فالمؤمن ما دام حياً في الدنيا فإنَّ وليَّه هو الله وأنصاره المؤمنون{[50688]} وحجة الله معه . والكافر بالضِّدِّ منه ، كما ذكره الله تعالى في قوله : «وإِنَّ الظَّالِمينَ بَعْضَهُمْ أَوْليَاءُ بَعْض » «واللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ » والمؤمنون تتوفاهم الملائكة طَيِّبين يقولون : سلام عليكم أدْخلوا الجَنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ ، وأما الكفار فتتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم .
وأما في القيامة فقال تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة } [ عبس : 38 - 42 ] وقيل : معنى الآية لا يستوون في الممات ، كما استووا في الحياة ، لأن المؤمن والكافر قد يستويان في الصحة والرزق والكفاية ، بل قد يكون الكافر أرجح حالاً من المؤمن ، وإنَّما يظهر الفرق بينهم في الممات . وقيل : إنَّ قوله { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } مستأنف والمعنى أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء ، وكذلك محيا الكفار ومماتهم سواء ، أي كل يموت على حسب ما عاش عليه . ثم إنه تعالى صرح بإنكار التسوية{[50689]} فقال : { ألا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي بئس ما يقضون . قال مسروق : قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تَمِيم الدَّاريِّ ، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يُصْبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد ( بها ) ويبكي { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات . . . } الآية{[50690]} .