فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} (21)

{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ } أم هي المنقطعة المقدرة ببل ، والهمزة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني ، والهمزة لإنكار الحسبان بطريق إنكار الواقع واستقباحه ، والتوبيخ عليه ، والاجتراح الاكتساب ، ومنه الجوارح ، وقد تقدم في المائدة ، والجملة مستأنفة سيقت لبيان تباين حالي المسيئين والمحسنين إثر بيان حالي الظالمين والمتقين ، وهو معنى قوله :

{ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ؟ أي نسوي بينهم مع اجتراحهم السيئات وبين أهل الحسنات ، قيل نزلت في قوم من المشركين ، وقيل المسيئون عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة ، والمحسنون علي وحمزة وعبيدة بن الحرث حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم والعموم أولى .

{ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } في دار الدنيا ، وفي الآخرة ؟ كلا لا يستوون في شيء منهما ، فإن حال أهل السعادة فيهما غير حال أهل الشقاوة ، فهؤلاء في عز الإيمان والطاعة وشرفهما في المحيا ، وفي رحمة الله تعالى ورضوانه في الممات ، وأولئك في ذل الكفر والمعاصي وهو أنهما في المحيا ، وفي لعنة الله والعذاب الخالد في الممات ، وشتان بينهما ، وقيل المراد إنكار أن يستووا في الممات ، كما استووا في الحياة .

قرأ الجمهور سواء بالرفع على أنه خبر مقدم ، والمبتدأ محياهم ومماتهم ، والمعنى إنكار حسبانهم أن محياهم ومماتهم سواء ، وقرئ بالنصب على أنه حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور ، في قوله : كالذين آمنوا ، أو على أنه مفعول ثان لحسب ، واختار قراءة النصب أبو عبيدة ، وقال : معناه نجعلهم سواء ، وقرئ محياهم ومماتهم بالنصب على معنى سواء في محياهم ومماتهم . ولما سقط الخافض انتصب .

{ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي ساء حكمهم هذا الذي حكموا به . وقال مجاهد في الآية : المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن ، والكافر في الدنيا والآخرة كافر ، وقال مسروق : قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تميم الداري ، ولقد رأيته قام ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد ، ويبكي { أم حسب الذين اجترحوا السيئات } الآية ، وعن الفضيل أنه بلغها فجعل يرددها ويبكي ويقول : يا فضيل ليت شعري من أي الفريقين أنت ؟ .