الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} (21)

ثم قال تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } ، أي : أيحسب الكفار بالله عز وجل المكتسبون{[62521]} الكبائر أن يكونوا كالمؤمنين بالله عز وجل المجتنبين الكبائر .

ويدل على أن المراد بالمكتسبين{[62522]} السيئات في هذه الآية الكفار قوله : ( كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ) . فذكر الإيمان مع العمل ، ولو كانوا مؤمنين لقال : كالذين عملوا{[62523]} الصالحات ولم يذكر الإيمان .

ثم قال : { سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } .

قال مجاهد معناه : إن المؤمن يموت على إيمانه ويبعث على إيمانه والكافر يموت على كفره ويبعث عليه{[62524]} . وقال أبو الدرداء : ( يبعث الناس على ما ماتوا عليه ){[62525]} .

هذا معنى قراءة من رفع ( سواء ){[62526]} فجعله{[62527]} مبتدأ ( ومحياهم ) خبر ، ومماتهم عطف على ( محياهم ){[62528]} .

وإنما حَسُنَ الرفع في ( سواء ) ( لأن الفعل ){[62529]} قد استوفى مفعوليه فارتفع ( سواء ) على الابتداء ، كما قيل ( سواء العاكف فيه والبادي ){[62530]} .

وإنما اختير الرفع في ( سواء ) لأنه اسم في معنى المصدر فلم يحسن جريه على الأول فارتفع بالابتداء إذ الفعل قد تعدى إلى مفعوليه .

ولو كان في موضع ( سواء ) مستو لحسن النصب لأنه يجري على الأول{[62531]} ، فينصب مع المعرفة على الحال وهذا هو الاختيار عند سيبويه وجميع النحويين .

ويجوز النصب عند سيبويه وغيره كما أجاز : مررت برجل سواء عليه الخير والشر ، فإذا نصبت على الحال ، إذ قبله معرفة{[62532]} .

فكما جاز أن يكون صفة للنكرة جاز أن يكون حالا للمعرفة وهو بعيد ، لأن الأسماء التي ليست بجارية على الفعل ، الرفع الاختيار فيها عند النحويين{[62533]} إذا رفعت ظاهرا بعدها{[62534]} .

وبالنصب قرأ حفص{[62535]} وحمزة والكسائي{[62536]} على الحال من الهاء{[62537]} والميم في ( نجعلهم ) .

وقرأ الأعمش { سواء محياهم ومماتهم } بالنصب في ذلك كله{[62538]} ينصب{[62539]} ( سوا ) على الحال ، وينصب{[62540]} ( محياهم ومماتهم ) على تقدير في محياهم ومماتهم كأنه يجعله ظرفا .

ويجوز أن يكون { محياهم ومماتهم } بدلا من الهاء والميم في { نجعلهم } فيصير المعنى : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعل محياهم ومماتهم سواء ){[62541]} ، أي كمحيى{[62542]} الذين آمنوا ومماتهم{[62543]} . والوقف على ( الصالحات ) حسن عند نافع{[62544]} وأبي عبيدة على قراءة من رفع .

وقال غيرهما : من نصب سواء وقف عليه . وهو بعيد لا وجه له ، لأن ( محياهم ) مرتفع ( بسواء ){[62545]} . والتمام عند الأخفش : ( ومماتهم ) وعند غيره ( يحكمون ){[62546]} .

ومعنى ( ساء ما يحكمون ) : ( بيس الحكم يحكمون إن حسبوا ذلك وظنوه .

و( ما ) في موضع رفع إن جعلتها{[62547]} معرفة . وفي موضع نصب على البيان إن جعلتها نكرة{[62548]} .

قال مجاهد في معنى الآية : محيى المسلمين ومماتهم ، كلاهما محمود ، ومحيى الكفار ومماتهم مذموم ، فلا يستويان{[62549]} .


[62521]:(ت): (المكتسبين).
[62522]:(ت): (المكتسبين).
[62523]:(ح): (آمنوا وعملوا).
[62524]:انظر تفسير مجاهد 2/591، وجامع البيان 25/89، وإعراب النحاس 4/146، والمحرر الوجيز 14/314، وجامع القرطبي 16/166.
[62525]:أخرجه الحاكم في مستدركه 2/452 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ورمز الذهبي في التلخيص إلى تخريجه من قبل مسلم 2/452. قلت: أخرجه مسلم في كتاب الجنة 51 ب 19 ح 83 ج 4/2206 كلهم بمعناه عن جابر بن عبد الله مرفوعا، وذكره النحاس في إعرابه 4/146 بلفظه عن أبي الدرداء موقوفا.
[62526]:(ت): (سوء).
[62527]:(ح): (يجعله).
[62528]:ما بين المعقوفتين نسخ مرتين في (ت). وانظر مشكل إعراب القرآن 2/662، ومعاني الأخفش 2/692، وإعراب النحاس 4/145، والبيان في غريب إعراب القرآن 2/356. وقد قرأ بالرفع: ابن كثير ونافع، وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر. انظر الكشف 2/268، وحجة القراءات 661، والسبعة 595، وغيث النفع 350، وإعراب النحاس 4/145.
[62529]:(ح): (لأنه جعل).
[62530]:الحج آية 23.
[62531]:(ح): (ما الأول).
[62532]:انظر البيان في غريب إعراب القرآن 2/365.
[62533]:(ح): (جميع النحويين).
[62534]:تعبير فيه ركة. والله أعلم.
[62535]:هو حفص بن عمر بن عبد العزيز الأزدي الدوري، أبو عمر، إمام القراءة في عصره، كان ثقة ثتتا ضابطا. توفي سنة 246 هـ. انظر البداية والنهاية 347، والنشر 1/134، والأعلام 2/264.
[62536]:انظر الكشف 2/268، وحجة القراءات 661، والسبعة 595، وإعراب النحاس 4/145، وغيث النفع 350.
[62537]:(ح): (أساء).
[62538]:انظر جامع القرطبي 16/165.
[62539]:(ت): (ينصب).
[62540]:(ت): (وينصب).
[62541]:(ح): (سواء كالذين آمنوا).
[62542]:في طرة (ت).
[62543]:انظر جامع القرطبي 16/166.
[62544]:هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي المدني: أبو رويم، أحد القراء السبعة انتهت إليه رئاسة الإقراء بالمدينة. توفي سنة 169 هـ. انظر حجة القراءات 51، وغاية النهاية 2/330 ت 3718، والنشر 1/112.
[62545]:(ح): (سواء).
[62546]:انظر المكتفى 517، ومنار الهدى 290، والمقصد 49.
[62547]:(ت): (جعلتها).
[62548]:انظر إعراب النحاس 4/147.
[62549]:انظر جامع البيان 25/89.