الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} (21)

قوله : { أَمْ حَسِبَ } : " أم " منقطعةٌ ، فَتُقَدَّر ب بل والهمزةِ ، أو ب بل وحدها ، أو بالهمزة وحدَها . وتقدم تحقيق هذا .

قوله : { كَالَّذِينَ آمَنُواْ } : هو المفعولُ الثاني للجَعْل أي : أَنْ نجعلَهم كائنين كالذين آمنوا أي : لا يَحْسَبُوْن ذلك ، وقد تَقَدَّمَ في سورة الحج : أنَّ الأخَوَيْن وحفصاً قرؤُوا هنا " سواءً " بالنصب ، والباقون بالرفع ، ووَعَدْتُ بالكلام عليه هنا ، فأقول وبالله التوفيق : أمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ تَنْتَصِبَ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ والمجرورِ وهما : " كالذين آمنوا " ، ويكونُ المفعولُ الثاني للجَعْل " كالذين آمنوا " أي : أحَسِبوا أَنْ نَجْعَلَهم مثلَهم في حالِ استواءِ مَحْياهم ومماتِهم ليس الأمرُ كذلك . الثاني : أَنْ يكونَ " سواءً " هو المفعولَ الثاني للجَعْل ، و " كالذين " في محلِّ نصبٍ على الحال أي : لن نجعلَهم حالَ كونِهم مثلَهم سواءً ، وليس معناه بذاك . الثالث : أَنْ يكونَ " سواءً " مفعولاً ثانياً ل " حَسِب " .

وهذا الوجهُ نحا إليه أبو البقاء ، وأظنُّه غَلَطاً لِما سَيَظْهَرُ لك فإنَّه قال : " ويُقْرأ بالنصب . وفيه وجهان ، أحدهما : هو حالٌ من الضميرِ في الكافِ أي : نجعلَهم مثلَ المؤمنين في هذه الحالِ . والثاني : أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً ل " حَسِب " والكافُ حالٌ ، وقد دَخَلَ استواءُ مَحْياهم وممَاتُهم في الحُسْبان ، وعلى هذا الوجهِ مَحْياهم ومماتُهم مرفوعان ب " سَواء " ؛ لأنَّه قد قَوِيَ باعتمادِه " انتهى . فقد صَرَّح بأنه مفعولٌ ثانٍ للحُسْبان . وهذا لا يَصِحُّ البتةَ ؛ لأنَّ " حَسِبَ " وأخواتِها إذا وَقَعَ بعدها " أنَّ " المشددةُ أو " أَنْ " المخففةُ أو الناصبةُ سَدَّتْ مَسَدَّ المفعولين ، وهنا قد وَقع بعد الحُسْبان " أنْ " الناصبةُ فهي سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ ، فَمِنْ أين يكونُ " سواءً " مفعولاً ثانياً ل حَسِب ؟

فإنْ قلتَ : هذا الذي قُلْتُه رأيُ الجمهورِ سيبويهِ وغيرِه ، وأمَّا غيرُهم كالأخفشِ فيدَّعي أنها تَسُدُّ مَسَدَّ واحدٍ . إذا تقرَّر هذا فقد يجوزُ أنَّ أبا البقاءِ ذَهَبَ هذا المذهبَ ، فأعرب " أَنْ نجعلَهم " مفعولاً أولَ و " سواءً " مفعولاً ثانياً . فالجواب : أنَّ الأخفشَ صَرَّحَ بأنَّ المفعولَ الثاني حينئذٍ يكونُ محذوفاً . ولَئِنْ سَلَّمْنا أنَّه لا يُحْذَفُ امتنع مِنْ وجهٍ آخرَ ، وهو أنه قد رفع به " محياهُم ومماتُهم " لأنه بمعنى مُسْتَوٍ كما تقدَّم ، ولا ضميرَ يَرْجِعُ مِنْ مرفوعِه إلى المفعولِ الأولِ ، بل رَفَعَ أجنبياً من المفعولِ الأولِ . وهو نظيرُ : " حَسِبْتُ قيامَك مُسْتوياً ذهابُك وعَدَمُه " .

ومَنْ قرأ بالرفع فتحتمل قراءتُه وجهَيْن ، أحدهما : أَنْ يكونَ " سواءٌ " خبراً مقدماً . و " مَحْياهم " مبتدأً مؤخراً ، ويكون " سواء " مبتدأً و " مَحْياهم " خبرَه . كذا أعربوه . وفيه نظرٌ تقدَّم في سورة الحج وهو : أنَّه نكرةٌ لا مُسَوِّغ فيها ، وأنه متى اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جَعَلْتَ النكرةَ خبراً لا مبتدأً . ثم في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها استئنافية . والثاني : أنها بدلٌ من الكافِ الواقعةِ مفعولاً ثانياً . قال الزمخشري : " لأنَّ الجملةَ تقع مفعولاً ثانياً فكانَتْ في حكمِ المفردِ . ألا تراكَ لو قُلْتَ : أن نجعلَهم سواءٌ مَحْياهم ومماتُهم ، كان سديداً ، كما تقول : ظننتُ زيداً أبوه منطلقٌ " . قال الشيخ : " وهذا - أَعْني إبدالَ الجملة من المفرد - أجازه ابنُ جني وابنُ مالك ، ومنعَه ابنُ العِلْجِ " ، ثم ذكر عنه كلاماً كثيراً في تقرير ذلك ثم قال : " والذي يَظْهَرُ أنه لا يجوزُ " ، يعني ما جَوَّزه الزمخشريُّ قال : " لأنَّها بمعنى التصييرِ ولا يجوزُ : " صَيَّرْتُ زيداً أبوه قائمٌ " لأنَّ التصييرَ انتقالٌ من ذاتٍ إلى ذاتٍ ، أو من وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها . وتلك الجملةُ الواقعةُ بعد مفعولِ " صَيَّرْت " المقدرةُ مفعولاً ثانياً ليس فيها انتقالٌ مما ذكرْنا فلا يجوز " . قلت : ولِقائلٍ أَنْ يقولَ : بل فيها انتقالٌ مِنْ وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها ؛ لأنَّ النحاة نَصُّوا على جوازِ وقوع الجملةِ صفةً وحالاً نحو : مررتُ برجلٍ أبوه قائمٌ ، وجاء زيدٌ أبوه قائم . فالذي حكموا عليه بالوصفيَّةِ والحاليةِ يجوزُ أَنْ يقعَ في حَيِّز التَّصْيير ؛ إذ لا فَرْقَ بين صفةٍ وصفةٍ من هذه الحيثيَّة .

الثالث : أن تكونَ الجملةُ حالاً ، التقدير : أم حَسِبَ الكفار أَنْ نُصَيِّرهم مثلَ المؤمنين في حالِ استواءِ محياهم ومماتِهم ، ليسوا كذلك بل هم مُفْترقون . وهذا هو الظاهر عند الشيخِ . وعلى الوجهين الأخيرين تكونُ الجملةُ داخلةً في حَيِّز الحُسْبانِ . وإلى ذلك نحا ابن عطية فإنه قال : " يَقْتضي هذا الكلامُ أنَّ لفظَ الآية خبرٌ ، ويظهر أنَّ قولَه : { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } داخلٌ في المَحْسَبَةِ المُنْكَرَةِ السيئةِ ، وهذا احتمالٌ حسن والأولُ جيدٌ " انتهى . ولم يبين كيفيةَ دخولِه في الحُسْبانِ ، وكيفيَّةُ أحدِ الوجهين الأخيرَيْن : إما البدلِ وإمَّا الحاليةِ كما عَرَفْتَه .

وقرأ الأعمشُ " سواءً " نصباً " مَحْياهم ومَماتَهم " بالنصب أيضاً . فأمَّا " سواءً " فمفعولٌ ثانٍ أو حالٌ كما تقدَّم . وأمَّا نصب " مَحْياهم ومماتَهم " ففيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونا ظَرْفَيْ زمانٍ ، وانتصبا على البدلِ مِنْ مفعولِ " نَجْعَلَهم " بدلِ اشتمال ، ويكون " سواءً " على هذا هو المفعولَ الثاني . والتقدير : أن نجعلَ محياهم ومماتَهم سواءً . والثاني : أَنْ ينتصِبا على الظرفِ الزمانيِّ . والعاملُ : إمَّا الجَعْلُ أو سواء . والتقدير : أَنْ نجعلَهم في هذَيْن الوقتَيْن سواءً ، أو نجعلَهم مُسْتَوِين في هذين الوقتين .

قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه : " ومَنْ قرأ بالنصبِ جَعَلَ " مَحْياهم ومماتَهم " ظَرْفَيْنِ كمَقْدَمِ الحاجِّ وخُفوقِ النجم " .

قال الشيخ : " وتمثيلُه بخُفوق النجم ليس بجيدٍ ؛ لأنَّ " خُفوقَ " مصدرٌ ليس على مَفْعَل فهو في الحقيقةِ على حَذْفِ مضافٍ أي : وقتَ خُفوقِ بخلاف مَحْيا ومَمات ومَقْدَم فإنها موضوعةٌ على الاشتراك بين ثلاثةِ معانٍ : المصدريةِ والزمانيةِ والمكانيةِ . فإذا اسْتُعْملت مصدراً كان ذلك بطريق الوَضْعِ لا على حَذْفِ مضافٍ كخُفوق ؛ فإنه لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ لكونِه موضوعاً للمصدرية " . وهذا أمرٌ قريبٌ ؛ لأنَّه إنما أراد أنه وَقَع هذا اللفظُ مُراداً به الزمانُ . أمَّا كونُه بطريق الأصالةِ أو الفرعيةِ فلا يَضُرُّ ذلك .

والضميرُ في " مَحْياهم ومماتُهم " يجوزُ أَنْ يعودَ على القَبِيْلَيْنِ بمعنى : أنَّ مَحْيا المؤمنين ومماتَهم سواءٌ عند الله في الكرامةِ ، ومَحْيا المجترحين ومماتَهم سواءٌ في الإِهانةِ عنده ، فَلَفَّ الكلام اتِّكالاً على ذِهْنِ السَّامع وفهمِه . ويجوزُ أَنْ يعودَ على المُجْترحين فقط . أَخْبَرَ أَنَّ حالَهم في الزمانَيْن سواءٌ .

قال أبو البقاء : " ويُقْرَأُ " مَماتَهم " بالنصب أي : في مَحْياهم ومماتَهم . والعاملُ " نَجْعل " أو سواء . وقيل : هو ظرفٌ " . قلت : قوله : " وقيل " هو القولُ الأولُ بعينِه .

قوله : { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } قد تقدَّم إعرابُه . وقال ابنُ عطيةَ هنا : " ما " مصدريةٌ أي : ساء الحكمُ حُكْمُهم .