ولما كان{[58118]} التقدير بعد هذا البيان الذي لم يدع لبساً في أمر الحساب بما حده من الملك الذي يوجب ما له-{[58119]} من العظمة والحكمة أن يحاسب عبيده لثواب المحسن وعقاب المسيء ، أعلم{[58120]} هؤلاء المخاطبون - لأنهم لا يعدون أن يكونوا من الناس أو من الذين يوقنون بهذه البصائر لما لهم من حسن الغرائز المعلية{[58121]} لهم عن حضيض الحيوان إلى أوج الإنسان أنا نفرق{[58122]} بين{[58123]} المسيئين الذين بعضهم أولياء بعض وبين المحسنين الذين نحن أولياؤهم ، عطف عليه سبحانه وتعالى قوله : { أم } قال الأصبهاني : قال الإمام : كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على آخر سواء كان المعطوف مذكوراً أو مضمراً - انتهى . وكان الأصل : حسبوا{[58124]} ، ولكنه عدل-{[58125]} عنه {[58126]}للتنبيه على أن ارتكاب{[58127]} السوء معم للبصيرة مضعف للعقل كما أفاده التعبير بالحسبان كما تقدم بيانه في البقرة فقال : { حسب الذين اجترحوا } أي فعلوا{[58128]} بغاية جهدهم ونزوع{[58129]} شهواتهم { السيئات أن نجعلهم } مع ما لنا من العظمة المانعة من الظلم المقتضية للحكمة { كالذين آمنوا وعملوا } تصديقاً لإقرارهم {[58130]}ظاهراً وباطناً وسراً وعلانية{[58131]} { الصالحات } بأن نتركهم بلا حساب للفصل بين المحسن والمسيء .
ولما كانت المماثلة مجملة ، بينها استئنافاً بقوله {[58132]}مقدماً ما{[58133]} هو عين المقصود من الجملة الأولى : { سواء } أي مستو استواء عظيماً { محياهم ومماتهم } أي حياتهم وموتهم وزمان ذلك ومكانه في الارتفاع والسفول واللذة والكدر وغير ذلك من الأعيان والمعاني{[58134]} . ولما كان هذا مما لا يرضاه أحد لمن تحت يده ولا لغيره ، قال معبراً بمجمع الذم : { ساء ما يحكمون * } أي بلغ حكمهم هذا في نفسه ولا سيما وهم بإصرارهم عليه في تجديد له-{[58135]} كل ساعة أقصى نهايات السوء ، فهو مما يتعجب منه ، لأنه لا يدري الحامل عليه ، وذلك أنهم نسبوا الحكيم الذي لا حكيم في الحقيقة غيره إلى ما لا يفعله أقل الناس فيمن تحت يده .
قوله تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون 21 وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون 22 أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون } .
{ أم } هي المنقطعة بمعنى بل ، والهمزة لإنكار الحسبان . و { اجترحوا } بمعنى اكتسبوا ، من الاجتراح وهو الاكتساب {[4186]} .
والمعنى : أم يظن هؤلاء المشركون الذين كذبوا نبيهم ، واتخذوا من دون الله اندادا ، واكتسبوا الآثام والمعاصي في هذه الدنيا – أن نجعلهم في الآخرة كالمؤمنين المتقين . أو أن نسوّي بين الظالمين الفجار ، والمتقين الأبرار فيكونوا في الآخرة سواء .
قوله : { سوآء محياهم ومماتهم } { سوآء } بالنصب ، على الحال من ضمير { نجعلهم } أي نجعلهم سواء . و { محياهم ومماتهم } مرفوع على الفاعلية ، وتقرأ ( سواء ) بالرفع ، على أنها خبر مقدم ، و { محياهم } مبتدأ مؤخر ، { ومماتهم } معطوف عليه{[4187]} .
وقد نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم ، وفي ثلاثة من المشركين هم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ، ولو كان ما تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة ، كما أننا أفضل حالا منكم في الدنيا . فأنكر الله عليهم هذا الكلام وبين أنه لا يستوي حال المؤمن المطيع وحال المشرك العاصي عند الله في الآخرة . فالمشركون فاسقون ضالون ، ظالمون لأنفسهم ، فهم صائرون إلى النار ، أما المؤمنون فهم مصدقون بالنبيين ، موقنون بيوم القيامة ، مذعنون لله بالطاعة والامتثال ، فإنما يجزون الجنة ورضوان ربهم . واختلفوا في المراد بقوله : { محياهم ومماتهم } فقال ابن عباس : يعني أحسبوا أن حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم ، كلا فإنهم يعيشون كافرين ، ويموتون كافرين . والمؤمنون يعيشون مؤمنين ، ويموتون مؤمنين ، ذلك لأن المؤمن ما دام في الدنيا فإنه يكون وليه هو الله ، وأنصاره المؤمنون . أما الكافر فهو خلاف ذلك . وعند الدنوّ من الموت فحال المؤمن كما ذكره الله { الذين تتوافهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة } أما حال الكافر فهو ما ذكره الله في قوله : { الذين تتوافهم الملائكة ظالمي أنفسهم } أما في الآخرة فقال الله في التمييز بين الصنفين { وجوه يومئذ مسفرة 38 ضاحكة مستبشرة 39 ووجوه يومئذ عليها غبرة 40 ترهقها قترة } وذلك يشير إلى التفاوت بين المؤمنين السعداء ، والظالمين الأشقياء . وقيل : المراد إنكار التسوية بين الفريقين في الممات كما استووا في الحياة ، وذلك لأن المؤمن والكافر قد يستوي محياهم في الصحة والرزق والكفاية بل ربما يكون الكافر أرجح حالا من المؤمن ، وإنما يظهر الفرق بينهما في الممات .
قوله : { سآء ما يحكمون } إن جعلت { ما } ، معرفة فهي في موضع رفع ، فاعل { سآء } وإن جعلت نكرة كانت في موضع نصب على التمييز{[4188]} وذلك إنكار من الله لهذه التسوية المزعومة ، أي بئس الحكم الذي ظنوا أنا نجعل الذين اكتسبوا السيئات والمؤمنين الذين عملوا الصالحات ، سواء محياهم ومماتهم ، أو ساء حكمهم الذي حكموا به . فأنّى للفريقين المتضادين المختلفين أن يستويا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.