الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ يَكُن شَيۡـٔٗا مَّذۡكُورًا} (1)

قوله : { هَلْ أَتَى } : في " هل " هذه وجهان ، أحدُهما : أنَّها على بابِها من الاستفهامِ المَحْضِ ، أي : هو مِمَّنْ يُسْأَلُ عنه لغرابتِه : أأتى عليه حينٌ من الدهرِ لَم يكنْ كذا ، فإنه يكونُ الجوابُ : أتى عليه ذلك ، وهو بالحالِ المذكورةِ ، كذا قاله الشيخ ، وهو مدخولٌ كما ستعرِفُه قريباً . وقال مكي في تقرير كونها على بابِها من الاستفهام . " والأحسنُ أَنْ تكونَ على بابِها للاستفهام الذي معناه التقريرُ ، وإنما هو تقرير لمَنْ أنكر البعثَ ، فلا بُدَّ أَنْ يقولَ : نعم قد مضى دهر طويل لا إنسانَ فيه . فيقال له : مَنْ أَحْدَثَه بعد أن لم يكُنْ وكَوَّنه بعد عَدَمِه كيف يمتنع عليه بَعْثُه وإحياؤه بعد مَوْتِه ؟ وهو معنى قولِه : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [ الواقعة : 62 ] ، أي : فهلاَّ تَذَكَّرون فتعلَمون أنَّ مَنْ أَنْشأ شيئاً بعد أن لم يكُنْ قادرٌ على إعادتِه بعد مَوْتِه و عَدَمِه " انتهى . فقد جَعَلها لاستفهامِ التقريرِ لا للاستفهامِ المَحْضِ ، وهذا هو الذي يجبُ أَنْ يكونَ ؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَرِدُ مِنَ الباري تعالى لاَّ على هذا النحوِ وما أشبهه . والثاني : أنها بمعنى " قد " قال الزمخشري : " هل بمعنى " قد " في الاستفهام خاصة . والأصل : أهل بدليلِ قولِه :

سائِلْ فوارسَ يَرْبوعٍ بشَدَّتِنا *** أهَلْ رَأَوْنا بوادي القُفِّ ذي الأَكَمِ

فالمعنى : أقد أتى ، على التقريرِ والتقريبِ جميعاً ، أي : أتى على الإِنسان قبلَ زمانٍ قريبٍ حينٌ من الدهرِ لم يكنْ فيه شيئاً مذكوراً ، أي : كان شيئاً مَنْسِيَّاً غير مذكور " انتهى . فقولُه : " على التقريرِ " يعني المفهومَ من الاستفهامِ ، وهو الذي فهم مكيٌّ مِنْ نفسِ " هل " . وقوله : " والتقريب " يعني المفهومَ مِنْ " قد " التي وقع مَوْقِعَها " هل " . ومعنى قولِه " في الاستفهام خاصةً " أنَّ " هل " لا تكونُ بمعنى " قد " إلاَّ ومعها استفهامٌ/ لفظاً كالبيتِ المتقدِّم ، أو تقديراً كالآية الكريمةِ . فلو قلتَ : " هل جاء زيدٌ " تعني : قد جاء ، من غيرِ استفهامٍ لم يَجُزْ ، وغيرُه جَعَلَها بمعنى " قد " من غيرِ هذا القيدِ . وبعضُهم لا يُجيزه البتةَ ، ويَتَأّوَّل البيتَ : على أنَّ مِمَّا جُمِعَ فيه بين حرفَيْ معنىً للتأكيدِ ، وحَسَّن ذلك اختلافُ لفظِهما كقولِ الشاعِرِ :

فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلنْنَي عَنْ بِما به *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فالباءُ بمعنى " عن " ، وهي مؤكِّدةٌ لها ، وإذا كانوا قد أَكَّدوا مع اتفاقِ اللفظِ كقولِه :

فَلا واللَّهِ لا يُلْفَى لِما بي *** ولا لِلِما بهمْ أبداً دَواءُ

فَلأَنْ يُؤَكِّدوا مع اختلافهِ أَحْرى . ولم يَذْكُرِ الزمخشريُّ غيرَ كونِها بمعنى " قد " ، وبقي على الزمخشريِّ قيدٌ آخر : وهو أَنْ يقولَ : في الجملِ الفعليةِ ؛ لأنَّه متى دخلَتْ " هل " على جملةٍ اسميةٍ استحالَ كونُها بمعنى " قد " لأنَّ " قد " مختصَّةٌ بالأفعالِ . وعندي أنَّ هذا لا يَرِدُ ؛ لأنَّه تقرَّر أنَّ " قد " لا تباشِرُ الأسماءَ .

قوله : { لَمْ يَكُن } في هذه الجملة وجهان ، أحدُهما : أنَّها في موضعِ نصبٍ على الحالِ من " الإِنسان " ، أي : هل أتى عليه حينٌ في هذه الحالةِ . والثاني : أنها في موضعِ رفع نعتاً ل " حينٌ " بعد نعتٍ . وعلى هذا فالعائدُ تقديرُه : حينٌ لم يكُنْ فيه شيئا مذكوراً ، والأول أظهرُ لفظاً ومعنىً .