{ إنا فتحنا لك فتحا مبينا } : أي قضينا لك بفتح مكة وغيرها عُنة بجهادك فتحا ظاهرا بيّنا .
قوله تعالى { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } الآيات هذه فاتحة سورة الفتح التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم " أُنزلت عليَّ سورة لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس ، " ثم قرأ { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } وذلك بعد صلح الحديبية سنة ست من الهجرة وفي منصرفه منه وهو في طريقه عائد مع أصحابه إلى المدين النبويّة . وقد خالط أصحابه حزن وكآبة حيث صدوا عن المسجد الحرام فعادوا ولم يؤدوا مناسك العمرة التي خرجوا لها ، وتمت أحداث جسام تحمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر عليه من أولى العزم غيره فجزاه الله وأصحابه وكافأهم على صبره وجهادهم بما تضمنته هذه الآيات إلى قوله { وكان ذلك عند الله فوزاً عظيما } فقوله تعالى { إنا فتحنا لك } يا رسولنا { فتحاً مبيناً } أي قضينا لك بفتح مكة وخيبر غيرهما ثمرة من ثمرات جهادك وصبرك وهو أمر واقع لا محالة وهذا الصلح بداية الفتح فاحمد ربك واشكره .
{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا }
هذا الفتح المذكور هو صلح الحديبية ، حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء معتمرا في قصة طويلة ، صار آخر أمرها أن صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ، وعلى أن يعتمر من العام المقبل ، وعلى أن من أراد أن يدخل في عهد قريش وحلفهم دخل ، ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده فعل .
وبسبب ذلك لما أمن الناس بعضهم بعضا ، اتسعت دائرة الدعوة لدين الله عز وجل ، وصار كل مؤمن بأي محل كان من تلك الأقطار ، يتمكن من ذلك ، وأمكن الحريص على الوقوف على حقيقة الإسلام ، فدخل الناس في تلك المدة في دين الله أفواجا ، فلذلك سماه الله فتحا ، ووصفه بأنه فتح مبين أي : ظاهر جلي ، وذلك لأن المقصود في فتح بلدان المشركين إعزاز دين الله ، وانتصار المسلمين ، وهذا حصل بذلك{[789]} الفتح ، ورتب الله على هذا الفتح عدة أمور ، فقال :
مدنية بإجماع ، وهي تسع وعشرون آية . ونزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن الحديبية . روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، قالا : نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها . وفي الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سأله فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، فقال عمر بن الخطاب : ثكلت أم عمر ، نَزَرْتَ{[1]} رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لم يجبك ، فقال عمر : فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن ، فما نَشِبْتُ{[2]} أن سمعت صارخا يصرخ بي ، فقلت : لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن ، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه ، فقال : [ لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس - ثم قرأ - " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " ] لفظ البخاري . وقال الترمذي : حديث حسن غريب صحيح . وفي صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال : لما نزلت : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا . ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما - إلى قوله - فوزا عظيما " مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة ، وقد نحر الهدي بالحديبية ، فقال : [ لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا ] . وقال عطاء عن ابن عباس : إن اليهود شتموا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما نزل قوله تعالى : " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " [ الأحقاف : 9 ] وقالوا : كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا . ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " . ونحوه قال مقاتل بن سليمان : لما نزل قوله تعالى : " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " {[3]} [ الأحقاف : 9 ] فرح المشركون والمنافقون وقالوا : كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به ولا بأصحابه ، فنزلت بعد ما رجع من الحديبية : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " أي قضينا لك قضاء . فنسخت هذه الآية تلك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ لقد أنزلت علي سورة ما يسرني بها حمر النعم ] . وقال المسعودي : بلغني أنه من قرأ سورة الفتح في أول ليلة من رمضان في صلاة التطوع حفظه الله ذلك العام .
اختلف في هذا الفتح ما هو ؟ ففي البخاري حدثني محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت قتادة عن أنس " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " قال : الحديبية . وقال جابر : ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية . وقال الفراء{[13974]} : تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنا نعد مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة{[13975]} ، والحديبية بئر . وقال الضحاك : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " بغير قتال . وكان الصلح من الفتح . وقال مجاهد : هو منحره بالحديبية وحلقه رأسه . وقال : كان فتح الحديبية آية عظيمة ، نزح ماؤها فمج فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه . وقال موسى بن عقبة : قال رجل عند منصرفهم من الحديبية : ما هذا بفتح ، لقد صدونا عن البيت . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ويسألكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا ] . وقال الشعبي في قوله تعالى : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " قال : هو فتح الحديبية ، لقد أصاب بها ما لم يصب في غزوة ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبويع بيعة الرضوان ، وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدي محله ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس . وقال الزهري : لقد كان الحديبية أعظم الفتوح ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة ، فلما وقع الصلح مشى الناس بعضهم في بعض وعلموا وسمعوا عن الله ، فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه ، فما مضت تلك السنتان إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف . وقال مجاهد أيضا والعوفي : هو فتح خبير . والأول أكثر ، وخيبر إنما كانت وعدا وعدوه ، على ما يأتي بيانه في قوله تعالى : " سيقول المخلفون إذا انطلقتم " {[13976]} [ الفتح : 10 ] وقوله : " وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه " {[13977]} [ الفتح : 20 ] . وقال مجمع بن جارية - وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن - : شهدنا الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر ، فقال بعض الناس لبعض : ما بال الناس ؟ قالوا : أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم . قال : فخرجنا نُوجِفُ{[13978]} فوجدنا نبي الله صلى الله عليه وسلم عند كراع الغميم{[13979]} ، فلما اجتمع الناس قرأ النبي صلى الله عليه وسلم " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " فقال عمر بن الخطاب : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : [ نعم ، والذي نفسي بيده إنه لفتح ] . فقسمت خيبر على أهل الحديبية ، لم يدخل أحد إلا من شهد الحديبية . وقيل : إن قوله تعالى : " فتحا " يدل على أن مكة فتحت عنوة{[13980]} ؛ لأن اسم الفتح لا يقع مطلقا إلا على ما فتح عنوة . هذا هو حقيقة الاسم . وقد يقال : فتح البلد صلحا ، فلا يفهم الصلح إلا بأن يقرن بالفتح ، فصار الفتح في الصلح مجازا . والأخبار دالة على أنها فتحت عنوة ، وقد مضى القول فيها{[13981]} ، ويأتي .
سورة الفتح{[1]}
مقصودها مدلول اسمها الذي يعم فتح مكة وما تقدمه من صلح الحديبية وفتح خيبر ونحوهما ، وما وقع تصديق الخبر به من غلب الروم على أهل فارس وما تفرع من فتح مكة المشرفة من إسلام أهل جزيرة العرب وقتال أهل الردة وفتوح جميع البلاد الذي يجمعه كله إظهار الدين على الدين كله ، وهذا كله في غاية الظهور بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها في مواضع منها { لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق } الآية وانتهاؤها { ليظهر على الدين كله } { محمد رسول الله } إلى قوله { ليغيظ بهم الكفار } أي بالفتح الأعظم وما دونه من{[2]} الفتوحات { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة- كما كان في أولها للرسول صلى الله عليه وسلم-[ و-{[3]} ] أجرا عظيما كذلك{[4]} {[5]}بسائر الفتوحات وما حوت من الغنائم للثواب الجزيل على ذلك في دار الجزاء{[6]} { بسم الله } {[7]}الملك الأعظم{[8]} المحيط بكل شيء قدرة وعلما { الرحمن } الذي عم المكلفين بنعمة الوعد والوعيد { الرحيم } الذي اختص أهل حزبه لإقامة دينه الحق فأظهرهم على سائر العبيد .
لما{[60029]} كانت تلك {[60030]}سورة الجهاد{[60031]} وكانت هذه سورة الفتح بشارة للمجاهدين من أهل هذا الدين بالفوز و{[60032]}النصر والظفر{[60033]} على كل من كفر ، وهذا كما سيأتي{[60034]} من إيلاء سورة النصر لسورة الكافرون ، فأخبرت القتال عن{[60035]} الكافرين بإبطال الأعمال والتدمير وإهلاكهم بالتقال ، وإفساد جميع الأحوال ، وعن الذين آمنوا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالهداية وإصلاح البال ، وختمها بالتحريض على مجاهدتهم بعد أن ضمن لمن نصره منهم النصر وتثبيت الأقدام ، وهدد من أعرض باستبدال غيره به ، وأن ذلك البدل لا يتولى عن العدو ولا ينكل عنه ، فكان ذلك محتماً لسفول الكفر وعلو الإيمان ، وذلك {[60036]}بعينه هو{[60037]} الفتح المبين ، فافتتح هذه بقوله على طريق النتيجة لذلك بقوله مؤكداً إعلاماً بأنه لا بد منه وأنه-{[60038]} مما ينبغي أن يؤكد لابتهاج النفوس الفاضلة به ، وتكذيب من في قلبه مرض{[60039]} وهم أغلب الناس في ذلك الوقت . { إنا } أي بما لنا من العظمة التي لا تثبت لها الجبال { فتحنا } أي أوقعنا الفتح المناسب لعظمتنا لكل متعلق بإتقان{[60040]} الأسباب المنتجة له من غير شك ، ولذلك عبر عنه بالماضي .
ولما كانت منفعة ذلك له صلى الله عليه وسلم لأن إعلاء كلمة الله يكون به فيعليه ويمتلىء الأرض من أمنه ، فلا يعمل منهم أحد حسنة إلا كان له مثل أجرها ويكونون على قصر زمنهم ثلثي أهل الجنة ، فيكون ذلك شرفاً له - إلى غير ذلك الأسرار ، التي يعيى دون أيسرها الكفار ، قال : { لك } أي بصلح الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة التي نزلت هذه السورة في شأنه ، يصحبان في الرجوع منه إلى المدينة المشرفة{[60041]} ، قال الأزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فرأوا ما لا أعدل منه ولا أحسن ، فاستولى الإسلام على قلوبهم وتمكن منهم فأسلم منهم-{[60042]} في ثلاث سنين خلق كثير ، وكذا كان من الفتح تقوية أمره صلى الله عليه وسلم بالتصديق فيما أنزل {[60043]}عليه من سورة من غلبهم على أهل فارس في رواية من قال : إنه كان في زمن الحديبية ، ثم زاده تأكيداً بقوله : { فتحاً } وزاد في إعظامه بقوله : { مبيناً * } أي لا لبس فيه على أحد ، بل يعلم كل ذي عقل به أنك ظاهر على جميع أهل الأرض لأنك كنت وحدك ، وكان عند أهل{[60044]} الكفر أنك في أيديهم ، وأن أمرك لا يعدو فمك ، فتبعك ناس ضعفاء فعذبوهم وكانوا{[60045]} معهم في أسوأ الأحوال ، وتقرر ذلك في إذهانهم مدداً طوالاً{[60046]} ثلاث عشرة سنة ، ثم انقذ الله أتباعك منهم بالهجرة إلى النجاشي رحمه الله تعالى أولاً ، وإلى المدينة الشريفة ثانياً ، وهم مطمئنون بأنك أنت - وأنت رأسهم - لا ينتظم لهم{[60047]} بدونك أمر ، ولا يحصل لكسرهم{[60048]} ما لم تكن معهم جبر ، بأنك في قبضتهم لا خلاص لك أبداً منهم ولا انفكاك من بلدتهم ، فاستخرجك الله من عندهم بعد أن حماك على خلاف القياس وأنت بينهم من أن يقتلوك ، مع اجتهادهم في ذلك واستفراغهم قواهم في أذاك{[60049]} ، ثم بذلوا جهدهم في منعك من الهجرة فما قدروا ، ثم في-{[60050]} ردك فما أطاقوا ولا فازوا ولا ظفروا .
بل غلبوا وقهروا ، ثم أيدك بأنصار أبرار أخيار فكنتم على قلتكم{[60051]} كالليوث الكواسر والبحار الزواخر ، ما ملتم على جهة إلا غمرتموها ، وفزتم بالنصف {[60052]}من أربابها{[60053]} قتلتموها {[60054]}أو أسرتموها{[60055]} ولم تزالوا تزدادون وتقوون ، وهم ينقصون ويضعفون ، حتى أتيتموهم{[60056]} في بلادهم التي هم قاطعون بأنهم ملوكها ، يتعذر على غيرهم غلبهم عليها بل سلوكها{[60057]} ، فما دافعوكم عن الدخول عليهم إلا بالراح ، وسألوكم في{[60058]} وضع الحرب للدعة والإصلاح ، فقد ظهرت أعلام الفتح أتم ظهور ، وعلم أرباب القلوب أنه لا بد أن تكون في امتطائكم{[60059]} الذرى وسموكم إلى رتب المعالي أمور وأيّ أمور ، وروى الإمام أحمد{[60060]} عن-{[60061]} مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه قال : " شهدنا الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرفنا منها إذا{[60062]} الناس يهزون الأباعر فقال بعضهم : ما بال الناس ؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فخرجنا نوجف{[60063]} ، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته عند كراع-{[60064]} الغميم ، فلما اجتمع عليه{[60065]} الناس قرأ { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } فقال عمر رضي الله عنه : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : نعم ، والذي نفسي بيده " .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : ارتباط هذه السورة بالتي قبلها واضح من جهات - وقد يغمض بعضها - منها أن سورة القتال لما أمروا فيها بقتال عدوهم في قوله تعالى { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } الآية ، وأشعروا{[60066]} بالمعونة عند وقوع الصدق في قوله { إن تنصروا الله ينصركم } استدعى ذلك تشوف النفوس إلى حال العاقبة فعرفوا ذلك في هذه السورة فقال تعالى { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } - الآيات ، فعرف تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بعظيم صنعه له ، وأتبع ذلك بشارة المؤمنين العامة فقال { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } - الآيات{[60067]} ، والتحمت إلى التعريف بحال من نكث من مبايعته صلى الله عليه وسلم ، وحكم المخلفين من الأعراب ، والحض على الجهاد ، وبيان حال ذوي الأعذار ، وعظيم نعمته سبحانه على أهل بيعته { لقد رضي الله عن المؤمنين } وأثابهم الفتح وأخذ المغانم{[60068]} وبشارتهم بفتح مكة { لتدخلن المسجد الحرام } إلى ما ذكر سبحانه من عظيم نعمته عليهم وذكرهم في التوراة والإنجيل ما تضمنت هذه السورة الكريمة ، ووجه آخر و-{[60069]}هو أنه لما قال الله تعالى في آخر سورة القتال { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم } كان هذا إجمالاً في عظيم ما منحهم وجليل ما أعطاهم ، فتضمنت سورة محمد تفسير هذا الإجمال وبسطه ، وهذا يستدعي من بسط الكلام ما لم تعتمده{[60070]} في هذا التعليق ، وهو بعد مفهوم مما سبق من الإشارات في الوجه الأول ، ووجه آخر مما يغمض وهو أن قوله تعالى { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم{[60071]} ثم لا يكونوا أمثالكم } إشارة إلى من{[60072]} يدخل في ملة الإسلام من الفرس وغيرهم عند تولي العرب ، وقد أشار أيضاً إلى هذا قوله تعالى
( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه }[ المائدة : 54 ] وأشار إلى ذلك عليه الصلاة والسلام : " ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا " - وعقد السبابة بالإبهام ، أشار عليه الصلاة والسلام {[60073]}إلى تولي العرب واستيلاء غيرهم الواقع في الآيتين ، وإنما أشار عليه الصلاة والسلام{[60074]} {[60075]}بقوله " اليوم{[60076]} " إلى التقديم والتأخير ، وفرغ هذا الأمر إلى{[60077]} أيام أبي جعفر المنصور ، فغلبت {[60078]}الفرس والأكراد{[60079]} وأهل الصين وصين الصين - وهو ما يلي يأجوج ومأجوج - وكان فتحاً وعزاً وظهوراً لكلمة الإسلام ، و{[60080]}غلب هؤلاء في الخطط والتدبير{[60081]} الإماري{[60082]} وسادوا غيرهم ، ولهذا جعل صلى الله عليه وسلم مجيئهم فتحاً فقال : " فتح اليوم " ولو أراد{[60083]} غير هذا لم يعبر بفتح ، ألا ترى قول عمر لحذيفة رضي الله عنهما في حديث الفتن حين قال{[60084]} له " إن بينك وبينها {[60085]}باباً مغلقاً{[60086]} " فقال عمر : أيفتح ذلك{[60087]} الباب أم يكسر ؟ فقال : بل يكسر . ففرق بين الفتح والكسر ، وإنما أشار إلى قتل عمر رضي الله عنه ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام " فتح " وقال : " من ردم يأجوج ومأجوج " وأراد من نحوهم وجهتهم وأقاليمهم ، لأن الفرس ومن أتى معهم هم أهل الجهات التي تلي الردم ، فعلى هذا يكون قوله{[60088]} تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم{[60089]} } إشارة إلى غلبة من ذكرنا وانتشارهم في الولايات{[60090]} والخطط الدينية والمناصب العلمية . ولما كان هذا قبل أن يوضح أمره يوهم نقصاً وخطأ ، بين أنه تجديد فتح وإعزاز منه تعالى لكلمة الإسلام ، فقال تعالى : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } الآيات ، ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في تلخيض التلخيض علماء المالكية مشيراً إلى تفاوت درجاتهم ثم قال : وأمضاهم في النظر عزيمة وأقواهم فيه شكيمة أهل خراسان : العجم أنساباً وبلداناً ، والعرب عقائد وإيماناً ، الذين ينجز فيهم وعد الصادق المصدوق ، وملكهم الله مقاليد التحقيق حين أعرضت العرب عن العلوم وتولت عنها ، وأقبلت على الدنيا واستوثقت{[60091]} منها ، " قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ! من هؤلاء الذين قال الله { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } فأشار عليه الصلاة والسلام إلى سلمان وقال : لو كان الإيمان في الثريا لناله رجال من هؤلاء "