تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

يقول تعالى منكرا على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين ، واختلف في سبب ذلك ، فقال الإمام أحمد :

حدثنا بَهْز ، حدثنا شعبة ، قال عدي بن ثابت : أخبرني عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحُد ، فرجع ناس خرجوا معه ، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم . وفرقة تقول : لا{[7969]} فأنزل الله : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها طَيْبة ، وإنها تنفي الخَبَث كما تنفي النار خبث الفضة " .

أخرجاه في الصحيحين ، من حديث شعبة{[7970]} .

وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار في وقعة أحد أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش ، رجع بثلاثمائة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة .

وقال العوفي ، عن ابن عباس : نزلت في قوم كانوا بمكة ، قد تكلموا بالإسلام ، كانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون{[7971]} حاجة لهم ، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس ، وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم . وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله ! أو كما قالوا : أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به ؟ أمِنْ أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم . فكانوا كذلك فئتين ، والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين{[7972]} عن شيء فأنزل الله : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ }

رواه ابن أبي حاتم ، وقد رُوي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا .

وقال زيد بن أسلم ، عن ابنٍ لسعد بن معاذ : أنها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد الله بن أبيّ ، حين استعذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر في قضية الإفك .

وهذا غريب ، وقيل غير ذلك .

وقوله : { وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } أي : ردهم وأوقعهم في الخطأ .

قال ابن عباس : { أَرْكَسَهُمْ } أي : أوقعهم . وقال قتادة : أهلكهم . وقال السدي : أضلهم .

وقوله : { بِمَا كَسَبُوا } أي : بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل .

{ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا } أي : لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه .


[7969]:في د: "غير ذلك".
[7970]:المسند (5/184) وصحيح البخاري برقم (1884، 4050) وصحيح مسلم برقم (1384).
[7971]:في د: "يريدون".
[7972]:في ر: "منهم".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

{ فما لكم في المنافقين } فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين . { فئتين } أي فرقتين ولم تتفقوا على كفرهم ، وذلك أن ناسا منهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة ، فلما خرجوا لم يزالوا رحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين ، فاختلف المسلمون في إسلامهم . وقيل نزلت في المتخلفين يوم أحد ، أو في قوم هاجروا ثم رجعوا معتلين باجتواء المدينة والاشتياق إلى الوطن ، أو قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة و{ فئتين } حال عاملها لكم كقولك : ما لك قائما . و{ في المنافقين } حال من { فئتين } . أي متفرقتين فيهم ، أو من الضمير أي فما لكم تفترقون فيهم ، ومعنى الافتراق مستفاد من { فئتين } . والله أركسهم بما كسبوا } ردهم إلى حكم الكفرة ، أو نكسهم بأن صيرهم للنار . وأصل الركس رد الشيء مقلوبا . { أتريدون أن تهدوا من أضل الله } أن تجعلوه من المهتدين . { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } إلى الهدى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

وقوله : { فما لكم في المنافقين } الآية . الخطاب للمؤمنين ، وهذا ظاهره استفهام ، والمقصد منه التوبيخ ، واختلف المتأولون فيمن المراد ب { المنافقين } ؟ فقال ابن عباس : هم قوم كانوا بمكة فكتبوا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، أنهم قد آمنوا وتركوا الهجرة ، وأقاموا بين أظهر الكفار ثم سافر قوم منهم إلى الشام فأعطتهم قريش بضاعات وقالوا لهم : إنكم لا تخافون أصحاب محمد ، لأنكم تخدعونهم بإظهار الإيمان لهم ، فاتصل خبرهم بالمدينة ، فاختلف المؤمنون فيهم ، فقالت طائفة : نخرج إلى أعداء الله المنافقين ، وقالت طائفة : بل هم مؤمنون لا سبيل لنا إليهم ، فنزلت الآية ، وقال مجاهد : بل نزلت في قوم جاؤوا إلى المدينة من مكة ، فأظهروا الإسلام ، ثم قالوا : لنا بضاعات بمكة فانصرفوا إليها وأبطنوا الكفر ، فاختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذان القولان يعضدهما ما في آخر الآية من قوله تعالى { حتى يهاجروا } [ النساء : 89 ] ، وقال زيد بن ثابت : نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، لأن أصحاب النبي عليه اسلام اختلفوا فيهم ، وقال السدي : بل نزلت في قوم منافقين كانوا بالمدينة فطلبوا الخروج عنه نفاقاً كفراً ، وقالوا : إنّا اجتويناها ، وقال ابن زيد : إنما نزلت في المنافقين الذين تكلموا في حديث الإفك ، لأن الصحابة اختلفوا فيهم .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : الاختلاف في هذه النازلة كان بين أسيد بن حضير وسعد بن عبادة{[4180]} ، حسبما وقع في البخاري ، وكان لكل واحد أتباع من المؤمنين على قوله ، وكل من قال في هذه الآية : إنها فيمن كان بالمدينة يرد عليه قوله :

{ حتى يهاجروا } [ النساء : 89 ] لكنهم يخرجون المهاجرة إلى هجر ما نهى الله عنه ، وترك الخلاف والنفاق ، كما قال عليه السلام ، ( والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ){[4181]} .

و{ فئتين } معناه فرقتين ، ونصبهما على الحال كما تقول : ما لك قائماً ، هذا مذهب البصريين ، وقال الكوفيون : نصبه بما يتضمنه ما لكم من الفعل ، والتقدير ما لكم كنتم { فئتين } أو صرتم ، وهذا الفعل المقدر ينصب عندهم النكرة والمعرفة ، كما نقول ما لك الشاتم لزيد ، وخطأ هذا القول الزجّاج ، لأن المعرفة لا تكون حالاً ، و { أركسهم } معناه رجعهم في كفرهم وضلالهم ، «والركس » الرجيع ، ومنه حديث النبي عليه السلام في الاستنجاء ، «فأخذ الحجرين وألقى الروثة ، وقال إنها ركس »{[4182]} ومنه قول أمية بن أبي الصلت : [ البسيط ]

فَأَرْكسُوا في حَميمِ النَّّار إنَّهُم كانوا عصاة وقالوا الافك والزورا

وحكى النضر بن شميل والكسائي ، «ركس وأركس » بمعنى واحد ، أي رجعهم ، ومن قال من المتأولين : أهلكهم أو أضلهم فإنما هي بالمعنى ، لأن ذلك كله يتضمنه ردهم إلى الكفر{[4183]} .

و { بما كسبوا } معناه بما اجترحوا من الكفر والنفاق ، أي إن كفرهم بخلق من الله واختراع وبتكسب منهم ، وقوله : { أتريدون } استفهام معناه الإبعاد واليأس مما أرادوه ، والمعنى أتريدون أيها المؤمنون القائلون : بأن أولئك المنافقين مؤمنون أن تسموا بالهدى من قد يسره الله للضلالة وحتمها عليه ، ثم أخبر تعالى أنه من يضلل فلا سبيل إلى إصلاحه ولا إلى إرشاده .


[4180]:- أسيد بن حضير: قال عنه في "الأعلام": أسيد بن الحضير بن سماك الأوسي، صحابي، كان شريفا في الجاهلية والإسلام، يعد من عقلاء العرب، ويسمى الكامل، شهد العقبة الثانية، وكان أحد النقباء الاثني عشر، شهد المشاهد كلها، توفي بالمدينة، وفي الحديث: "نعم الرجل أسيد بن الحضير". له 18 حديثا- وأما سعد بن عبادة فهو صحابي، كان سيد الخزرج، وأحد الأشراف في الجاهلية، وكان يلقب أيضا بالكامل، وشهد العقبة، وكان أحد النقباء الاثني عشر، وشهد أحد والخندق وغيرهما، وطمع في الخلافة، وكره المقام مع عمر بعد وفاة أبي بكر فتحول إلى الشام، ومات بحوران. (طبقات ابن سعد، والإصابة، وتهذيب ابن عساكر).
[4181]:- روى البخاري، وأبو داود، والنسائي- عن ابن عمرو: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)- وصححه في الجامع الصغير.
[4182]:- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاث أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجد، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الورثة، وقال: هذا ركس). رواه أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وزاد فيه أحمد في رواية له: (ائتني بحجر). نيل الأوطار 1/120
[4183]:- والذين قالوا: إن أركسهم معناها: أضلهم، استشهدوا بقول الشاعر: وأركستني عن طريق الهدى وصيرتني مثلا للعدا