تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عمر أنَّه قال : لما نزل تحريم الخمر قال : اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا . فنزلت هذه الآية التي في البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ]{[3785]} } فدُعي عمر فقرئتْ عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا . فنزلت الآية التي في النساء : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } [ النساء : 43 ] ، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى : ألا يقربنّ الصلاة سكرانُ . فدُعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا . فنزلت الآية التي في المائدة . فدعي عمر ، فقرئت عليه ، فلما بلغ : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] ؟ قال عمر : انتهينا ، انتهينا{[3786]} .

وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق{[3787]} . وكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مَرْدويه من طريق الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، واسمه عمرو بن شُرَحْبِيل الهَمْداني الكوفي ، عن عمر . وليس له عنه سواه ، لكن قال أبو زُرْعَة : لم يسمع منه . والله أعلم . وقال علي بن المديني : هذا إسناد صالح وصحّحه الترمذي . وزاد ابن أبي حاتم - بعد قوله : انتهينا - : إنها تذهب المال وتذهب العقل . وسيأتي هذا الحديث أيضا مع ما رواه أحمد من طريق أبي هريرة أيضًا{[3788]} - عند قوله في سورة المائدة : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ المائدة : 90 ] الآيات .

فقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } أما الخمر فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : إنه كل ما خامر العقل . كما سيأتي بيانُه في سورة المائدة ، وكذا الميسر ، وهو القمار .

وقوله : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أما إثمهما فهو في الدين ، وأما المنافع فدنيوية ، من حيث إن{[3789]} فيها نفع البدن ، وتهضيم الطعام ، وإخراجَ الفضلات ، وتشحيذ بعض الأذهان ، ولذّة الشدّة المطربة التي فيها ، كما قال حسان بن ثابت في جاهليته :

ونشربها فتتركنا ملوكًا *** وأسْدًا لا يُنَهْنهها اللقاءُ

وكذا بيعها والانتفاع بثمنها . وما كان يُقَمِّشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله . ولكن هذه المصالح لا توازي مضرّته ومفسدته الراجحة ، لتعلقها بالعقل والدين ، ولهذا قال : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } ؛ ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات ، ولم تكن مصرحة بل معرضة ؛ ولهذا قال عمر ، رضي الله عنه ، لما قرئت عليه : اللهم بَين لنا في الخمر بيانًا شافيًا ، حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [ المائدة : 90 ، 91 ] وسيأتي الكلام على ذلك في سورة المائدة إن شاء الله ، وبه الثقة .

قال ابن عمر ، والشعبي ، ومجاهد ، وقتادة ، والرّبيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذه{[3790]} أوّل آية نزلت في الخمر : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ]{[3791]} } ثم نزلت الآية التي في سورة النساء ، ثم التي في المائدة ، فحرمت الخمر{[3792]} .

وقوله : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } قُرئ بالنصب وبالرفع {[3793]} وكلاهما حسن متَّجَه قريب .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبان ، حدثنا يحيى أنه بلغه : أنّ معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله ، إن لنا أرقاء وأهلين [ فما ننفق ]{[3794]} من أموالنا . فأنزل الله : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ }{[3795]} .

وقال الحكم ، عن مِقْسَم ، عن ابن عباس : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } قال : ما يفضل عن أهلك .

وكذا روي عن ابن عمر ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن كعب ، والحسن ، وقتادة ، والقاسم ، وسالم ، وعطاء الخراساني ، والربيع بن أنس ، وغير واحد : أنهم قالوا في قوله : { قُلِ الْعَفْوَ } يعني الفضل .

وعن طاوس : اليسير من كل شيء ، وعن الربيع أيضًا : أفضل مالك ، وأطيبه . والكل يرجع إلى الفضل .

وقال عبد بن حميد في تفسيره : حدثنا هوذة بن خليفة ، عن عوف ، عن الحسن : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } قال : ذلك ألا تجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس .

ويدل على ذلك ما رواه ابنُ جرير : حدثنا علي بن مسلم ، حدثنا أبو عاصم ، عن ابن عَجْلان ، عن المَقْبُريّ ، عن أبي هريرة قال : قال رجل : يا رسول الله ، عندي دينار ؟ قال : " أنفقه على نفسك " . قال : عندي آخر ؟ قال : " أنفقه على أهلك " . قال : عندي آخر ؟ قال : " أنفقه على ولدك " . قال : عندي آخر ؟ قال : " فأنت أبصَرُ " .

وقد رواه مسلم في صحيحه{[3796]} . وأخرج مسلم أيضًا عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : " ابدأ بنفسك فتصدّق عليها ، فإن فَضَل شيء فلأهلك ، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا " {[3797]} .

وعنده عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الصدقة ما كان عن ظَهْر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول " {[3798]} .

وفي الحديث أيضًا : " ابن آدم ، إنك إن تبذُل الفضلَ خيرٌ لك ، وإن تمسكه شر لك ، ولا تُلام على كَفَافٍ " {[3799]} .

ثم قد قيل : إنها منسوخة بآية الزكاة ، كما رواه علي بن أبي طلحة ، والعوفي عن ابن عباس ، وقاله عطاء الخراساني والسدي ، وقيل : مبينة بآية الزكاة ، قاله مجاهد وغيره ، وهو أوجه .

وقوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أي : كما فصَّل لكم هذه الأحكام وبينَها وأوضحها ، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ، ووعيده ، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني في زوال الدنيا وفنائها ، وإقبال الآخرة وبقائها .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافسي ، حدثنا أبو أسامة ، عن الصعَّق العيشي{[3800]} قال : شهدت الحسن –

وقرأ هذه الآية من البقرة : { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } قال : هي والله لمن تفكر فيها ، ليعلم أن الدنيا دار بلاء ، ثم دار فناء ، وليعلم أن الآخرة دار جزاء ، ثم دار بقاء .

وهكذا قال قتادة ، وابن جُرَيْج ، وغيرهما .

وقال عبد الرزاق عن مَعْمَر ، عن قتادة : لتعلموا فضل الآخرة على الدنيا . وفي رواية عن قتادة : فآثرُوا الآخرة على الأولى .

[ وقد ذكرنا عند قوله تعالى في سورة آل عمران : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } [ آل عمران : 190 ] آثارًا كثيرة عن السلف في معنى التفكر والاعتبار ]{[3801]} .


[3785]:زيادة من جـ.
[3786]:المسند (1/53).
[3787]:سنن أبي داود برقم (3670) وسنن الترمذي برقم (3049) وسنن النسائي (8/286).
[3788]:في جـ: "عنه".
[3789]:في و: "إن كان فيها".
[3790]:في أ: "هذا".
[3791]:زيادة من جـ.
[3792]:في أ: "فحرمت الخمر فلله الحمد".
[3793]:في جـ: "بالرفع والنصب".
[3794]:زيادة من أ.
[3795]:وهذا منقطع، فإن يحيى بن سعيد بينه وبين معاذ قرن من الزمان.
[3796]:تفسير الطبري (4/340)، وأما قول الحافظ بأنه في صحيح مسلم، فقد قال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله -: "وهم - رحمه الله - فإن الحديث ليس في صحيح مسلم على اليقين بعد طول التتبع مني ومن أخي السيد محمود". قلت: لم يذكره المزي في تحفة الأشراف معزوا لمسلم، وإنما عزاه لأبي داود وغيره.
[3797]:صحيح مسلم برقم (997).
[3798]:هو في صحيح البخاري برقم (1428) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو في صحيح مسلم برقم (1034) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
[3799]:رواه مسلم في صحيحه برقم (1036) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
[3800]:في جـ، أ، و: "التميمي".
[3801]:زيادة من جـ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

{ يسألونك عن الخمر والميسر } روي ، أنه نزل بمكة قوله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } فأخذ المسلمون يشربونها ، ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا : أفتنا يا رسول الله في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون . ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا ، فأم أحدهم فقرأ : { قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون } فنزلت { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فقل من يشربها ، ثم دعا عتبان بن مالك سعد بن أبي وقاص في نفر فلما سكروا افتخروا وتناشدوا ، فأنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار ، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت { إنما الخمر والميسر } إلى قوله : { فهل أنتم منتهون } فقال عمر رضي الله عنه : انتهينا يا رب . والخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره ، سمي بها عصير العنب والتمر إذا اشتد وغلا كأنه يخمر العقل ، كما سمي سكرا لأنه يسكره أي يحجزه ، وهي حرام مطلقا وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون السكر .

{ والميسر } أيضا مصدر كالموعد ، سمي به القمار لأنه أخذ مال الغير بيسر أو سلب يساره ، والمعنى يسألونك عن تعاطيهما لقوله تعالى : { قل فيهما } أي في تعاطيهما . { إثم كبير } من حيث إنه يؤدي إلى الانتكاب عن المأمور ، وارتكاب المحظور . وقرأ حمزة والكسائي كثير بالثاء . { ومنافع للناس } من كسب المال والطرب والالتذاذ ومصادقة الفتيان ، وفي الخمر خصوصا تشجيع الجبان وتوفير المروءة وتقوية الطبيعة . { وإثمهما أكبر من نفعهما } أي المفاسد التي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقعة منهما . ولهذا قيل إنها المحرمة للخمر لأن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل ، والأظهر أنه ليس كذلك لما مر من إبطال مذهب المعتزلة . { ويسألونك ماذا ينفقون } قيل سائله أيضا عمرو بن الجموح سأل أولا عن المنفق والمصرف ، ثم سأل عن كيفية الإنفاق . { قل العفو } العفو نقيض الجهد ومنه يقال للأرض السهلة ، وهو أن ينفق ما تيسر له بذله ولا يبلغ منه الجهد . قال :

خذي العفو مني تستديمي مودتي *** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب وروي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال : خذها مني صدقة ، فأعرض عليه الصلاة والسلام عنه حتى كرر عليه مرارا فقال : هاتها مغضبا فأخذها فحذفها حذفا لو أصابه لشجه ثم قال : " يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس ، إنما الصدقة عن ظهر غنى " . وقرأ أبو عمرو برفع { العفو } . { كذلك يبين الله لكم الآيات } أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد ، أو ما ذكر من الأحكام ، والكاف في موضع النصب صفة لمصدر محذوف أي تبيينا مثل هذا التبيين ، وإنما وحد العلامة والمخاطب به جمع على تأويل القبيل والجمع ، { لعلكم تتفكرون } في الدلائل والأحكام .