تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة تبت

وهي مكية .

قال البخاري : حدثنا محمد بن سلام ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مُرّة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء ، فصعد الجبل فنادى : " يا صباحاه " . فاجتمعت إليه قريش ، فقال : " أرأيتم إن حَدثتكم أن العدوّ مُصبحكم أو مُمْسيكم ، أكنتم تصدقوني ؟ " . قالوا : نعم . قال : " فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا ؟ تبا لك . فأنزل الله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } إلى آخرها{[1]} .

وفي رواية : فقام ينفض يديه ، وهو يقول : تبا لك سائر اليوم . ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } {[2]} .

الأول : دعاء عليه ، والثاني : خبر عنه . فأبو لهب هذا هو أحد أعمام رسول الله{[3]} صلى الله عليه وسلم ، واسمه : عبد العُزّى بن عبد المطلب ، وكنيته أبو عُتبة . وإنما سمي " أبا لهب " لإشراق وجهه ، وكان كثير الأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والبغضة له ، والازدراء به ، والتنقص له ولدينه . .

قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه قال : أخبرني رجل - يقال له : ربيعة بن عباد ، من بني الديل ، وكان جاهليًا فأسلم - قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز ، وهو يقول : " يا أيها الناس ، قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا " والناس مجتمعون عليه ، ووراءه رجل وضيء الوجه أحولُ ، ذو غديرتين ، يقول : إنه صابئ كاذب . يتبعه حيث ذهب ، فسألت عنه فقالوا : هذا عمه أبو لهب {[4]} .

ثم رواه عن سُرَيج ، عن ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، فذكره . قال أبو الزناد : قلت لربيعة : كنت يومئذ صغيرًا ؟ قال : لا والله ، إني يومئذ لأعقل أني أزفر القربة . تفرد به أحمد{[5]} .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني حُسَين بن عبد الله بن عُبيد الله بن عباس قال : سمعت ربيعة بن عباد الديلي يقول : إني لمع أبي رجل شاب ، أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع القبائل ، ووراءه رجل أحول وضيء ، ذو جُمَّة ، يَقِفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة فيقول : " يا بني فلان ، إني رسول الله إليكم ، آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا ، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفِّذَ عن الله ما بعثني به " . وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه : يا بني فلان ، هذا يريد منكم أن تسلُخوا اللات والعزى ، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أُقَيْش ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه " . فقلت لأبي : من هذا ؟ قال : عمه أبو لهب{[6]} .

رواه أحمد أيضا ، والطبراني بهذا اللفظ{[7]} .

/خ5

فقوله تعالى : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } أي : خسرت وخابت ، وضل عمله وسعيه ، { وَتَبَّ } أي : وقد تب تحقق خسارته وهلاكه .


[1]:زيادة من أ.
[2]:ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ كما في الدر (3/270).
[3]:في د: "وأديت".
[4]:في د: "إنهم قالوا".
[5]:في د: "تكفروهما".
[6]:تفسير الطبري (11/228).
[7]:في د: "ومال".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { تَبّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ * مَآ أَغْنَىَ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىَ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مّسَدٍ } .

يقول تعالى ذكره : خَسِرت يدا أبي لهب ، وخَسِر هو . وإنما عُنِي بقوله : { تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ تبّ } عمله . وكان بعض أهل العربية يقول : قوله : { تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } : دعاء عليه من الله .

وأما قوله : { وَتَبّ } فإنه خبر . ويُذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبّ » . وفي دخول «قد » فيه دلالة على أنه خبر ، ويمثّل ذلك بقول القائل لآخر : أهلَكك الله ، وقد أهلكك ، وجعلك صالحا ، وقد جعلك . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : { تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ } : أي خسرت وتب .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : { تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَتَبّ } قال : التبّ : الخسران ، قال : قال أبو لهب للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ماذا أُعطَى يا محمد إن آمنت بك ؟ قال : «كمّا يُعْطَى المُسْلِمُونَ » ، فقال : مالي عليهم فضل ؟ قال : «وأيّ شَيْءٍ تَبْتَغِي ؟ » قال : تبا لهذا من دين تبا ، أن أكون أنا وهؤلاء سواء ، فأنزل الله : { تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ } يقول : بما عملت أيديهم .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ } قال : خَسِرت يدا أبي لهب وخَسِر .

وقيل : إن هذه السورة نزلت في أبي لهب ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خَصّ بالدعوة عشيرتَه ، إذ نزل عليه : { وَأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } وجمعهم للدعاء ، قال له أبو لهب : تبا لك سائرَ اليوم ، ألهذا دعوتنا ؟ ذكر الأخبار الواردة بذلك :

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس قال : صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا ، فقال : «يا صَباحاهْ » ، فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : مالك ؟ قال : «أرأَيْتَكُمْ إنْ أخْبَرْتُكُمْ أنّ العَدُوّ مُصَبّحُكُمْ أوْ مُمَسّيكُمْ ، أما كُنْتُمْ تُصَدَقُونِنَي ؟ » قالوا : بلى ، قال : «فإني نَذِيرٌ لَكُمْ بَينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » ، فقال أبو لهب : تَبّا لك ، ألهذا دعوتنا وجمعتنا ؟ فأنزل الله : { تَبّتْ يَدَا أبي لَهَبٍ } إلى آخرها .

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن نُمير ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرّة ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت { وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصّفا ثم نادَى : «يا صَباحاهْ » ، فاجتمع الناس إليه ، فبَيْنَ رجلٌ يجيء ، وبين آخر يبعثُ رسولَه ، فقال : «يا بَنِي هاشِمٍ ، يا بَنِي عَبْدَ المُطّلِبِ ، يا بَنِي فِهْرٍ ، يا بَنِي . . . يا بَنِي أرأَيْتَكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنّ خَيْلاً بِسَفْحٍ هَذَا الجَبَل » يريد تغير عليكم «صَدّقْتُمُونِي ؟ » قالوا : نعم ، قال : «فإنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » ، فقال أبو لهب : تَبّا لك سائر اليوم ، ألهذا دعوتنا ؟ فنزلت : { تَبّتْ يَدَا أَبي لَهَبٍ وَتَبّ } » .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا أبو أُسامة ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : ( { وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ورهطك منهم المخلصين ) ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى صعد الصفا ، فهتف : «يا صَباحاهْ » ، فقالوا : مَنْ هذا الذي يهتف ؟ فقالوا : محمد ، فاجتمعوا إليه ، فقال : «يا بَنِي فُلانٍ ، يا بَنِي فُلانٍ ، يا بَنِي عَبْدَ المُطّلِبِ ، يا بَنِي عَبْدَ مَنافٍ » ، فاجتمعوا إليه ، فقال : «أرأَيْتَكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنّ خَيْلاً تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الجَبَلِ أكُنْتُمْ مُصَدّقْي ؟ » قالوا : ما جرّبنا عليك كذبا ، قال : «فإنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » ، فقال أبو لهب : تَبّا لك ما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قام فنزلت هذه السورة : «تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبّ » كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، في قوله : { تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } قال : حين أرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه وإلى غيره ، وكان أبو لهب عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكان اسمه عبد العُزّى ، فذكرهم ، فقال أبو لهب : تَبا لك ، في هذا أرسلت إلينا ؟ فأنزل الله : { تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة المسد{[1]}

وهي مكية بإجماع .

روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] قال : «يا صفية بنت عبد المطلب ، ويا فاطمة بنت محمد ، لا أملك لكما من الله شيئاً ، سلاني من مالي ما شئتما » ، ثم صعد الصفا فنادى بطون قريش : «يا بني فلان ، يا بني فلان » ، وروي أنه صاح بأعلى صوته : «يا صباحاه » ، فاجتمعوا إليه من كل وجه ، فقال لهم : «أرأيتم لو قلت لكم إني أنذركم خيلاً بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟ » . قالوا : نعم ، قال : «فإني نذير بين يدي عذاب شديد ، » ، فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ، ألهذا ، جمعتنا ؟ فافترقوا عنه ، ونزلت السورة{[12017]} ، و { تبت } معناه : خسرت ، والتباب : الخسار والدمار ، وأسند ذلك إلى اليدين من حيث اليد موضع الكسب والربح ، وضم ما يملك ، ثم أوجب عليه أنه قد تب ، أي حتم ذلك عليه . ففي قراءة عبد الله بن مسعود :( تبت يدا أبي لهب وقد تب ) ، وأبو لهب : هو عبد العزى بن عبد المطلب ، وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن سبقت له الشقاوة ، وقرأ ابن كثير وابن محيصن :( أبي لهْب ) بسكون الهاء ، وقرأ الباقون : بتحريك الهاء ، ولم يختلفوا في فتحها في { ذات لهب } .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[12017]:أخرجه سعيد بن منصور، والبخاري، ومسلم، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي في (الدلائل) عن ابن عباس رضي الله عنهما. (الدر المنثور)، زاد الحميدي وغيره: فلما سمعت امرأته ما نزل في زوجها وفيها من القرآن، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر رضي الله عنه، وفي يدها فهر من حجارة –حجر ملء الكف- فلما وقفت عليه أخذ الله بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، إن صاحبك قد بلغني أنه يهجوني والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، ثم أنشدت شعرا وانصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ قال: ما رأتني، لقد أخذ الله بصرها عني.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة المسد، سورة تبت، مكية .

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

{ تبت يدا أبي لهب وتب }، أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو بكر أحمد ابن الحسن الحيري ، أنبأنا حاجب بن أحمد الطوسي ، حدثنا محمد بن حماد ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : " صعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا فقال : يا صباحاه ، قال : فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا له : ما لك ؟ قال : أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم ، أما كنتم تصدقوني ؟ قالوا : بلى ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تباً لك ، ألهذا دعوتنا جميعاً ؟ فأنزل الله عز وجل : { تبت يدا أبي لهب وتب } " ...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

سورة المسد ، وهي مكية بإجماع .

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ من طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ [ عَنْهُ ] قَالَ : «لَمَّا نَزَلَتْ : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبِينَ } وَرَهْطَك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا وَهَتَفَ : يَا صَبَاحَاهُ ، فَقَالُوا : مَنْ هَذَا ؟ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ ، فَقَالَ : أَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ، أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ من سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ ، وَأَنَّ الْعَدُوَّ مُصبحُكُمْ أَوْ مُمسيكُمْ ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ؟ قَالُوا : مَا جَرَّبْنَا عَلَيْك كَذِبًا . قَالَ : فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ . فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ : أَلِهَذَا جَمَعْتنَا ؟ تَبًّا لَك ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . . . } . إلَى آخِرِهَا » . ... هَكَذَا قَرَأَهَا الْأَعْمَشُ عَلَيْنَا يَوْمَئِذٍ ، زَادَ الْحُمَيْدِيُّ وَغَيْرُهُ : «فَلَمَّا سَمِعَت امْرَأَتُهُ مَا نَزَلَ فِي زَوْجِهَا وَفِيهَا من الْقُرْآنِ ، أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ من حِجَارَةٍ ، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيْهِ أَخَذَ اللَّهُ بِبَصَرِهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ تَرَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ . فَقَالَتْ : يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَيْنَ صَاحِبُك ؟ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ يَهْجُونِي ، فَوَاَللَّهِ لَوْ وَجَدْته لَضَرَبْت بِهَذَا الْفِهْرِ فَاهُ ، وَاَللَّهِ إنِّي لَشَاعِرَةٌ : مُذَمَّمًا عَصَيْنَا * وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا * وَدِينَهُ قَلَيْنَا ثُمَّ انْصَرَفَتْ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَمَا تَرَاهَا رَأَتْك ؟ قَالَ : مَا رَأَتْنِي ، لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ بِبَصَرِهَا عَنِّي » . وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إنَّمَا تُسَمِّي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُذَمَّمًا ، ثُمَّ يَسُبُّونَهُ ، فَكَانَ يَقُولُ : أَلَا تَعْجَبُونَ لِمَا يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي من أَذَى قُرَيْشٍ ، يَسُبُّونَ وَيَهْجُونَ مُذَمَّمًا ، وَأَنَا مُحَمَّدٌ ...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

أبو لهب - [ واسمه عبد العزى بن عبد المطلب ] هو عم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وإنما سمي أبو لهب لإشراق وجهه ، وكان هو وامرأته " أم جميل " من أشد الناس إيذاء لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وللدعوة التي جاء بها . .

قال ابن إسحاق : " حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال : سمعت ربيعة بن عباد الديلي يقول : " إني لمع أبي رجل شاب أنظر إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] يتبع القبائل ، ووراءه رجل أحول ، وضيء الوجه ذو جمة ، يقف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على القبيلة فيقول : " يا بني فلان . إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به " وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه : يا بني فلان . هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقمس ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تسمعوا له ، ولا تتبعوه . فقلت لأبي : من هذا ? قال عمه أبو لهب . [ ورواه الإمام أحمد والطبراني بهذا اللفظ ] .

فهذا نموذج من نماذج كيد أبي لهب للدعوة وللرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ، وكانت زوجته أم جميل في عونه في هذه الحملة الدائبة الظالمة . [ وهي أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان ] .

ولقد اتخذ أبو لهب موقفه هذا من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] منذ اليوم الأول للدعوة . أخرج البخاري - بإسناده - عن ابن عباس ، أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] خرج إلى البطحاء ، فصعد الجبل فنادى : " يا صباحاه " فاجتمعت إليه قريش ، فقال : أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ? أكنتم مصدقي ? قالوا : نعم . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب . ألهذا جمعتنا ? تبا لك . فأنزل الله( تبت يدا أبي لهب وتب . . . )الخ . وفي رواية فقام ينفض يديه وهو يقول : تبا لك سائر اليوم ! ألهذا جمعتنا ? ! فأنزل الله السورة .

ولما أجمع بنو هاشم بقيادة أبي طالب على حماية النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ولو لم يكونوا على دينه ، تلبية لدافع العصبية القبلية ، خرج أبو لهب على إخوته ، وحالف عليهم قريشا ، وكان معهم في الصحيفة التي كتبوها بمقاطعة بني هاشم وتجويعهم كي يسلموا لهم محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] .

وكان قد خطب بنتي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] رقية وأم كلثوم لولديه قبل بعثة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما حتى يثقل كاهل محمد بهما !

وهكذا مضى هو وزوجته أم جميل يثيرانها حربا شعواء على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وعلى الدعوة ، لا هوادة فيها ولا هدنة . وكان بيت أبي لهب قريبا من بيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] فكان الأذى أشد . وقد روي أن أم جميل كانت تحمل الشوك فتضعه في طريق النبي ؛ وقيل : إن حمل الحطب كناية عن سعيها بالأذى والفتنة والوقيعة .

نزلت هذه السورة ترد على هذه الحرب المعلنة من أبي لهب وامرأته . وتولى الله - سبحانه - عن رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] أمر المعركة. !

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

سميت هذه السورة في أكثر المصاحف سورة تبت، وكذلك عنونها الترمذي في جامعه وفي أكثر كتب التفسير ، تسمية لها بأول كلمة فيها .

وسميت في بعض المصاحف وفي بعض التفاسير سورة المسد . واقتصر في الإتقان على هذين .

وسماها جمع من المفسرين سورة أبي لهب على تقدير : سورة ذكر أبي لهب . وعنونها أبو حيان في تفسيره سورة اللهب، ولم أره لغيره .

وهي مكية بالاتفاق ...

روي أن نزولها كان في السنة الرابعة من البعثة . وسبب نزولها على ما في الصحيحين عن ابن عباس قال صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا فنادى " يا صباحاه " كلمة ينادى بها للإنذار من عدو يصبح القوم فاجتمعت إليه قريش فقال : إني نذير لكم من يدي عذاب شديد أرأيتم لو أني أخبرتكم أن العدو ممسيكم أو مصبحكم أكنتم تصدقوني? قالوا : ما جربنا عليك كذبا ، فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا? فنزلت تبت يدا أبي لهب . ووقع في الصحيحين من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا إلى آخر الحديث المتقدم .

ومعلوم أن آية { وأنذر عشيرتك الأقربين } من سورة الشعراء وهي متأخرة النزول عن سورة تبت ، وتأويل ذلك أن آية تشبه آية سورة الشعراء نزلت قبل سورة أبي لهب لما رواه أبو أسامة يبلغ ابن عباس لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين وقومك منهم المخلصين } ولم يقل من سورة الشعراء خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فتعين أن آية سورة الشعراء تشبه صدر الآية التي نزلت قبل نزول سورة أبي لهب .

أغراضها:

زجر أبي لهب على قوله تبت لك ألهذا جمعتنا? ووعيده على ذلك ، ووعيد امرأته على انتصارها لزوجها ، وبغضها النبي صلى الله عليه وسلم .

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وقد نجد في هذه السورة تأكيداً للقيمة الإسلامية الرافضة للقرابة إذا كانت منفصلة عن الانتماء الإسلامي ، حتى لو كانت متصلة بالنبي بأوثق الصلات ، فإن أبا لهب الكافر المشرك لم يحصل من قرابته للنبي على أيّ امتيازٍ ، بعد أن كان عدوّاً لله ورسوله ؛ بل كانت المسألة ضد الامتياز ، فقد ذكره القرآن بالذمّ والتحقير ، ولم يذكر أحداً من المشركين غيره ، تأكيداً للرفض الإسلامي له بالمستوى الذي يفوق رفضه للآخرين من المشركين ؛ لأن النسب قد أضاف إلى جريمته جريمةً باعتباره الأعرف بالرسول ، فكيف يتنكّر له ولرسالته ....

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره : خَسِرت يدا أبي لهب ، وخَسِر هو . وإنما عُنِي بقوله : { تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ تبّ } عمله .

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... تخصيص أبي لهب بالذكر من بين سائر الكفرة يحتمل وجوها :

أحدها : خصه بالاسم ؛ لأنه كان من الفراعنة والأكابر ، وهو المقصود به ....

والثاني : كان شديد الهيبة والخوف ، فذكره باسمه ، وخصه به ليعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يهابه ، ولا يخافه ، والله أعلم ....

ثم ذكره بالكنية يخرج على وجوه :

أحدها : يحتمل أن يكون بالكنية عرف عند الناس ، وبها كان معروفا دون اسمه ، فذكره بالذي كان معروفا به .

والثاني : ما ذكر أن اسمه كان عبد العزى ، فلم يرد أن ينسبه إلى غيره ، وهو العزى ، فذكره بالكنية لهذا .

والثالث : أنه عيره بأشياء ، وخوفه بمواعيد . فلو ذكره باسمه ، فلعله يصرف ذلك الخطاب والوعيد الذي كان له إلى غيره لما شرك غيره في الاسم ، إذ كانوا يسمون أولادهم ، وينسبونهم إلى أصنامهم ، ولم يكن أحد شركه في كنية ، فلا يمكنه التحويل إلى غيره . وقيل : ذكره بالكنية يخرج مخرج الوعيد له ، أي تصير النار كالابن ، وهو كالأب لها ، وذلك لأن هذه الكنى إنما تذكر في المتعارف على وجه التفاؤل ....ووجه آخر ، وهو أن ذكر الكنية ، وإن كان يراد بها التعظيم ، فعند ذكر المواعيد والعقوبات يراد بها الاستخفاف والإهانة ، وهو على ما ذكر في البشارة أنها وإن كانت تذكر عندما يبشر ، ويبهج في الأغلب ، فعند ذكر العقوبة نذارة ، كقوله تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } ( آل عمران : 21 ) . فعلى ذلك الكنية ، والله أعلم .

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والمعنى : هلكت يداه ... { وَتَبَّ } وهلك كله . أو جعلت يداه هالكتين . والمراد : هلاك جملته ...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ تبت } ، أي حصل القطع الأعظم ، والحتم الأكمل ، فإنها خابت وخسرت غاية الخسارة ، وهي المؤدية إلى الهلاك ؛ لأنه لا نجاة إلا نجاة الآخرة ، وجعل خطاب هذه السورة عن الله ولم يفتتحها ب " قل " كأخواتها ؛ لأن هذا أكثر أدباً وأدخل في باب العذر وأولى في مراعاة ذوي الرحم ، ولذلك لم يكرر ذكرها في القرآن ، وأشد في انتصار الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم ، وأقرب إلى التخويف وتجويز سرعة الوقوع . ولما كانت اليد محل قدرة الإنسان ، فإذا اختلت اختل أمره ، فكيف إذا حصل الخلل في يديه جميعاً ، قال مشيراً بالتثنية إلى عموم هلاكه بأن قوته لم تغن عنه شيئاً ، ولأن التثنية يعبر بها عن النفس ، ومشيراً بالكنية وإن كان يؤتى بها غالباً للتشريف إلى مطابقة اسمه لحاله ، ومجانسته الموجبة لعظيم نكاله : { يدا أبي لهب } فلا قدرة له على إعطاء ولا منع ، ولا على جلب ولا دفع .... { وتب } أي هو بجملته بتمام الهلاك والخسران ، فحقق بهذا ما أريد من الإسناد إلى اليدين من الكناية عن الهلاك الذي لا بقاء بعده ، والظاهر أن الأول دعاء ، والثاني خبر ، وعرف بهذا أن الانتماء إلى الصالحين لا يغني إلا إن وقع الاقتداء بهم في أفعالهم ؛ لأنه عم النبي صلى الله عليه وسلم....

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

( تبت يدا أبي لهب وتب ) . . والتباب الهلاك والبوار والقطع . ( وتبت )الأولى دعاء . ( وتب )الثانية تقرير لوقوع هذا الدعاء . ففي آية قصيرة واحدة في مطلع السورة تصدر الدعوة وتتحقق ، وتنتهي المعركة ويسدل الستار !

فأما الذي يتلو آية المطلع فهو تقرير ووصف لما كان .