السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وهي خمس آيات ، وثلاث وعشرون كلمة ، وسبعة وسبعون حرفاً .

{ بسم الله } المتكبر الجبار المضل الهاد { الرحمن } الذي عمّ خلقه بنعمه بعد الإكرام بالإيجاد { الرحيم } الذي خص بتوفيقه أهل الوداد .

وقوله تعالى : { تبت يدا أبي لهب } دعاء عليه ، وسبب نزول ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال : لما نزل قوله تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] صعد صلى الله عليه وسلم الصفا جعل ينادي : " يا بني فهر ، يا بني عدي ، لبطون قريش " ، حتى اجتمعوا عنده ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش ، فقال : " أرأيتم لو أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم ، أما كنتم تصدّقون " ؟ قالوا : بلى . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تبا لك ، لهذا دعوتنا جميعاً " فنزلت .

وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل ونادى : « " يا صباحاه " ، فاجتمعت إليه قريش وذكر نحوه » .

وفي رواية فصعد الصفا فهتف : « " يا صباحاه " فقالوا : من هذا الذي يهتف ؟ فقالوا : محمد ، فاجتمعوا إليه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدّقيّ " ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذباً . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تباً لك ، أما جمعتنا إلا لهذا . فنزلت » .

وعن أبي زيد أنّ أبا لهب أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : ماذا أعطى إن آمنت بك يا محمد ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :«كما يعطى المسلمون » . فقال : ما لي عليهم فضل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " وأيّ شيء تبتغي ؟ " قال : تباً لهذا من دين ، أن أكون وهؤلاء سواء . فنزلت » .

ومعنى تبت قال ابن عباس : خابت . وقال قتادة : خسرت . وقال عطاء : صلت . وقال ابن جبير : هلكت . والتباب الهلاك ، ومنه قولهم : أشابة أم تابة ، أي : هالكة من الهرم والتعجيز .

والمعنى : هلكت يداه ؛ لأنه -فيما يروى- أخذ حجراً ليرمي به النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقيل : رماه به فأدمى عقبه ، فلهذا ذكرت اليد ، وإن كان المراد جملة البدن ، فهو كقولهم : خسرت يده ، وكسبت يده ، فأضيفت الأفعال إلى اليد ، وذلك على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كله وجميعه ، أو عبر باليدين ؛ لأنّ الغالب أنّ الأعمال تزاول بهما . وقال يمان بن رباب : صفرت من كل خير . حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان سمع الناس هاتفاً يقول :

لقد خلوك وانصرفوا *** فما آبوا ولا رجعوا

ولم يوافوا نذورهم *** فتباً للذي صنعوا

وقيل : المراد باليدين دينه ودنياه ، أو أولاه وعقباه ، أو المراد بأحدهما جرّ المنفعة ، وبالأخرى دفع المضرّة ، أو لأنّ اليمين سلاح ، واليسرى جنة . وأبو لهب هو ابن عبد المطلب عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، واسمه عبد العزى . فإن قيل : لماذا كني بذلك ، ولم يكن له ولد اسمه لهب ؟ وأيضاً فالتكنية من باب التعظيم ؟ أجيب عن الأوّل بأنّ الكنية قد تكون اسماً كما سمي أبو سفيان وأبو طالب ونحو ذلك ، فإنّ هؤلاء أسماؤهم كناهم ، أو لتلهب وجنتيه ، وكان مشرق الوجه أحمره ؟ وأجيب عن الثاني بوجوه :

أحدها : أنه لما كان اسماً خرج عن إفادة التعظيم .

ثانيها : أن اسمه ، كان عبد العزى كما مرّ ، فعدل عنه إلى كنيته لقبح اسمه ؛ لأنّ الله تعالى لم يضف العبودية في كتابه إلى صنم .

ثالثها : أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب ، وافقت حاله كنيته ، فكان جديراً بأن يذكر بها ، كقولهم : أبو الخير وأبو الشر لصدورهما منه .

أو لأنّ الكنية كانت أغلب من الاسم ، أو لأنها أنقص منه ، ولذلك ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم دون كناهم .

وقال الزمخشري : فإن قلت : لما كناه والكنية تكرمة ؟ ثم ذكر ثلاثة أجوبة : إمّا لشهرته بكنيته ، وإمّا لقبح اسمه كما تقدّم ، وإمّا لأنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حالته كنيته اه . وهذا يقتضي أنّ الكنية أشرف من اللقب لا أنقص ، وهو عكس قول تقدّم . وقرأ ابن كثير بإسكان الهاء ، والباقون بفتحها ، وهما لغتان بمعنى نحو : النهْر والنهَر .

وقوله تعالى : { وتب } خبر ، كما يقال : أهلكه الله وقد هلك ، فالأول : أخرج مخرج الدعاء عليه ، والثاني : أخرج مخرج الخبر ، فحقق به ما أريد من الإسناد إلى اليدين من الكناية عن الهلاك الذي لا بقاء بعده . وقيل : المراد ماله وملكه كما يقال : فلان قليل ذات اليد ، يعنون به المال ، وبالثاني نفسه .