غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ} (1)

مقدمة السورة:

( سورة تبت مكية . حروفها أحد وثمانون . كلمها ثلاث وعشرون . آياتها خمس ) .

1

التفسير : لما أخبر عن فتح الولي -وهو النبي صلى الله عليه وسلم- نبه على مآل حال العدو في الدارين . قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتم أمره في أول المبعث ، ويصلي في شعاب مكة ثلاث سنين ، إلى أن نزل قوله { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء :214 ] ، فصعد الصفا ونادى : " يا آل غالب " ، فخرجت إليه من المسجد . فقال أبو لهب : هذه غالب قد أتتك ، فما عندك ؟ ثم نادى : " يا آل لؤي " ، فرجع من لم يكن من لؤي ، فقال : هذه لؤي قد أتتك فما عندك ؟ فقال : ي " ا آل كلاب " ، ثم قال بعده : " يا آل قصي " فقال أبو لهب : هذه قصي قد أتتك فما عندك ؟ ثم قال : " إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين ، وأنتم الأقربون ، إني لا أملك لكم من الدنيا حظاً ، ولا من الآخرة نصيباً ، إلا أن تقولوا لا إله إلا الله ، فأشهد لكم بها عند ربكم " . فقال أبو لهب عليه اللعنة : تباً لك ، ألهذا دعوتنا ؟ فنزلت السورة .

وقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أعمامه ، وقدم إليهم طعاماً في صحفة فاستحقروه ، وقالوا : إن أحدنا يأكل الشاة ، فقال : " كلوا " ، فأكلوا فشبعوا ولم ينتقص من الطعام إلا قليل . ثم قالوا : فما عندك ؟ فدعاهم إلى الإسلام . فقال أبو لهب ما قال . وروي أنه قال أبو لهب : فما لي إن أسلمت ؟ فقال : " ما للمسلمين " . فقال : أفلا أفضل عليهم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " وبماذا تفضل " ؟ فقال : تباً لهذا الدين الذي يستوي فيه أنا وغيري ، فنزلت :{ تبت يدا أبي لهب } . التباب : الهلاك ، كقوله { وما كيد فرعون إلا في تباب } [ غافر : 37 ] وقيل : الخسران المفضي إلى الهلاك . وقيل : الخيبة . وقال ابن عباس : لأنه كان يدفع قائلاً إنه ساحر فينصرفون عنه قبل لقائه ؛ لأنه كان شيخ القبيلة ، وكان له كالأب ، فكان لا يتهم ، فلما نزلت السورة وسمع بها غضب وأظهر العداوة الشديدة ، فصار متهماً ، فلم يقبل قوله في الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، فكأنه خاب سعيه ، وبطل غرضه . قالوا : ولعله إنما ذكر اليد ؛ لأنه كان يضرب بيده على كتف الوافد عليه ، فيقول : انصرف راشداً ، فإنه مجنون . ويروى أنه أخذ حجراً ليرمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن طارق المحاربي أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق يقول : " يا أيها الناس ، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " ، ورجل خلفه يرميه بالحجارة ، وقد أدمى عقبيه ، وقال : لا تطيعوه ، إنه كذاب . فقلت : من هذا ؟ فقالوا : محمد وعمه أبو لهب .

وقال أهل المعاني : أراد باليدين الجملة ، كقوله { ذلك بما قدّمت يداك } [ الحج :10 ] ؛ لأن أكثر الأعمال إنما تعمل باليد ، فاليمين كالسلاح ، واليسار كالجنة ، بالأولى يجر المنفعة ، وبالأخرى يدفع المضرة .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما دعاه نهاراً فأبى ، ذهب إلى داره ليلاً مستناً بسنة نوح ليدعوه ليلاً كما دعاه نهاراً ، فلما دخل عليه قال له : جئتني معتذراً . فجلس النبي صلى الله عليه وسلم أمامه كالمحتاج ، وجعل يدعوه إلى الإسلام ، وقال : إن كان يمنعك العار ، فأجبني في هذا الوقت واسكت . فقال : لا أومن بك ، أو يؤمن هذا الجدي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم للجدي : من أنا ؟ فقال : أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأطلق لسانه يثني عليه ، فاستولى الحسد على أبي لهب ، وأخذ يدي الجدي ومزقه ، وقال : تباً لك ، أثر فيك السحر . فقال الجدي : بل تبت يداك ، فنزلت السورة على وفق ذلك لتمزيقه يدي الحيوان الشاهد بالحق ، الناطق بالصدق .

وفي ذكر أبي لهب بالكنية الدالة على التعظيم المنبئة عن شبهة الكذب إذ لم يكن له ولد مسمى بلهب وجوه :

منها أن الكنية قد تصير اسماً بالغلبة ، فلا تدل على التعظيم ، وإيهام الكذب منتف ؛ لأنهم يريدون بها التفاؤل ، فلا يلزم منه أن يحصل له ولد يسمى بلهب .

ومنها أن اسمه كان عبد العزى ، فكان الاحتراز عن ذكره أولى .

ومنها أنه إشارة إلى أنه من أهل النار كما يقال " أبو الخير " لمن يلازمه . وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه : " يا أبا تراب " لتراب لصق بظهره .

وقيل : سمي بذلك لتلهب وجنتيه ، فسماه الله تعالى بذلك تهكماً ، ورمزاً إلى مآل حاله .

وفي قوله { سيصلى ناراً ذات لهب } قال أهل الخطابة : إنالم يقل في أوّل هذه السورة " قل تبت " كما قال

{ قل يا أيها الكافرون } [ الكافرون :1 ] لئلا يشافه عمه بما يشتد غضبه رعاية للحرمة ، وتحقيقاً لقوله

{ فيما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران :159 ] وأيضاً إن الكفار في تلك السورة طعنوا في الله ، فقال الله : يا محمد أجبهم عني { قل يا أيها الكافرون } [ الكافرون :1 ] ، وفي هذه السورة طعنوا في حق محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال الله تعالى : اسكت أنت ، فإنيّ أشتمهم { تبت يدا أبي لهب } وفيه تنبيه على أن الذي لا يشافه السفيه كان الله ذاباً عنه ، وناصراً له . يروى أن أبا بكر كان يؤذيه واحد ، فبقي ساكتاً ، فجعل الرسول يذبه عنه ، ويزجر ذلك المؤذي ، فشرع أبو بكر في الجواب ، فسكت الرسول ، فقال أبو بكر : ما السبب في ذلك ؟ فقال : لأنك حين كنت ساكتاً كان الملك يجيب عنك ، فلما شرعت في الجواب انصرف الملك وجاء الشيطان . قال أبو الليث : اللهب واللهب لغتان كالنهر والنهر ، ولكن الفتح أوجه ، ولهذا قرأ به أكثر القراء . وأجمعوا في قوله { ذات لهب } على الفتح رعاية للفاصلة .

وفي دفع التكرار عن قوله { وتب } وجوه :

منها : أن الأول دعاء ، والثاني إخبار ، ويؤيده قراءة ابن مسعود و " قد تب " .

ومنها أن الأول إخبار عن هلاك عمله ؛ لأن المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه باليد ، والثاني إخبار عن هلاك نفسه وهو قول أبي مسلم .

/خ5