يقول تعالى : لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم ، وكيف أنجينا{[15404]} المؤمنين وأهلكنا الكافرين { عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ } وهي العقول ، { مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } أي : وما كان لهذا القرآن أن يفترى من دون الله ، أي : يكذب ويُختلق ، { وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من الكتب المنزلة من السماء ، وهو يصدق ما فيها من الصحيح ، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير ، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير ، { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } من تحليل وتحريم ، ومحبوب ومكروه ، وغير ذلك من الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات ، والنهي عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات ، والإخبار عن الأمور على الجلية ، وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية ، والإخبار عن الرب تبارك وتعالى بالأسماء والصفات ، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقات ، فلهذا كان : { هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد ، ومن الضلالة إلى السداد ، ويبتغون به الرحمة من رب العباد ، في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد . فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة ، يوم يفوز بالربح المُبْيَضَّة وجوههم الناضرة ، ويرجع{[15405]} المسودَّة وجوهُهم بالصفقة الخاسرة .
آخر تفسير سورة يوسف ، ولله الحمد والمنة وبه المستعان وعليه التكلان ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىَ وَلََكِن تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : لقد كان في قصص يوسف وإخوته عِبرة لأهل الحِجا والعقول ، يعتبرون بها وموعظة يتعظون بها وذلك أن الله جلّ ثناؤه بعد أن ألقي يوسف في الجبّ ليهلك ، ثم بِيع بيع العبيد بالخسيس من الثمن ، وبعد الإسار والحبس الطويل ملّكه مصر ومكّن له في الأرض وأعلاه على من بغاه سوءا من إخوته ، وجمع بينه وبين والديه وإخوته بقدرته بعد المدّة الطويلة ، وجاء بهم إليه من الشّقّة النائية البعيدة . فقال جلّ ثناؤه للمشركين من قريش من قوم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لقد كان لكم أيّها القوم في قَصَصهم عبرة لو اعتبرتم به ، أن الذي فعل ذلك بيوسف وإخوته لا يتعذّر عليه أن يفعل مثله بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فيخرجه من بين أظهركم ثم يظهره عليكم ويمكن له في البلاد ويؤيده بالجند والرجال من الأتباع والأصحاب ، وإن مرّت به شدائد وأتت دونه الأيام والليالي والدهور والأزمان .
وكان مجاهد يقول : معنى ذلك : لقد كان في قصصهم عبرة ليوسف وإخوته . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لَقَدْ كانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ليوسف وإخوته .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : عبرة ليوسف وإخوته .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولى الألْباب قال : يوسف وإخوته .
وهذا القول الذي قاله مجاهد وإن كان له وجه يحتمله التأويل ، فإن الذي قلنا في ذلك أولى به لأن ذلك عقيب الخبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم وعن قومه من المشركين ، وعقيب تهديدهم ووعيدهم على الكفر بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ومنقطع عن خبر يوسف وإخوته ، ومع ذلك أنه خبر عامّ عن جميع ذوي الألباب ، أن قصصهم لهم عبرة ، وغير مخصوص بعض به دون بعض . فإذا كان الأمر على ما وصفت في ذلك ، فهو بأن يكون خبرا عن أنه عبرة لغيرهم أشبه ، والرواية التي ذكرناها عن مجاهد من رواية ابن جريج أشبه به أن تكون من قوله لأن ذلك موافق القول الذي قلناه في ذلك .
وقوله : ما كانَ حَديثا يُفْتَرَى يقول تعالى ذكره : ما كان هذا القول حديثا يُختلَق ويُتَكَذّب ويتخرّص . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ما كانَ حَدِيثا يُفْتَرَى والفِرية : الكذب .
ولكِنْ تَصْدِيقَ الّذِي بينَ يَدَيْه يقول : ولكنه تصديق الذي بين يديه من كتب الله التي أنزلها قبله على أنبيائه ، كالتوراة والإنجيل والزبور ، ويصدّق ذلك كله ويشهد عليه أن جميعه حقّ من عند الله . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الّذي بينَ يَدَيْهِ والفرقان تصديق الكتب التي قبله ، ويشهد عليها .
وقوله : وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيْءٍ يقول تعالى ذكره : وهو أيضا تفصيل كلّ ما بالعباد إليه حاجة من بيان أمر الله ونهيه وحلاله وحرامه وطاعته ومعصيته .
وقوله : وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يقول تعالى ذكره : وهو بيان أمره ، ورشاد من جَهِلَ سبيل الحقّ فعمِي عنه إذا تبعه فاهتدى به من ضلالته ورحمة لمن آمن به وعمل بما فيه ، ينقذه من سخط الله وأليم عذابه ، ويورثه في الاَخرة جنانه والخلود في النعيم المقيم . لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يقول : لقوم يصدّقون بالقرآن وبما فيه من وعد الله ووعيده وأمره ونهيه ، فيعملون بما فيه من أمره وينتهون عما فيه من نهيه .
{ لقد كان في قصصهم } في قصص الأنبياء وأممهم أو في قصة يوسف وإخوته { عبرة لأولي الألباب } لذوي العقول - المبرأة من شوائب الإلف والركون إلى الحس . { ما كان حديثا يُفترى } ما كان القرآن حديثا يفترى . { ولكن تصديق الذي بين يديه } من الكتب الإلهية . { وتفصيل كل شيء } يحتاج إليه في الدين إذ ما من أمر ديني إلا وله سند من القرآن بوسط أو بغير وسط . { وهدى } من الضلال . { ورحمة } ينال بها خير الدارين . { لقوم يؤمنون } يصدقونه .
هذا من رد العجز على الصدر فهي مرتبطة بجملة { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } [ سورة يوسف : 102 ] وهي تتنزّل منها منزلة البيان لما تضمنه معنى الإشارة في قوله : { ذلك من أنباء الغيب } من التعجيب ، وما تضمنه معنى { وما كنتَ لديهم } من الاستدلال على أنه وحي من الله مع دلالة الأمية .
وهي أيضاً تتنزل منزلة التذييل للجمل المستطرد بها لقصد الاعتبار بالقصة ابتداء من قوله : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } [ يوسف : 103 ] .
فلها مواقع ثلاثة عجيبة من النظم المعجز .
وتأكيد الجملة ب ( قد ) واللام للتحقيق .
وأولو الألباب : أصحاب العقول . وتقدم في قوله : { واتقون يا أولي الألباب } في أواسط سورة البقرة ( 197 ) .
والعِبرة : اسم مصدر للاعتبار ، وهو التوصل بمعرفة المشاهد المعلوم إلى معرفة الغائب وتطلق العِبرة على ما يحصل به الاعتبار المذكور من إطلاق المصدر على المفعول كما هنا . ومعنى كون العبرة في قصصهم أنها مظروفة فيه ظرفية مجازية ، وهي ظرفية المدلول في الدليل فهي قارة في قصصهم سواء اعتَبر بها من وُفّق للاعتبار أم لم يعتبر لها بعضُ الناس .
وجملة { ما كان حديثا يفترى } إلى آخرها تعليل لجملة { لقد كان في قصصهم عبرة } أي لأن ذلك القصص خبر صدق مطابق للواقع وما هو بقصة مخترعة . ووجه التعليل أن الاعتبار بالقصة لا يحصل إلا إذا كانت خبراً عن أمر وقع ، لأن ترتب الآثار على الواقعات رتّب طبيعي فمِن شأنها أن تترتب أمثالُها على أمثالها كلما حصلت في الواقع ، ولأن حصولها ممكن إذ الخارج لا يقع فيه المحال ولا النادر وذلك بخلاف القصص الموضوعة بالخيال والتكاذيب فإنها لا يحصل بها اعتبار لاستبعاد السامع وقوعها لأن أمثالها لا يُعهد ، مثل مبالغات الخرافات وأحاديث الجن والغُول عند العرب وقصة رستم وأسفنديار عند العجم ، فالسامع يتلقاها تلقي الفكاهات والخيالات اللذيذة ولا يتهيأ للاعتبار بها إلاّ على سبيل الفرص والاحتمال وذلك لا تحتفظ به النفوس .
وهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى في أول السورة { نحن نقص عليك أحسن القصص } [ يوسف : 3 ] فكما سماه الله أحسن القصص في أول السورة نفى عنه الافتراء في هذه الآية تعريضاً بالنضر بن الحارث وأضرابه .
والافتراء تقدم في قوله : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة العقود ( 103 ) .
و{ الذي بين يديه } : الكتب الإلهية السابقة . وضمير بين { يديه } عائد إلى القرآن الذي من جملته هذه القصص .
والتفصيل : التبيين . والمراد ب { كل شيء } الأشياء الكثيرة مما يرجع إلى الاعتبار بالقصص .
وإطلاق الكل على الكثرة مضى عند قوله تعالى : { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } في سورة الأنعام ( 31 ) .
والهُدى الذي في القصص : العبر الباعثة على الإيمان والتقوى بمشاهدة ما جاء من الأدلة في أثناء القصص على أن المتصرف هو الله تعالى ، وعلى أن التقوى هي أساس الخير في الدنيا والآخرة ، وكذلك الرحمة فإن في قصص أهل الفضل دلالة على رحمة الله لهم وعنايته بهم ، وذلك رحمة للمؤمنين لأنهم باعتبارهم بها يأتون ويذرون ، فتصلح أحوالهم ويكونون في اطمئنان بال ، وذلك رحمة من الله بهم في حياتهم وسببٌ لرحمته إياهم في الآخرة كما قال تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] .