{ ن } من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه . أو هي اسم للسورة . أو للقرآن .
{ والقلم وما يسطرون } أقسم الله تعالى – على براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه المشركون من الجنون ؛ حسدا وعداوة ومكابرة . وعلى ثبوت الأجر الدائم له على قيامه بأعباء الرسالة ، وعلى كونه على دين الإسلام والتوحيد – بجنس القلم الذي يخط به في السماء في اللوح المحفوظ ، وفي صحف الملائكة والحفظة ، وفي الأرض بما ينفع الناس . وأقسم بما يكتبه الكاتبون مما هو خير ونفع .
{ ن } اختلفوا فيه فقال ابن عباس : هو الحوت . الذي على ظهره الأرض . وهو قول مجاهد ومقاتل ، والسدي ، والكلبي . وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض ، فأنبتت بالجبال ، وإن الجبال لتفخر على الأرض ، ثم قرأ ابن عباس : { ن والقلم وما يسطرون } واختلفوا في اسمه ، فقال الكلبي ومقاتل : بهموت . وقال الواقدي : ليوثا . وقال كعب : لويثا . وعن علي : اسمه بلهوث . وقالت الرواة : لما خلق الله الأرض وفتقها ، بعث من تحت العرش ملكاً فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتقه ، إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب ، باسطتين قابضتين على الأرضين السبع ، حتى ضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار ، فأهبط الله عز وجل من الفردوس ثوراً له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة ، وجعل قرار قدمي الملك على سنامه ، فلم تستقر قدماه فأخذ ياقوتة خضراء من أعلى درجة في الفردوس ، غلظها مسيرة خمسمائة عام فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه ، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ، ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفساً فإذا تنفس مد البحر وأزبد ، وإذا رد نفسه جزر ، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار ، فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها ، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه { فتكن في صخرة }( لقمان- 16 ) ولم يكن للصخرة مستقر ، فخلق الله نوناً وهو الحوت العظيم ، فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال ، والحوت على البحر ، والبحر على متن الريح ، والريح على القدرة . يقال : فكل الدنيا كلها بما عليها حرفان ، قال لها الجبار : كوني فكانت . قال كعب الأحبار : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس إليه ، فقال له : أتدري ما على ظهرك يا لويثا من الأمم والدواب والشجر والجبال ، لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك ، فهم لويثا أن يفعل ذلك ، فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه ، فعج الحوت إلى الله منها ، فأذن لها الله فخرجت . قال كعب : فوالذي نفسي بيده ، إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت إلى ذلك كما كانت . وقال بعضهم : نون آخر حروف الرحمن ، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس . وقال الحسن وقتادة والضحاك : النون الدواة . وقيل : هو قسم أقسم الله به . وقيل : فاتحة السورة . وقال عطاء : افتتاح اسمه نور ، وقال محمد بن كعب : أقسم الله بنصرته للمؤمنين . { والقلم } هو الذي كتب الله به الذكر ، وهو قلم من نور ، طوله ما بين السماء والأرض ، ويقال : أول ما خلق الله القلم ، ونظر إليه فانشق نصفين ، ثم قال : اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فجرى على اللوح المحفوظ بذلك . { وما يسطرون } يكتبون أي ما تكتب الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم .
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وقال ابن عباس وقتادة : من أولها إلى قوله تعالى : " سنسمه على الخرطوم{[1]} " [ القلم : 16 ] مكي . ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : " أكبر لو كانوا يعلمون{[2]} " [ القلم : 33 ] مدني . ومن بعد ذلك إلى قوله : " يكتبون{[3]} " [ القلم : 47 ] مكي . ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : " من الصالحين{[4]} " [ القلم : 50 ] مدني ، وما بقي مكي ، قاله الماوردي .
قوله تعالى : " ن والقلم " أدغم النون الثانية في هجائها في الواو أبو بكر والمفضل وهبيرة وورش وابن محيصن وابن عامر والكسائي ويعقوب . والباقون بالإظهار . وقرأ عيسى بن عمر بفتحها ، كأنه أضمر فعلا . وقرأ ابن عباس ونصر وابن أبي إسحاق بكسرها على إضمار حرف القسم . وقرأ هارون ومحمد بن السميقع بضمها على البناء . واختلف في تأويله ، فروى معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ن لوح من نور ) . وروى ثابت البناني أن " ن " الدواة . وقاله الحسن وقتادة . وروى الوليد بن مسلم قال : حدثنا مالك بن أنس عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة ، وذلك قوله تعالى : " ن والقلم " ثم قال له اكتب قال : وما أكتب قال : ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر ، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة - قال - ثم ختم فم القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة . ثم خلق العقل فقال الجبار : ما خلقت خلقا أعجب إلي منك وعزتي وجلالي لأُكَمِّلَنَّكَ فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت ) قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته ) . وعن مجاهد قال : " ن " الحوت الذي تحت الأرض السابعة . قال : " والقلم " الذي كتب به الذكر . وكذا قال مقاتل ومرة الهمداني وعطاء الخراساني والسدي والكلبي : إن النون هو الحوت الذي عليه الأرضون . وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن ، ثم رفع بخار الماء فخلق منه السماء ، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره ، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ، وإن الجبال لتفخر على الأرض . ثم قرأ ابن عباس " ن والقلم " الآية . وقال الكلبي ومقاتل : اسمه البهموت{[15216]} . قال الراجز :
مالي أراكم كلكم سكوتَا *** والله ربي خلق البَهْمُوتَا
وقال أبو اليقظان والواقدي : ليوثا . وقال كعب : لوثوثا . وقال : بلهموثا{[15217]} . وقال كعب : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرضون فوسوس في قلبه ، وقال : أتدري ما على ظهرك يا لوثوثا من الدواب والشجر والأرضين وغيرها ، لو لفظتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع ، فهم ليوثا أن يفعل ذلك ، فبعث الله إليه دابة فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه ، فضج الحوت إلى الله عز وجل منها فأذن الله لها فخرجت . قال كعب : فوالله إنه لينظر إليها وتنظر إليه ، إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت . وقال الضحاك عن ابن عباس : إن " ن " آخر حروف من حروف الرحمن . قال : الر ، وحم ، ون ، الرحمن تعالى متقطعة . وقال ابن زيد : هو قسم أقسم تعالى به . وقال ابن كيسان : هو فاتحة السورة . وقيل : اسم السورة . وقال عطاء وأبو العالية : هو افتتاح اسمه نصير ونور وناصر . وقال محمد بن كعب : أقسم الله تعالى بنصره للمؤمنين ، وهو حق . بيانه قوله تعالى : " وكان حقا علينا نصر المؤمنين{[15218]} " [ الروم : 47 ] وقال جعفر الصادق : هو نهر من أنهار الجنة يقال له نون . وقيل : هو المعروف من حروف المعجم ؛ لأنه لو كان غير ذلك لكان معربا ، وهو اختيار القشيري أبو نصر عبدالرحيم في تفسيره . قال : لأن " ن " حرف لم يعرب ، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم ، فهو إذا حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور . وعلى هذا قيل : هو اسم السورة ، أي هذه السورة " ن " . ثم قال : " والقلم " أقسم بالقلم لما فيه من البيان كاللسان ؛ وهو واقع على كل قلم مما يكتب به من في السماء ومن في الأرض ، ومنه قول أبي الفتح البستي :
إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم *** وعدّوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكُتَّاب عزا ورفعة *** مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
وللشعراء في تفضيل القلم على السيف أبيات كثيرة ، ما ذكرناه أعلاه . وقال ابن عباس : هذا قسم بالقلم الذي خلقه الله ، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة . قال : وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض . ويقال . خلق الله القلم ثم نظر إليه فانشق نصفين ، فقال : اجْرِ ، فقال : يا رب بم أجري ؟ قال بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فجرى على اللوح المحفوظ . وقال الوليد بن عبادة بن الصامت : أوصاني أبي عند موته فقال : يا بني ، اتق الله ، واعلم أنك لن تتقي ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده ، والقدر خيره وشره ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب فقال : يا رب وما أكتب ؟ فقال : اكتب القدر ، فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد ) . وقال ابن عباس : أول ما خلق الله القلم ، فأمره أن يكتب ما هو كائن ، فكتب فيما كتب " تبت يدا أبي لهب " [ المسد : 1 ] . وقال قتادة : القلم نعمة من الله تعالى على عباده . قال غيره : فخلق الله القلم الأول فكتب ما يكون في الذكر ، ووضعه عنده فوق عرشه ، ثم خلق القلم الثاني ليكتب به في الأرض ، على ما يأتي بيانه في سورة " اقرأ باسم ربك{[15219]} " [ العلق : 1 ] .
قوله تعالى : " وما يسطرون " أي وما يكتبون . يريد الملائكة يكتبون أعمال بني آدم ، قاله ابن عباس : وقيل : وما يكتبون أي الناس ويتفاهمون به . وقال ابن عباس : ومعنى " وما يسطرون " وما يعلمون . و " ما " موصولة أو مصدرية ، أي ومسطوراتهم أو وسطرهم ، ويراد به كل من يسطر أو الحفظة ، على الخلاف .
سورة ن{[1]} وتسمى سورة القلم
مقصودها إظهار ما استتر ، وبيان ما أبهم في آية " فستعلمون من هو في ضلال مبين " بتعيين المهتدي{[2]} الذي برهن على هدايته حيازته العلم الذي هو النور الأعظم ، الذي لا يضل بمصاحبته بتقبل القرآن والتخلق بالفرقان ، الذي هو صفة الرحمن بقدر{[3]} الإمكان الذي تصل إليه قوة الإنسان ، وأدل ما فيها على هذا الغرض " ن " وكذا و " القلم " فلذا سميت بكل منهما ، وبالكلام على كل منهما يعرف ذلك{[4]} ، وحاصله أن النون {[5]}مبين محيط{[6]} في بيانه كما يحيط ضوء الشمس بما يظهره ، وكما تحيط الدواة بمدادها ، بآية ما دل عليه {[7]} بمخرجه وصفاته{[8]} ، واستقر الكلام الواقع فيها{[9]} وفي المعاني التي اشتركت في لفظه ، وأما{[10]} القلم فإبانته للمعارف{[11]} أمر لا ينكر ( بسم الله ) الذي له الإحاطة الكاملة ، فهو على كل شيء قدير ، لأنه بكل شيء عليم ( الرحمن ) الذي عمت نعمة إيجاده لأهل معاده البريء منهم والسقيم ، ( الرحيم ) الذي/أتم تلك النعمة على من وفقه لطاعته ، فألزمه الصراط المستقيم .
لما أبهم الضال والمهتدي في آخر " الملك " والمسيء والمحسن في العمل أولها ، وختم بآية الماء المعين الذي دلت حروفه بمجموعها على تمام معناه ، ودل كل واحد منها على شيء منه ، فدلت ميمه على تمام شيء ظاهر ، وعينه على آية هادية ، وياؤه على قائم ملطف متنزل مع كل مقام ، ونونه على مظهر مبين محيط بما أظهره ، وردهم سبحانه إليه بعد شرادهم{[67195]} عنه بالاستفهام في هذه الآية بما نبههم عليه من عجزهم وعجز كل من يدعونه من دونه ، وأنه لا يقدر على الإتيان بذلك الماء الذي هو حياة الأشباح بعد ذهابه إلا من تمت قدرته ، فكان قادراً على كل ما يريد ، وكان لا يقدر على كل{[67196]} ما يريده إلا من كمل علمه الذي يحيي به ميت{[67197]} الأرواح ، دل على شمول قدرته بكمال علمه بما أفاده على هذا النبي الكريم الأمي من العلوم التي زخرت بحارها ، فأحيا مدرارها ، وأغرق تيارها ، فافتتح هذه السورة بكلمة البيان ، وهو اسم الحرف الذي هو آخر حروف تلك ، ومن لوازم بعض ما دل عليه الماء الذي هو الحياة المصححة ، ونبه على {[67198]}نصبه له{[67199]} سبحانه دليلاً على العلم{[67200]} بما دل عليه من مخرج مسماه وصفاته ومواقعه في الكلم في جميع تقلباته فقال : { ن } هذه الكلمة حرف من حروف المعجم وهي{[67201]} اسم لمسمى به ظهور الأشياء وعلمها وإدراكها ، كما دل عليه موقعه في اسم النور والنار والنيل والنمو والنباهة والنقاء والنصح والنبأ والنجابة والنجاة والنحت والندم ، وقد تقدم في البقرة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : لكل كتاب سر وسر القرآن هذه الحروف ، ولا يعلم ما هي إلا واضعها سبحانه .
ولما كان هذا الحرف مشتركاً في اللغة بين حرف المعجم والدواة والحوت وشفرة السيف ، سكن للدلالة بادىء بدء على أنه حرف ، ولا يمنع إسكانه المتأصل في البناء من إرادة بقية المعاني ، لأن العرب ربما سكنت الكلمة بنية الوقف تنبيهاً على عظمة معناها ، فلا يلزم من الإسكان عن غير عامل البناء ، وقيل : النون اللوح ، والنونة الكلمة من الصواب ، والسمكة ، فهو صالح لحرف المعجم الكلي الصالح لكل{[67202]} فرد ، وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه آخر حروف الرحمن{[67203]} والدواة لما يتأثر عنها من العلوم ، والحوت الذي على ظهره الكون واسمه البهموت ، لما في ذلك من عجائب القدر والأسرار ، ويكون الإقسام {[67204]}وقع بالنون{[67205]}سفلا والقلم علواً للإحاطة ، والسيف لما يتأثر عنه{[67206]} من جليل الآثار ، وكيفما كان المراد فهو الإحاطة ، وهو سر باطن لا يظهر ، وإنما تظهر نتائجه ، فهو{[67207]} الحكم ونتائجه القضاء والقدر بالإشقاء أو{[67208]} الإسعاد .
ولما كان هذا الحرف آية الكشف للأشياء ، كان مخرجه أمكن المخارج وأيسرها وأخفها وأوسعها{[67209]} وهو رأس المقول ، فإنه يخرج مما{[67210]} بين طرف اللسان وفويق الثنايا{[67211]} من اللثة ، وهو أخرج من مخرج اللام ومن مخرج الراء أيضاً ، وتسمى هذه الحروف الثلاثة{[67212]} الزلقية مع بقية حروف " فر من لب " لأن طرف كل شيء زلقة ، والنون أمكنها في هذا المخرج وأشدها انطباقاً فيما بين اللسان واللثة ، وهو مما كرر مسماه في اسمه فانتهى إلى حيث ابتدأ ، واختص بكون عماده وقوامه الحرف الأقوى الأظهر ذا الرفعة والعلو وهو الواو والزلقية التي هو أحدها ضد المصمتة{[67213]} وهي أخف الحروف على اللسان وأكثرها امتزاجاً بغيرها ، وأما المصمتة فمنعت{[67214]} أن تنفرد بنفسها في لغة العرب في كلمة هي أكثر من ثلاثة أحرف ، بل لا بد أن يكون معها بعض الزلقية ، والألف خارجة {[67215]}عن الصنفين{[67216]} لأنها مجرد إهواء لا مستقر لها ، فقد ناسبت بمخرجها لسعته وخفته ، ووصفها بالزلاقة التي تقع لما اتصف بها من الحروف الكمال{[67217]} غنية عن سواها ولا يقع لما لم يخالطها كمال فيما ذكر ما{[67218]} ذكر من أن معناها البيان والإظهار ومن صفاتها الجهر وبين الشدة والرخاوة والانفتاح والاستفال ، والغنة الخارجة من الخيشوم إذا سكن ، وكل هذا واضح في العلم الذي له الاتساع والانتشار والتغلغل في الأشياء الباطنة ، ويشاركه الميم في الغنة كما أنه يشاركه في أن له حظاً من الظهور والنون وهو الأصل في الغنة كما أنه{[67219]} الأصل في الظهور لما له من العلو بالعماد ، وهو أيضاً من حروف الذبذبة والزيادة التي لا تستقر على حال ، فتقع مرة زوائد وأخرى أصولاً ، كما أن العلم أيضاً كذلك لا استقرار له بل مهما وسعته اتسع ، ومهما تركته اضمحل وانجمع ، وهو من حروف الإبدال التي تبدل من غيرها ولا يكون غيرها بدلاً منها ، فلازب ولازم الميم بدل من الباء ، بخلاف العكس ، كما أن العلم أصل يتبعه غيره ولا يكون هو تابعاً لغيره ، وهي{[67220]} من الحروف الصحيحة وليست معتلة ، والعلم جدير بهذا الوصف ، وهو إذا كان مخفي{[67221]} من الحروف المشربة ويقال لها المخالطة - بكسر اللام وفتحها ، وهي التي اتسعت فيها العرب فزادتها على التسعة والعشرين المستعملة وهي{[67222]} من الحروف الصم وهي ما عدا الحلقية ، {[67223]}سميت بذلك لتمكنها في خروجها{[67224]} من الفم واستحكامها فيه ، يقال للمحكم المصمت و{[67225]}العلم أشد ما يكون مناسبة لهذا الوصف ، فقد انطبقت بمخرجها وجميع صفاتها على العلم الذي هو مقصود السورة فتبين حقاً أنه مقصودها ، وأما رتبة القلم في بيان{[67226]} العلم وإظهاره وكشف خفاياه وأسراره وبثه وإشهاره ، فهي بحيث لا يجهلها أحد اتصف بالعقل ، ومما يختص به هذا الحرف أنه يصحب كل حرف ، لأن حده هو ما يعبر عنه التنوين الذي انتظامه بالحركات ، هو ما آيته العلم المكمل {[67227]}به الحياة{[67228]} التي هي آية ما يعبر عنه هذه الحركات ، فلما كانت هذه الحركات آية على ما هو الحياة ، كان التنوين عقبها آية على ما به كمال الحياة من العلم ، وهو سبب لما به القيام من{[67229]} الظهور ، ومن معناه اسمه تعالى النور ، ثم {[67230]}هو اسم لكل ما يظهر ما{[67231]} خفي باطناً كالعلم في الإدراك الذي تظهر حقائق الأشياء به ، وظاهراً كالنيرين للعيون ، وسائر الأنوار الظاهرة والباطنة ، وما هو وسيلة الظهور كالعيون مما به تشاهد الأشياء ويظهر به{[67232]} صورها ، والدواة التي منها مداد ما كتب بالقلم في العوالم أعلاها وأدناها ، وكل آلة يتوصل بها إلى إظهار صورة تكون تماماً كماء المزن ، الذي هو مداد كل شيء كوّن الله به الكائنات والبادئات " وجعلنا من الماء كل شيء حي " ومنه معنى النجم النباتي الذي هو للشجر بمنزلة الفول للبشر متلبساً{[67233]} بالنور - بالفتح - الذي فيه حظ من النور - بالضم - والذرء الذي هو ظاهر في نفسه مظهر لطرق الاهتداء ، وكذلك الأمر في النار المخلصة من رتبة ظلمتها التي هي غايتها بالرماد ، وابتداؤها بما يخرج منه من شجر وحديد وحجر .
ولما كان هذا الحرف اسماً لما به ظهور أمر لم يختص بشيء من المظهرات دون آخر ، بل شمل النور والحاسة والمراد والمادة ، ولذلك كان مع الكاف الذي هو علم التكوين سبب ظهور كل شيء .
{ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }[ النحل : 40 ] ولصدقه على كل{[67234]} مظهر فسره ابن عباس رضي الله عنهما بالدواة ، ففسر بما يستمد منه القلم ، وليلحظ موقعه في نجد ، فإنه اسم لما ارتفع من الأرض ، وظهر في نفسه وأظهر غيره ، وفي نهود الجارية وهو ظهور نهدها ، {[67235]}وفي{[67236]} النهب وهو ما أخذ أخذاً ظاهراً كما قال صلى الله عليه وسلم{[67237]} " ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم " وفي النفخ والنفع والنصر والنقر والنقب وما أشبهها ، فإنها كلها ظهور وإظهار كالنم والمن والنمء . ولأجل علوه واستبطانه وأنه استغراق المظهر المبين كانت إقامته {[67238]}يتعالى{[67239]} الألف وهو الواو وانتهاؤه إلى مثل ما بدأ به ، ولكون الميم تماماً كان قوامه بمتنزل كالألف التي هي الياء{[67240]} في قولك ميم ، ولرجوع الواو إلى علو الألف كان عمادها الألف في قولك " واو " وهذه الحروف الثلاثة ظاهرة في عالمين ظاهرهما المبدوء به{[67241]} وباطنهما المختوم به ، فالنون الأولى يعبر بها عن نور الأبصار ، والخاتمة يعبر بها عن نور القلب ، ولما كان الهاء وتر الدال ، وكان محيطاً باطناً غيباً ، وجب أن يكون محل تضعيفه بالياء محل محيط باطن{[67242]} نازل الرتبة في الغيب عن الهاء لوقوعه في رتب العشرات وهو النون ، فكان ظاهراً بالإضافة {[67243]}إلى خفاء الهاء باطناً بالإضافة{[67244]} إلى ظهور الميم ، فيكون بالنون ظهور الميم المعبر عن " الملك " الذي سبق في السورة الماضية ، كما كان{[67245]} شهادة الدال وثبوته بالهاء .
ولذلك انبنى تمام كل عمل على نور علم ، كما كان قوام ظاهر كل دال غير هاء ، وكان النون مداداً{[67246]} لمثل العلم الذي يظهر صورها بسطر القلم ، حتى أن آية ما بطن منه فأظهره القلم ، هو ما بطن دون الأرض من النون الذي عليه الأرض ، الذي أول ما يطعمه أهل الجنة زيادة كبده مع الثور الذي عليه الأرض أيضاً{[67247]} الذي يذبح لهم - على ما ورد في الخبر ، وقابل استبطان النون في الأرض ظهور القاف على ظاهرها ، الذي هو جبل الزبرجد المحيط بالدنيا ، وعن ذلك الاستيلاء على القلوب في الدنيا إنما يكون بالعلم الذي هو حقيقة نون ، كما أن الاستيلاء على الأجسام في ظاهر الدنيا إنما يكون بالقدرة التي هي حقيقة قاف ، على ما يظهر من إجالتي العلماء في النون الأبطن ، والملوك في القاف الأظهر ، وهذان الصنفان{[67248]} من الخلق هما المستوليان على الناس بالأيالة ونفوذ الأمر ، ولذلك أقيم المفصل من القرآن بحرفي قاف ونون ، واقترن أيضاً هذان{[67249]} الحرفان في كلمة القرآن ولفظ الفرقان اللذين هما في ظواهر أسمائه ، وإنما كان أول ما يطعمه أهل الجنة من الثور الذي عليه الدنيا الذي كان{[67250]} يرعى في أطراف الجنة - على ما ورد عنه عليه أفضل الصلاة والسلام ، لأن صورة الثور هي معنى ما هو الكد والكدح{[67251]} وجهد{[67252]} العمل في الأرض الذي قام عليه أمر الدنيا ، ولما كان أهل الدنيا أول ما يراحون منه من أمر الدنيا تقديم أمر الكد بين يدي معاشهم في الجنة ، كان الذي يذبح{[67253]} لهم الثور الذي هو صورة كدهم فيأكلونه ، فهو جزاء ما عملوا به في دنياهم من حيث كانوا ذوي دين ، فاستحقوا بذلك جزاء كدهم بما هو صورته ، وأضيف لذلك زيادة{[67254]} كبد النون التي{[67255]} هي صورة حظهم من أصل العلم ، فأطعموها وجوزوا بها ، وروعي في أعمالهم حسن نيتهم في أصل دينهم ، فلما أتوا عليهما استقبلوا الراحة والخروج عن الكلفة في معاشهم في الجنة ، والذي جرهم به سبحانه إلى سني هذه الرتبة ما أتقنه بحكمته من ثناء المفصل القرآني على حرفي القاف الذي به {[67256]}القوة والقهر{[67257]} والقدرة ، والنون الذي به إظهار ذلك للعقل بنور العلم ، و{[67258]}ذلك أن القرآن نزله سبحانه مثاني ، ضمّن ما عدا المفصل منه الذي هو{[67259]} من قاف إلى خاتمة الكتاب العزيز ، وفاتحته ما يختص بأولي العلم والفقه من مبسوطات الحكم ومحكمات الأحكام ومطولات الأقاصيص ومتشابه الآيات ، والسور المفتتحة بالحروف العلية{[67260]} الإحاطة الغيبية المنحى المستندة إلى آحاد الأعداد ، مما يختص بعلم ظاهرها خاصة الأمة ، ويختص بأمر باطنها آل محمد صلى الله عليه وسلم ، فلعلو رتبة إيراد ما عدا المفصل ثنى {[67261]}الحق تعالى{[67262]} الخطاب وانتظمه في سور{[67263]} كثيرة العدد يسيرة عد الآي هي المفصل ، ذكر فيها من أطراف القصص والمواعظ والأحكام والأنباء وأمر الجزاء ، ما يليق بسماع العامة ليسهل عليهم سماعه ، وليأخذوا بحظ مما أخذ الخاصة ، ويتكرر على أسماعهم في قراءة الأئمة له في الصلوات المفروضة{[67264]} التي لا مندوحة لهم عنها ما يكون لهم خلقاً مما يفوتهم من مضمون سائر السور المطولات ، فكان أحق ما افتتح به مفصلهم حرف القاف الذي هو وتر الآحاد حتى صارت عشرة ، ثم إذا ضربت{[67265]} في نفسها صارت مائة ، فافتتح به المفصل ، ليكون مضمون ما يحتوي عليه أظهر مما يحتوي عليه ما افتتح ب الم ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقرأ في خطبة يوم الجمعة سورة " ق " {[67266]} فيفتتح للعامة المتوجه بخطبة يوم الجمعة إليهم ، لأنها صلاة جامعة الظاهر بفاتحة المفصل الخاص ، وفي مضمونها من معنى القدرة والقهر المحتاج إليه في إقامة أمر العامة ما فيه كفاية ، وشفعت بسورة " ن " {[67267]} المظهرة ظاهر " ق " فخصوا بما فيه القهر والإبانة ، واختصت سورة " ن " من مقتضى العلم بما هو محيط بأمر العامة المنتهي إلى غاية الذكر الشامل للعالمين ، لأن القوة المعربة عن العلم ، ربما كان ضررها أكثر من نفعها ، كما قال بعض السلف : كل عز لم يوطده علم فإلى ذل يؤول ، وكما كان جميع السور{[67268]} التسع والعشرين المفتتحة بالحروف المتضمنة للمراتب التسع في التسعة وللعاشر الجامع للمراتب التسع بإيتار{[67269]} آحادها ، والعاشر الجامع يضرب العشر الموتر في نفسه قواماً وإحاطة في جميع القرآن ، كذلك كانت سورة " ق " وسورة " ن " قواماً خاصاً وإحاطة{[67270]} خاصة بما يخص العامة من القرآن الذي يجمعهم الأرض بما أحاط من ظاهرها من صورة جبل " ق " وما أحاط بباطنها من صورة حيوان " ن " الذين تمام أمرهم بما بين مددي إقامتهما{[67271]} ، وبهذه السورة المفتتحة بالحروف{[67272]} ظهر اختصاص القرآن وتميز عن سائر الكتب لتضمنه الإحاطة التي لا تكون إلا {[67273]}للخاتم الجامع{[67274]} ، واقترن من التفصيل في سورها ما يليق بإحاطتها ، ولإحاطة معانيها وإبهامها كان كل ما فسرت به من معنى يرجع إلى مقتضاها صحيحاً في إحاطتها بمتنزلها{[67275]} من أسماء الله وترتبها في{[67276]} جميع العوالم ، فلا يخطىء فيها مفسر لذلك ، لأنه كلما قصد وجهاً من التفسير لم يخرج عن إحاطة ما يقتضيه ، ومهما فسرت به من{[67277]} أسماء الله أو من أسماء الملائكة أو من أسماء الأنبياء ، أو من مثل{[67278]} الأشياء أو صور الموجودات ، أو من أنها أقسام أقسم بها أو فواتح عرفت بها{[67279]} السور أو{[67280]} أعداد تدل على حوادث وحظوظ من ظاهر الأمر أو{[67281]} باطنه على اختلاف رتب وأحوال ، مما أعطيه المنزل عليه صلى الله عليه وسلم من مقدار أمد الخلافة والملك والسلطنة ، وما ينتهي إليه أمره من ظهور الهداية ونحو ذلك مما يحيط بأمد يومه إلى غير ذلك وكل داخل في إحاطتها ، ولذلك أيضاً لا يختص بمحل مخصوص يلزمه علامة إعراب مخصوصة ، فمهما قدر{[67282]} في مواقعها من هذه السور{[67283]} جراً أو رفعاً أو نصباً فداخل في إحاطة رتبتها ولم يلزمها{[67284]} معنى خاص لما لم يكن لها انتظام ، لأنها{[67285]} مستقلات محيطات ، وإنما ينتظم {[67286]}ما يتم معنى{[67287]} كل واحد من المنتظمين بحصول الانتظام ، وذلك يختص من الكلم بما يقصر{[67288]} عن إحاطة مضمون الحروف حتى أنه متى{[67289]} وقع استقلال وإحاطة في كلمة لم يقع فيها انتظام{[67290]} .
ولما كان قوام هذا الوجود بالسيف والقلم ، وكان " نون " {[67291]} مشتركاً بين معان منها السيف والدواة التي هي آلة القلم ، واللوح الذي هو محل ما يثبت {[67292]}من العلم{[67293]} ، وكان السيف قد تقدم في حيز القاف الذي افتتحت به سورة " ق " كما هو أنسب لتضمنه{[67294]} القوة والقدرة والقهر{[67295]} في سورة الحديد بعد الوعظ والتهديد والتذكير بالنعم في السورة الواقعة بينهما ، ذكر هنا ما هو لحيز النون من آية العلم فقال مقسماً بعد حرف " ن " {[67296]} : { والقلم } أي قلم القدرة الذي هو أول ما أبدعه الله ، ثم قال له : اكتب ، فخط جميع الكائنات{[67297]} إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ حقيقة ، وفي ألواح صفحات الكائنات حالاً ومجازاً ، فأظهر جميع العلوم ، ثم ختم على فيه فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة ، والذي يكتب فيه{[67298]} الخلق ما نولهم الله من تلك المعارف والفهوم ، وذلك هو قوام أمور الدنيا ، والإشارة به إلى القضاء الذي هو من نتائج " ن " لأنه من مصنوعات{[67299]} الله الظاهرة التي اقتضت{[67300]} حكمته سبحانه إيجادها ووجهه إلى تفصيل ما جرى به الحكم .
ولما كان الحاصل بالقلم من بث الأخبار ونشر العلوم على تشعبها والأسرار ما يفوق الحصر ، فصار{[67301]} كأنه العالم المطيق واللسن المنطيق ، وكان المراد به الجنس أسند إليه كما يسند إلى{[67302]} العقلاء فقال : { وما يسطرون * } أي قلم القدرة ، وجمعه وأجراه مجرى أولي العلم للتعظيم لأنه فعل أفعالهم ، أو الأقلام على إرادة الجنس ، ويجوز أن يكون{[67303]} الإسناد إلى الكاتبين به لما دل عليهم من ذكره ، إما الملائكة إن كان المراد ما كتب في الكتاب المبين واللوح المحفوظ وغيره مما يكتبونه ، وإما كل من يكتب منهم ومن غيرهم حتى أصحاب الصحيفة الظالمة التي تقاسموا فيها على أن يقاطعوا بني هاشم ومن{[67304]} لافهم ، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعون به ما شاؤوا ، وكيف ما كان فهو إشارة إلى المقدر {[67305]}لأنه إنما{[67306]} يسطر ما قضى به وحكم .